في كل سنة يعود عيد الاستقلال المجيد ليعيد إلى الاذهان مسارا وطنيا طويلا لم يصنع في يوم واحد، بل تشكل عبر سنوات من النضال والوعي الوطني والتلاحم بين العرش والشعب. ومن بين الشهادات التاريخية التي تضيء تلك المرحلة، تبرز جريدة “الامة” التي كانت تصدر بتطوان خلال سنوات 1952 الى 1956 باعتبارها منبرا وطنيا رائدا رصد بعناية تفاصيل معركة التحرير ومشاهد الاستقلال وتفاعلات الشمال المغربي مع الاحداث.

لم تكن “الامة” مجرد صحيفة اخبارية، بل كانت صوتا لوجدان المغاربة في منطقة الشمال، توثق ما يجري، وتفسره، وتقف عند دلالاته. وما زالت مقالاتها المنشورة في تلك الفترة شاهدة على تحول كبير بدأ مع نفي الملك محمد الخامس، ومر عبر المقاومة الوطنية في كل مناطق المغرب، وصولا الى اللحظة المفصلية التي استعاد فيها الوطن استقلاله وكرامته.
لحظة 2 مارس 1956: ساعة استعادة السيادة
في احد اعدادها التاريخية، وضعت جريدة “الامة” عنوانا ضخما على الصفحة الاولى:
“على الساعة 4:50 دقيقة من عشية 2 مارس 1956 استعاد الوطن استقلاله”
هذا العنوان ليس مجرد خبر، بل هو تحديد واع لساعة دقيقة يبدو انها بقيت محفورة في ذاكرة الصحيفة وقراء تلك المرحلة. ففي مقال مطول، تسرد “الامة” مسار المفاوضات، والظروف السياسية التي سبقت الاعلان، والرمزية العميقة للتوقيع الذي اعترف باستقلال المغرب بعد سنوات طويلة من الحماية والهيمنة الاستعمارية.
وتبين الجريدة ان هذا الحدث جاء نتيجة تضحيات جسيمة، وتكامل بين العمل المسلح والعمل السياسي، ونضال الحركة الوطنية من اجل ارجاع الملك الى عرشه الشرعي. فالاستقلال لم يكن منحة، بل كان ثمرة مسار وطني طويل عنوانه المقاومة والصمود.
بين 2 مارس و18 نونبر: من الاتفاق الى اكتمال الاستقلال
تكشف الارقام اللاحقة للجريدة ان الاستقلال لم يكن قرارا لحظيا، بل مسارا متدرجا. ففي كل عدد، كانت “الامة” تعود لنشر تفاصيل البروتوكولات والاتفاقيات، وتحلل مضامينها، وتبين ما تحقق وما تبقى من تحديات.
وتشير الجريدة الى ان يوم 18 نونبر 1956 يمثل تتويجا لمسار بدأ فعليا يوم 2 مارس، ثم تلاه بناء مؤسسات الدولة الوطنية، وتأسيس الادارة المغربية، وتوحيد الجيش، وبداية خطوات استكمال الوحدة الترابية وانهاء مخلفات الحماية.
وبين هذين التاريخين، كانت الصحافة الوطنية ومنها “الامة” ترافق الوعي الشعبي في فهم معنى السيادة، ومعنى ان يصبح المغرب بلدا مستقلا لا تتحكم في قراراته اي قوة اجنبية.

زيارة محمد الخامس لتطوان: عودة روح الوحدة
من بين المقالات الاكثر رمزية، ما نشرته “الامة” حول زيارة جلالة الملك محمد الخامس الى تطوان بعد شهر من اعلان الاستقلال. وقد جاء عنوان الجريدة واضحا:
“المغرب كله يجتمع في صعيد تطوان ليستقبل جلالة الملك زعيم الاستقلال والوحدة”
هذا العنوان يحيل على مشهد غير مسبوق: تطوان، التي كانت عاصمة المنطقة الخاضعة للحماية الاسبانية، تستقبل الملك بصفته رمز الحرية ووحدة البلاد. وفي التفاصيل، تسجل الجريدة كيف خرجت الوفود من كل قبائل الشمال، وكيف اصطف المواطنون بالمئات والالاف لاستقبال الملك.
وتصف الجريدة الزينة التي اكتست بها الشوارع، والرايات الوطنية، والهتافات التي جمعت بين تمجيد الاستقلال والوفاء للعرش. كما نشرت صورة كبيرة للملك المغربي بلباسه التقليدي، تحت عنوان بارز:
“محمد الخامس محقق الاستقلال وبطل الوحدة”
لقد شكلت الزيارة، كما تظهرها الجريدة، لحظة اندماج رمزي للشمال مع باقي التراب الوطني بعد عقود من التقسيم الاستعماري. وكانت اعلاناً بان الوحدة الوطنية ليست شعارا، بل فعلا سياسيا وشعبيا تجسد امام اعين الجميع.

الصحافة الوطنية كفاعل في معركة التحرر
تكشف قراءة هذه المقالات ان جريدة “الامة” كانت اكثر من وسيلة اعلام. لقد لعبت دور المدرسة الوطنية التي تشرح للناس معنى الاستقلال، وتربط بين الاحداث، وتوضح خلفياتها. ومن خلال مجموعة من الزوايا، عملت الجريدة على:
• توثيق التوقيع على اتفاقية الاستقلال بلغة بسيطة يفهمها المواطن.
• نشر بيانات الحركة الوطنية، وخاصة حزب الاصلاح الوطني، والتي كانت تدعو الى الوحدة والتعبئة.
• تحليل البروتوكولات والاتفاقيات الجديدة التي نظمت العلاقة مع فرنسا بعد نهاية الحماية.
• تغطية كل لحظات الفرح الشعبي وعودة الملك الى مختلف المدن، وخاصة تطوان.
• بلورة خطاب وطني يرسخ فكرة ان العرش والشعب جسد واحد في مواجهة الاستعمار.
وبذلك ساهمت الجريدة في تشكيل وعي جماعي بأن الاستقلال ليس حدثا عابرا، بل بداية تأسيس دولة حديثة لها سيادتها ونظامها ومؤسساتها.
تطوان في قلب لحظة الاستقلال
من خلال التغطيات التي نشرتها الجريدة، يظهر واضحا ان تطوان لم تكن مجرد متفرج على احداث الوطن. فقد كانت مسرحا لعدد من اللحظات التاريخية:
• فيها خرجت الجماهير تحتفل بتوقيع اتفاق الاستقلال.
• منها صدرت بيانات الاحزاب الوطنية التي تفاعلت مع الحدث.
• وفيها استقبل الملك محمد الخامس استقبال الابطال، في مشهد قالت عنه الجريدة: “المغرب كله كان هنا”.
كما ان جريدة “الامة” نفسها كانت منبرا يعبر عن تطوان واهلها، وعن ارتباط المدينة الوثيق بالقضية الوطنية، ودورها في الدفاع عن وحدته الترابية.
الامة والتاريخ .. ذاكرة لا تموت
ان اعادة نشر هذه المقالات اليوم ليس عملا توثيقيا فحسب، بل هو دعوة للتأمل في معاني الاستقلال، وفي الدور الذي لعبته الصحافة الوطنية في ترسيخه، وفي مكانة تطوان التي كانت دائما في قلب الاحداث الكبرى.
فالاستقلال كان بداية عهد جديد، وليس نهايته. وقد حملت الدولة المغربية منذ ذلك اليوم همّ البناء والتحديث، وحمل الشعب المغربي قيم الوفاء والوفاق الوطني التي جمعته مع ملكه في اصعب الظروف.
تحية لكل رجال المقاومة والحركة الوطنية وجيش التحرير، وتحية لروح محمد الخامس والحسن الثاني، وتجديد للعهد مع صاحب الجلالة الملك محمد السادس من اجل مواصلة مسيرة الوحدة والتنمية.





