عاشت تطوان، مدينة الروح والذاكرة، اياما زاهية جعلتها محط الانظار، فقد جمعت بين مجد الوطن واشعاع الفن، لتؤكد من جديد انها مدينة لا تعيش الا في قلب الاحتفالات الكبرى. قبل ايام قليلة، كانت ساحة المشور السعيد ترتدي بهاءها التاريخي، وهي تحتضن طقس الولاء وتجديد البيعة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، في مشهد يفيض وقارا واجلالا، حيث ارتسمت صورة وطنية سامقة جعلت من تطوان فضاء للوفاء ومرآة لحضارة عريقة.
واليوم، واصلت تطوان عزف سيمفونيتها الخاصة، اذ احتضنت الدورة الثالثة عشرة لمهرجان اصوات نسائية، لتبرهن مرة اخرى انها قادرة على ان تصنع المعجزات كلما اجتمعت فوق ترابها التظاهرات الكبرى. فهذه المدينة التي عرفت ببياض جدرانها، وبأبوابها السبعة التي تنفتح على التاريخ، عادت لتؤكد انها ليست مجرد فضاء عمراني، بل لوحة ابدية، تجمع في ملامحها بين عبق الماضي واشراق الحاضر. تطوان لا تستضيف المهرجانات فحسب، بل تنصهر فيها، فتغدو شوارعها مسارح، وفضاءاتها منصات، وجمهورها الذواق شريكا في الابداع.
في سهرة الجمعة 15 غشت 2025، كانت الحمامة البيضاء على موعد مع لحظة فنية استثنائية، حيث تحولت مدرجات مسرح الولاية المفتوح الى بحر بشري متلألئ، غص باكثر من عشرة الاف متفرج. وجوه مضيئة من كل الاعمار، اصوات تتماوج بالتصفيق والغناء، زوار من مختلف انحاء المغرب، ومن بلدان بعيدة، اجتمعوا على حب الموسيقى وبهجة اللقاء. لقد بدا الجمهور التطواني، الذي لطالما عرف بذائقته الرفيعة، كأنه امتداد للمسرح، يتنفس مع انغامه، ويتوحد مع ايقاعاته.
الجماهير لم تكن مجرد مستمعة، بل كانت روحا ثانية للعرض: شباب يرفعون هواتفهم كنجوم صغيرة تشع في السماء، امهات يغنين وهن يحملن ابتسامات الفرح، اطفال يرقصون بعفوية في الممرات، وزوار اجانب مذهولون بجمالية المشهد، يوثقون اللحظة بعدساتهم لعلهم يحتفظون ببعض من سحر تطوان. كان التفاعل عميقا الى درجة ان الخشبة والجمهور تحولا الى فضاء واحد، يذوب فيه الصوت بالتصفيق، والايقاع بوهج الفرح.
لقد ازدانت السهرة باطلالة الفنانتين المغربيتين دعاء لحياوي وزينة الداودية، اللتين اهدتا تطوان عرضا مبهرا جمع بين الشجن الطربي والايقاع الشعبي، وبين رقة الصوت وقوة الحضور. اداء جعل المدرجات تهتز، والسماء نفسها تبدو وكأنها تتمايل على انغام الموسيقى.
مسرح الولاية، ذلك المدرج المفتوح على الافق، بدا في هذه الليلة كلوحة زيتية نابضة: الاضواء تنعكس على الوجوه المشرقة، الاصوات تتعالى وتذوب في سماء المدينة، والبهجة تنتشر مثل نسيم البحر القادم من مرتيل. لقد تحولت تطوان الى قصيدة حية، تتغنى فيها الجدران البيضاء والازقة الضيقة بالحب والفرح والابداع.
ان ما تحقق في هذه الليلة الباذخة لم يكن وليد الصدفة، بل هو ثمرة مجهودات جبارة بذلتها السلطات المحلية، وعلى رأسها عامل اقليم تطوان عبد الرزاق المنصوري، الذي يتابع بعناية ادق تفاصيل هذه التظاهرات، الى جانب رئيس جماعة تطوان مصطفى البكوري، ورئيس المجلس الاقليمي ابراهيم بنصبيح، وحضور رئيسة المهرجان وسفيرة المغرب في اسبانيا كريمة بنيعيش، التي جعلت من المهرجان منصة تتجاوز حدود الفن لتصبح لقاء للحضارات.
هكذا تظل تطوان، بفضاءاتها البهية، وبسحر شوارعها البيضاء، وبجماهيرها الذواقة، مدينة ابدية. مدينة تعرف كيف تحتضن التاريخ في طقس الولاء، والفن في اصوات نسائية ومهرجانات اخرى، وتصوغ منها معنى للحياة اشبه بلوحة خالدة. تطوان لا تبهرك بجمالها فحسب، بل تدهشك بقدرتها على جعل الفرح فنا، والجمهور شريكا، والحضارة سيدة الموقف.