في مقابلة تلفزيونية أُجريت مع العاهل المغربي الراحل الملك الحسن الثاني على شاشة التلفزيون الإسباني ضمن برنامج Informe Semanal بتاريخ9 فبراير 1985، قال جملة تختصر قرونًا من التاريخ المشترك بين البلدين:
“إن الجوار بين المغرب وإسبانيا نعمة… ونقمة في الوقت نفسه”

بهذه العبارة لخص الملك الراحل مفارقة العلاقة بين بلدين لا يفصل بينهما سوى أربعة عشر كيلومترًا من البحر، لكن يجمع بينهما تاريخ طويل من التفاعل والتأثير المتبادل، المفعم بالأمل أحيانًا وبالتوتر أحيانًا أخرى.
القرب الجغرافي كان دائمًا مصدرًا للفرص، ولكنه أيضًا كان سببًا في الخلافات والنزاعات، من الأندلس إلى أيامنا هذه.
تركت إسبانيا بصماتٍ لا تُمحى في شمال إفريقيا؛ ما زالت أسوار تطوان وجبال الريف تحتفظ بصدى الموريسكيين الذين حملوا معهم ثقافتهم وموسيقاهم ومعارفهم إلى الضفة الأخرى.
الذاكرة الجماعية لا تنسى أيضًا الجوانب المظلمة، حرب تطوان سنة 1959، وفترة الحماية الإسبانية على شمال المغرب 1912ـ 1956 وعلى الصحراء المغربية إلى غاية 1975، وباقي الجروح الاستعمارية، والتوترات حول سبتة ومليلية، بل وحتى “حادثة” جزيرة ليلى القصيرة والمثيرة للجدل.
ومع ذلك، ورغم كل المنعطفات المؤلمة أحيانا، فإن شَعْبَيْ الضفتين يشتركان أواصر علاقة أكثر من التي تربط الضفة الشمالية بأوروبا والجنوبية بشمال إفريقيا والعالم العربي. يشتركان في الطبعٍ المنفتحٍ والمضياف، في حبٍّ الحياة والعناد ـ الراس القاسح ـ .
المغاربة الذين عبروا البحر للعمل في إسبانيا سرعان ما اندمجوا في المجتمع الإسباني، وكثير من الإسبان يكتشفون اليوم من خلالهم في المغرب بلدًا قريبًا منهم، مألوفًا، بل يكتشفون فيه جزء من ذاكرتهم.
تدخل العلاقات المغربية-الإسبانية اليوم مرحلة جديدة تتّسم بقدرٍ أكبر من النضج والوعي المتبادل. فالهجرة المغربية في إسبانيا لم تَعُد تُختزل في بُعدها الاجتماعي، أو تُقدَّم باعتبارها إشكالًا يحتاج إلى معالجة، رغم ما تتعرض له أحيانًا من حملاتٍ عنصرية أو محاولات لتوظيفها في الصراع والمنافسة السياسية. لقد أضحى حضور الجالية المغربية في إسبانيا جسرًا إنسانيًا حيًّا يربط بين الشعبين، ويُغني التبادل الثقافي والحضاري بين الضفتين، ويُسهم في بناء مشروعٍ مشتركٍ قائمٍ على الاحترام المتبادل والمصلحة المتقاسمة، بما يُعَزِّز الشراكة ويُعمّق أواصر القرب بين المغرب وإسبانيا.
التعاون الاقتصادي والتجاري يشهد نموًا متسارعًا، من تنظيم كأس العالم 2030 المشترك إلى مشروع النفق تحت مضيق جبل طارق، وصولًا إلى الشراكات في مجالات الطاقة المتجددة والنقل، مما يُبشّر بمستقبل من التعاون والازدهار المشترك.
لم يُقدّر للمغرب وإسبانيا أن يكونا شريكين متكاملين في الماضي البعيد والقريب، لكن المناسبة وحتمية الجوار ترسو الآن في ميناء المُشترك.
تقديري والمؤشرات اليوم أن البحر الأبيض المتوسط يتهيأ ليكون جسرًا بدل أن يظلَّ حدودًا، كما كان في الماضي.
إذا نجح الشعبان في تجاوز الأحكام المسبقة والعداوات القديمة، قد يصبحان لامحالة قوة إقليمية حقيقية، ونموذجًا لعلاقة جديدة تربط أوروبا بإفريقيا على أساس الندية، المصالح المشتركة وقاعدة ـ رابح رابح ـ ، علاقة تقطع نهائيا مع مُخلفات الإرث الاستعماري والسيطرة.
هل يمكن أن يتحقق ذلك؟
هل ستتحقق نبوءة الحسن الثاني؟
هل يكون التاريخ هذه المرة حليفًا لا غريما؟
سنرى قريبًا…