لستُ من خبراء كرة القدم، ولا من رواد مدرجاتها المُتَحمسين، لكن هناك لحظات يتجاوز فيها فريق ما حدود الرياضة ليصبح جزءًا من هوية جماعية، من هوية منطقة.. المغرب التطواني فريق حَمَل ألوان عاصمة شمال المغرب، ودافع عن كبريائها حتى وهو يواجه أندية كبرى في إسبانيا. لذلك، حين يسقط هذا الفريق إلى دركٍ لا يليق بتاريخه ولا بِرَمْزِيته، يُصبح الصمت خيانة صغيرة، والكلام واجبًا ولو من غير العارفين بأسرار المُستديرة.
المغرب التطواني ليس مجرد فريق كرة قدم، بل قطعة من ذاكرة شمال المغرب. تأسس في زمن الحماية الإسبانية، حين كان ملعب الكرة فضاءً وحيدًا لتحدي واقعٍ سياسي خانق. شارك الفريق في البطولة الإسبانية خلال ثلاثينيات القرن الماضي، حيث وقف الند للند أمام فِرَق شبه أسطورية آنذاك، مُثبتًا أن مدينة صغيرة على أطراف المتوسط قادرة على أن تُعلن وجودها عبر سحر كرة القدم، أو المستديرة الساحرة. كان الفريق حينها رمزًا لكرامة ساكنة الشمال، بِطاقة تعريف جماعية تختصر الفخر والانتماء والهوية، ونافذة صغيرة تُطل على عالم أوسع من حدود الحماية الإسبانية.
لكن الرموز، كما يبدو، ليست مُحَصَّنة من الانكسار. المغرب التطواني الذي مثّل يومًا الكبرياء الكروي للشمال، يعيش اليوم مأساة مُضحكة ومُبكية في نفس الآن. الفريق الذي اعتاد أن يرفع رأسه في مواجهة عمالقة الليغا، بات يكتفي برفع راية الاستسلام في وجه خصوم محليين بالكاد يعرفون طريق الأضواء. من فريق يُواجه ريال مدريد وبرشلونة في ملاعب إسبانيا، إلى فريق يتعثر أمام شباب السْوالم… أي ملحمة هذه سوى كوميديا سوداء تليق بالخيبات المتسلسلة؟
النتائج تَصْرُخ بأعلى صوتها، خمسة انتصارات باهتة، ثماني تعادلات بلا طعم، وسبعة عشر هزيمة تجرّ معها ما تبقى من هيبة تاريخية. الهجوم عاجز، الدفاع مثقوب، والمدربون يتناوبون على الكرسي مثل مُمَثلين في مسرحية رديئة لا يعرف أحد نهايتها. الإدارة مشغولة بجدولة الديون أكثر من جدولة النقاط، والجماهير المِسكينة لا تملك سوى التفرج على فريقها وهو يحوّل القاع إلى بيت دائم.
المأساة إذن مُزدوجة، سقوط رياضي يوازيه سقوط رمزي. فحين يتعثر المغرب التطواني، لا يخسر ملعب تطوان وحده، بل يخسر معه تاريخ مدينة كاملة بَنَت جزءًا من هويتها على تلك القمصان الحمراء والبيضاء. الفريق صار مثالًا ساخرًا على كيف يمكن لمجدٍ تاريخي أن يتحول إلى عِبءٍ ثقيل، وكيف يمكن لرمز الكرامة أن يتحوّل إلى مسرح يومي للكوميديا السوداء.
المغرب التطواني يعيش هذه الأيام ما يشبه مسرحية عبثية كتبها كاتب فقد صبره. فريق بطل سابق، بوجه مشرّف في بطولات كبرى، تحوّل إلى مجرد كومبارس يملأ خانة الهبوط في جدول البطولة. خمسة انتصارات يتيمة طيلة الموسم، وكأنها مكافآت عشوائية في لعبة “يانصيب” لا أحد يعرف قواعدها، بينما الهزائم تتساقط كأمطار نوفمبر على سطح مهترئ..
تاريخ المُدربين في الموسم أشبه بلائحة غيابات في مدرسة عمومية، كل واحد جاء بحقيبة وابتسامة متعبة، وكل واحد رحل محمّلاً بنفس الأعذار المُستعملة. التغيير لم يعد بحثًا عن حلول، بل كابوس يُرافقُ إدارة غارقة في أزمتها المالية، لدرجة أنّ الحجز على الحسابات البنكية أصبح مجرد عنوان ثانوي في نشرات النادي، وكأنه إعلان مكرر عن انقطاع الماء.
جماهير الفريق التي كانت يومًا ترفع الرؤوس، أصبحت الآن ترفع فقط حاجبيها استغرابًا من كل هزيمة جديدة. حتى الفوز على نهضة زمامرة 3–0 بدا استثناءً كوميديًا: لحظة خاطفة من فرح مصطنع، سرعان ما صححها الفريق بخسارة مُذِلة أمام شباب السوالم بثلاثية نظيفة، كأن لسان حاله يقول: “لا تقلقوا، نحن بخير، مكاننا الطبيعي في الأسفل.”
المأساة هنا ليست في الهبوط وحده، بل في اعتياد الانحدار. الفريق لم يَعُد يخسر فقط المباريات، بل يخسر معها جزءًا من ذاكرة مدينة كاملة. إنها ليست مجرد كرة قدم، بل عرض متواصل من الكوميديا السوداء، جمهور يضحك كي لا يبكي، إدارة تهرب من الديون كما يهرب لاعب من ضغط بدني، وفريق يحترف صناعة خيبات الأمل بدقة صانع ساعات سويسري.
ختاما تحضرني مرحلة ازدهار فريق المغرب التطواني وتألقه بين الكبار، لم يكن فريقًا عاديًا عابرًا في سجل الكرة، بل كيان وُلد من رحم التاريخ. يكفيه فخرًا أنّه حمل راية مدينة تطوان إلى الليغا الإسبانية موسم 1951–1952، يوم صمد أمام ريال مدريد وتعادل معه (3–3)، ودوّى اسمه بفوز عريض على أتلتيكو مدريد (4–1)، وفتح أبوابه ليستقبل برشلونة على أرض إفريقية. تلك لحظاتُ مجدٍ باهر تُذكِّرنا بأنّ هذا الفريق العريق يستحق حاضرًا يليق بماضيه، ومستقبلًا لا يقل عن مكانته في الذاكرة والوجدان..