المغرب الصاعد: بين الرؤية الملكية المتبصّرة ووهج الجيل الجديد — قراءة تحليلية في الخطاب الملكي الأخير وتفاعلات جيل “زد
المقدمة: المغرب في لحظة مفصلية من تاريخه الحديث
يعيش المغرب اليوم مرحلة دقيقة من تاريخه السياسي والاجتماعي، تتقاطع فيها رهانات التنمية، ومتغيرات الجيل الرقمي، مع التحديات الاقتصادية والجيوسياسية في محيط إقليمي مضطرب.
وفي خضم هذه التحولات، برز مفهوم “المغرب الصاعد” كمصطلح يُعبّر عن مسار متجدد للدولة المغربية، يقوم على ترسيخ النموذج التنموي الجديد، وتثمين الاستقرار السياسي، وتحفيز المبادرات الفردية والجماعية لبناء مغرب الغد.
الخطاب الملكي الأخير، الذي ألقاه جلالة الملك محمد السادس في افتتاح السنة التشريعية الأخيرة من الولاية البرلمانية الحالية، جاء ليضع هذا المفهوم في سياقه الحقيقي: رؤية ملكية استراتيجية تتجاوز الظرف السياسي لتؤسس لمرحلة من النضج الوطني والإداري والمؤسساتي، في مقابل بروز أسئلة مجتمعية جديدة تُعبّر عنها الاحتجاجات الشبابية المتفرقة، ولا سيما تلك التي تحركها فئة “جيل زد”، جيل وُلِد في أحضان الثورة الرقمية ويطالب اليوم بمكانته ضمن المشروع الوطني.
ولمقاربة هذا الموضوع، نستحضر عشر محطات تنطلق من محاور الخطاب الملكي الأخير، مرورًا بواقع جيل رقمي جديد يطمح إلى الارتقاء بالخدمات الأساسية إلى مستوى جديد، متنوع ومتطور، يتماشى مع سرعة الرؤية والإنجاز والتطور التي تشهدها قطاعات تنموية أخرى.
⸻
أولًا: الخطاب الملكي… رؤية متجددة لمغرب ينهض بثقة
يمثل الخطاب الملكي في النظام السياسي المغربي أداة توجيهية كبرى، تجمع بين الوظيفة الدستورية والرمزية الوطنية، وتعبّر عن البوصلة التي تحدد مسار الدولة في مختلف المجالات.
الخطاب الأخير لم يكن استثناءً، إذ تميز بنبرة تقويمية وواقعية في آنٍ واحد، حيث حرص جلالة الملك على الإشادة بالجهود المبذولة، دون أن يغفل الدعوة إلى مزيد من الجدية والانخراط المسؤول في خدمة المصلحة الوطنية.
لقد ركّز الخطاب على ثلاث ركائز أساسية:
1. ترسيخ قيم الجدية والمسؤولية في العمل العمومي والسياسي.
2. تقييم الأداء البرلماني والمؤسساتي بما يضمن النجاعة في التشريع والمراقبة.
3. تثمين دور الدبلوماسية البرلمانية في الدفاع عن القضايا الوطنية، وعلى رأسها القضية الوطنية الأولى.
ومن خلال هذه المحاور، يظهر أن الخطاب الملكي لم يكن مجرد توجيه سياسي، بل إعلانًا عن مرحلة جديدة من التفكير في الدولة، مرحلة تتجاوز منطق التسيير إلى منطق الفعالية، وتعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس المسؤولية المشتركة والمواطنة الفاعلة.
⸻
ثانيًا: المغرب الصاعد… من الرؤية إلى الفعل
منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش، تعرف المملكة مسارًا تصاعديًا في مجالات التنمية، والبنية التحتية، والعدالة الاجتماعية، والرقمنة، والسياسة الخارجية.
لكن مصطلح “المغرب الصاعد” الذي ترسخ في السنوات الأخيرة، لا يشير فقط إلى تقدم اقتصادي ملموس، بل إلى تحول بنيوي في النموذج المغربي، يقوم على قيم الاستقرار، والابتكار، والانفتاح.
فمن ميناء طنجة المتوسطي إلى المشاريع الصناعية الكبرى في القنيطرة والدار البيضاء، ومن التحول الطاقي في الصحراء المغربية إلى الثورة الرقمية التي تمس الإدارة والخدمات، تتجلى ملامح دولة تتقدم بخطى ثابتة نحو الريادة الإقليمية.
ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر هو تحقيق العدالة المجالية والاجتماعية، وربط ثمار التنمية بحياة المواطنين، لا سيما الشباب الذين يشكلون أكثر من ثلث المجتمع المغربي.
⸻
ثالثًا: جيل “زد”… ملامح ووعي جديد في المشهد المغربي
ظهر جيل “زد” — أي الشباب المولودون بين منتصف التسعينيات وبداية الألفية الثالثة — كقوة اجتماعية جديدة تمتلك أدوات تعبير غير تقليدية، وتشكّل وعيها في عالم مفتوح وسريع الإيقاع.
هذا الجيل لا يتحدث بلغة الأيديولوجيات القديمة، ولا يتحرك وفق الولاءات التنظيمية الكلاسيكية، بل يعيش في عالم رقمي عابر للحدود، يرى الواقع من خلال شاشات هاتفه، ويتفاعل سياسيًا عبر المنصات الافتراضية أكثر مما يفعل في الميادين.
ومع أن جزءًا من احتجاجاته الأخيرة عبّر عن سخط اجتماعي واقتصادي مشروع، فإن عمق الظاهرة يتجاوز المطالب الآنية إلى تعبير عن أزمة ثقة وأفق.
جيل “زد” يريد دولة أكثر تواصلاً، وسياسات أكثر شفافية، وفرصًا واقعية للترقي الاجتماعي، بعيدًا عن الخطابات النمطية أو الوعود المتكررة.
⸻
رابعًا: الخطاب الملكي وقلق الجيل الجديد — تفاعل الدولة والمجتمع
من الملاحظ أن الخطاب الملكي الأخير لم يتجاهل التحولات الاجتماعية التي يعرفها المغرب، بل تعامل معها بعقلانية وهدوء استراتيجي، واضعًا الأصبع على جوهر الإشكال لا على مظاهره.
فحين شدّد جلالته على ضرورة الجدية واليقظة، لم يكن يخاطب الطبقة السياسية فحسب، بل أيضًا جيل الشباب الذي يشهد انفتاحًا كبيرًا على العالم، ويعيش أحيانًا حالة من القلق أو فقدان الثقة في جدوى المشاركة المؤسساتية.
هذا القلق الشبابي لا يمكن قراءته خارج سياق التحولات العالمية. فجيل “زد” في كل مكان — من باريس إلى الرباط، ومن مدريد إلى الدار البيضاء — يعيش نوعًا من التنافر بين سرعة وعيه وإيقاع المؤسسات التقليدية.
إنه جيل متصل دائمًا، سريع الإدراك، يملك أدوات تعبير متعددة، لكنه يجد نفسه أمام مؤسسات بطيئة في الإصغاء، وأحيانًا غير قادرة على استيعاب دينامية لغته ومطالبه.
من هذا المنطلق، يُقرأ الخطاب الملكي كدعوة إلى إعادة بناء جسور التواصل بين الدولة وشبابها. فالمطلوب اليوم ليس فقط إصلاح المؤسسات، بل أيضًا تجديد فلسفة التفاعل العمومي، عبر خلق مساحات للحوار والمشاركة الحقيقية، تُمكّن الشباب من المساهمة في صياغة السياسات العمومية، بدل الاكتفاء بموقع المتفرّج أو المحتج.
⸻
خامسًا: السياسات الشبابية بين الخطاب والممارسة
تُظهر الدراسات الوطنية الحديثة حول الشباب وجود فجوة متزايدة بين الخطاب السياسي حول “تمكين الشباب” وواقع تنفيذ البرامج والسياسات الموجّهة إليهم.
ففي حين تشدد الوثائق الرسمية على أهمية الإدماج الاقتصادي والسياسي، لا تزال الإكراهات البنيوية — من بطالة، وضعف منظومة التعليم والتكوين، وغياب العدالة المجالية — تحدّ من فاعلية هذه السياسات.
وقد أشار جلالة الملك في خطابات سابقة إلى أن الشباب ليسوا مشكلة تحتاج إلى حلول، بل طاقة تحتاج إلى توجيه وتأطير.
ومن هنا تبرز أهمية تجديد النموذج التأطيري، ليس عبر المزيد من الهياكل الإدارية، بل من خلال رؤية شمولية تدمج التعليم، والتكوين، والابتكار، وريادة الأعمال، في إطار مشروع وطني موحد.
فالجيل الجديد لا يبحث عن الشعارات، بل عن أدوات واقعية لبناء ذاته، وعن دولة تُشركه في الحلم، لا تُلقّنه إياه.
⸻
سادسًا: التحول الرقمي… بوابة الثقة الجديدة
أحد المداخل الجوهرية لبناء “المغرب الصاعد” هو التحول الرقمي الذي جعل من المملكة نموذجًا متقدمًا في المنطقة الإفريقية والعربية.
فالتحول الرقمي ليس مجرد مكسب تقني، بل هو أداة لإعادة توزيع الثقة بين المواطن والإدارة. فكلما أصبحت الخدمات أكثر شفافية وسرعة ونجاعة، زادت ثقة المواطن في مؤسساته.
جيل “زد” بطبيعته جيل رقمي، يعيش في فضاء المعلومات المفتوح، ويفكر بلغة التطبيقات والمنصات.
إن إشراك هذا الجيل في استراتيجية الرقمنة — سواء عبر برامج الابتكار التكنولوجي أو منصات المشاركة الإلكترونية — يشكل جسرًا جديدًا لدمقرطة القرار العمومي، وهو ما يتقاطع مع الرؤية الملكية التي تدعو إلى استثمار الثورة التكنولوجية في خدمة العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
⸻
سابعًا: الاحتجاجات الشبابية… تعبير عن وعي لا عن فوضى
الاحتجاجات التي عرفتها بعض المدن المغربية مؤخرًا، والتي شارك فيها شباب من جيل “زد”، يجب أن تُقرأ بعين الفهم لا بعين الاتهام.
فهي ليست بالضرورة مؤشرًا على انفلات اجتماعي، بل علامة على تغير في أساليب التعبير عن الرأي والمطالبة بالحقوق.
جيل اليوم لا يلجأ إلى القنوات الكلاسيكية التي كانت مألوفة في الماضي، بل يوظف المنصات الرقمية، والفيديوهات القصيرة، وحملات الوسوم (الهاشتاغ) كأدوات ضغط رمزية وأحيانًا مؤثرة.
وهنا تبرز مسؤولية النخب السياسية والإعلامية في تأطير هذا الوعي الرقمي وتحويله إلى وعي مدني.
فالخطاب الملكي، في جوهره، استشعر هذه التحولات، فدعا إلى “اليقظة والجدية”، أي إلى إدماج هذا الجيل لا عزله، وإعطائه دورًا فاعلًا في صنع القرار بدل تركه رهين الإحباط أو التهميش.
⸻
ثامنًا: الدولة الاجتماعية… الإطار الحامي لمسار الصعود
في السنوات الأخيرة، أطلق المغرب ورشًا تاريخيًا لبناء الدولة الاجتماعية من خلال تعميم الحماية الاجتماعية، وإصلاح منظومة الصحة والتعليم، ودعم الفئات الهشة.
هذا الورش الاستراتيجي ليس فقط مشروعًا اقتصاديًا، بل عقدًا اجتماعيًا جديدًا بين الدولة والمواطنين.
وفي هذا السياق، تأتي توجيهات جلالة الملك كإطار يربط بين العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية في رؤية واحدة متكاملة.
فالدولة الاجتماعية تمثل الركيزة الأخلاقية والسياسية لمفهوم “المغرب الصاعد”، لأنها تضمن ألا يتحول النمو إلى امتيازات طبقية، بل إلى تحسين ملموس في جودة الحياة لجميع المواطنين، خصوصًا فئة الشباب التي تعاني من هشاشة اقتصادية واضحة.
⸻
تاسعًا: البعد الدبلوماسي للمغرب الصاعد — الحضور في عالم متغير
لا يمكن الحديث عن “المغرب الصاعد” دون التوقف عند البعد الدبلوماسي الذي يشكل أحد أبرز عناصر قوته في العقدين الأخيرين.
فمنذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش، انتقلت السياسة الخارجية المغربية من منطق التفاعل مع الأحداث إلى منطق المبادرة والتأثير، وهو ما جعل المملكة فاعلًا إقليميًا موثوقًا، وشريكًا استراتيجيًا في قضايا الأمن، والهجرة، والتنمية المستدامة.
في الخطاب الملكي الأخير، برزت دعوة صريحة إلى تعزيز الدبلوماسية البرلمانية باعتبارها امتدادًا للدبلوماسية الرسمية، ووسيلة لتقوية حضور المغرب في المحافل الدولية والدفاع عن قضاياه الوطنية.
وهنا تلتقي الفعالية الخارجية مع النجاعة الداخلية في إطار تصور موحد للدولة الحديثة: دولة قوية بمؤسساتها، ومنفتحة بشعبها، ومتوازنة في خطابها.
هذه المكانة الدولية لا يمكن فصلها عن رؤية المغرب لنفسه كقوة صاعدة في إفريقيا، تستثمر في البنية التحتية، والفلاحة، والطاقة، والتعاون جنوب–جنوب
عاشرا: نحو أفق جديد — المغرب والمواطنة الصاعدة
وبهذا المعنى، فإن “المغرب الصاعد” ليس مجرد شعار طموح، بل تجربة سياسية واجتماعية فريدة تمزج بين الاستقرار والإصلاح، بين الطموح والانضباط.
كل المؤشرات تدل على أن المغرب يسير نحو نموذج وطني متميز في إدارة التغيير، قائم على التدرج، والاستمرارية، والجرأة في آنٍ واحد.
فمشروع “المغرب الصاعد” لا يقوم فقط على التنمية الاقتصادية أو الدبلوماسية النشيطة، بل أيضًا على بناء مواطنة جديدة، قائمة على المشاركة والالتزام والوعي بالمسؤولية الجماعية.
جيل “زد” سيكون في صميم هذا التحول، ليس بصفته متلقيًا للسياسات، بل شريكًا فاعلًا في صناعتها.
إن الخطاب الملكي الأخير جاء بمثابة دعوة إلى صحوة جماعية، تذكّر بأن التنمية ليست قرارًا فوقيًا، بل جهدًا وطنيًا مشتركًا يتقاطع فيه ما هو سياسي واقتصادي وثقافي وقيمي.
الخاتمة: وعي جديد ومسار مستمر
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن المغرب يقف اليوم أمام لحظة مفصلية، تتقاطع فيها رؤية ملكية متبصّرة مع تحديات جيل جديد يبحث عن مكانه في وطنه.
الخطاب الملكي الأخير مثّل نقطة التقاء بين هذين البعدين: رؤية الدولة التي تريد مواطنة فاعلة، ومجتمع الشباب الذي يطالب بدولة أكثر عدلًا وفعالية وشفافية.
إن “المغرب الصاعد” ليس مشروعًا حكوميًا ظرفيًا، بل فلسفة دولة بكامل مؤسساتها، تؤمن بأن التنمية الحقيقية تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه.
ولذلك، فإن بناء الثقة، وتجديد الحوار بين الأجيال، وتثمين الكفاءات الشابة، تمثل اليوم المداخل الأساسية لمغرب المستقبل، مغرب يجمع بين الأصالة والحداثة، بين الطموح والمسؤولية، وبين الاستقرار والجرأة على التغيير.