مقالات الرأي

 قراءة نقدية في تصنيف الجماعات واحتساب ضريبة الأراضي غير المبنية

محسن الشباب

أصدرت وزارة الداخلية دورية جديدة تلزم الجماعات الترابية بـ تصنيف مجالاتها إلى ثلاث مناطق (أ، ب، ج)، وربط الضريبة على الأراضي غير المبنية بمستوى الخدمات الأساسية المتوفرة في كل منطقة، كالطرقات، والإنارة، والنظافة، والتطهير.
ورغم أن الدورية تبدو –من حيث الشكل– محاولة لتوحيد التأطير الجبائي، إلا أنها أثارت نقاشاً قانونياً واسعاً يتعلق بـ انسجامها مع الدستور، ومبدأ التدبير الحر، ومع فلسفة العدالة الجبائية.
هنا سنقدم قراءة شاملة في الخلفيات القانونية والإشكالات الجبائية والتداعيات السياسية التي تطرحها هذه الدورية، ويكشف كيف يمكن لحقوق دستورية أن تتحول إلى “معايير” تحدد ثمن الضريبة، وكيف يمكن للدوريات أن تعيد المركزية من النافذة بعد خروجها من الباب.
أولاً: الخدمات الأساسية ليست معياراً جبائياً… وهي أصلاً ليست مجانية
تعتبر الدورية مستوى التجهيزات (طريق، إنارة، نظافة، تطهير) معياراً لتحديد قيمة الضريبة، مع أن هذه الخدمات ليست لا امتيازات ولا “إضافات”، بل حقوق دستورية وواجبات إلزامية على الجماعات بنص الفصل 31 من الدستور.
والأهم من ذلك:
هذه الخدمات ليست مجانية أصلاً حتى تُتخذ مبرراً لرفع أو خفض الضريبة.
فالمواطن يؤديها عبر:
رسوم النظافة و فواتير الكهرباء
رسوم التطهير السائل ضمن فاتورة الماء
رسوم الربط بالماء والكهرباء التي يؤديها من ماله الخاص؛
رسوم الربط بالتطهير؛
واجبات الحصول على الرخص؛
ضرائب أخرى تمول تجهيز الجماعة برمتها.
وبالتالي، القول إن مستوى هذه الخدمات يجب أن يحدد قيمة الضريبة هو خلط بين الضريبة وبين الرسوم، بل هو تحميل المواطن رسوماً جديدة مقابل خدمات سبق أن دفع ثمنها فعلاً.
وفق منطق الدورية
الحي المهمش ضريبته أقل لأنه مهمّش…
والحي المجهّز ضريبته أعلى لأنه حصل على الخدمات التي دفعها أصلاً في فواتيره!
هذا غير منسجم لا قانونياً ولا منطقياً، لأنه يحول الضريبة من أداة للتضامن إلى ثمن إضافي للخدمة.
ثانياً: التعارض مع مبدأ التدبير الحر
الفصل 140 من الدستور يمنح الجماعات الترابية الحق في التدبير الحر لشؤونها، بما في ذلك القرار المالي والجبائي. كما تمنح المادتان 82 و83 من القانون التنظيمي 113.14 للمجلس الجماعي سلطة تحديد الأسعار والتصنيف والمقررات الجبائية.
لكن الدورية
تفرض تصنيفاً إلزامياً
تحدد معايير دقيقة وموحدة
تؤثر مباشرة على الوعاء الجبائي
تسحب عملياً سلطة التقدير من المجلس
وبذلك تتحول من نص توجيهي إلى تعليمات ملزمة تمس جوهر التدبير الحر.
الدورية ليست غير قانونية لكنها لا تنسجم دستورياً مع فلسفة اللامركزية والجهوية المتقدمة لأنها تقلّص مجال القرار المحلي وتعطي سلطة أكبر للإدارة المركزية على حساب المنتخبين.
ثالثاً: مخاطر واقعية في التطبيق
تنزيل الدورية على أرض الواقع سيخلق إشكالات عدة، منها:
تفاوت التجهيزات داخل نفس الحي
غياب معايير تقنية دقيقة لقياس جودة الإنارة أو الطرق
قابلية القرارات للطعن أمام المحاكم الإدارية
ضغط اللوبيات العقارية لإعادة التصنيف
إرباك عمل الإدارة الجبائية المحلية
زعزعة ثقة المواطنين في عدالة النظام الجبائي
وبذلك، فإن محاولة التوحيد قد تتحول إلى مصدر فوضى واختلالات جديدة.

رابعاً: الدورية تُسعِّر الحقوق وتُقيد التدبير الحر

الحقوق الأساسية ليست سلعة.
والخدمات التي يؤديها المواطن في فواتيره ليست مبرراً لرفع الضريبة.
والجماعات ليست إدارات تابعة لوزارة الداخلية، بل مؤسسات دستورية منتخبة يفترض أن تتخذ قراراتها باستقلالية.
إن الدورية تكرس:
عودة للمركزية بلباس تقني
تحويل الحقوق الأساسية إلى أثمان
تقليص سلطة المجالس المنتخبة
شرعنة الفوارق الترابية
تحميل المواطن أثمان خدمات سبق أن دفعها
الحل ليس في التصنيف، بل في:
رقمنة الخرائط الجبائية
تحديث الوعاء الجبائي
توجيه عائدات الضريبة نحو المناطق الناقصة التجهيز
محاربة المضاربة العقارية
منح الجماعات حرية أكبر في القرار المالي

الدورية تطرح سؤالاً مركزياً:
هل نحن أمام إصلاح جبائي… أم أمام إعادة إحياء للوصاية المركزية؟
هي خطوة قانونية شكلاً، لكنها غير منسجمة دستورياً وجبائياً مع مبادئ العدالة والتدبير الحر، لأنها تسعّر الحقوق وتحمّل المواطن تكلفة خدمات سبق أن دفعها، وتعيد المركزية إلى مجال يفترض أن يكون محلياً بامتياز.

زر الذهاب إلى الأعلى