جميلة… عفوا، جُمِيَلة! في زاويةٍ هادئة من إسبانيا، حيث تنمو كروم العنب وتُخمَّر براميل النبيذ بسلام، قرر مجلس بلدية جُمِيَلة (Jumilla) أن يعيد كتابة التاريخ… على طريقته الخاصة. إذ اجتمع السادة الكرام من الحزب الشعبي، ومعهم الفرسان الجدد من حزب “فوكس”، وخرجوا علينا بقرار شجاع: منع الاحتفالات الدينية للمسلمين في المرافق الرياضية العامة. لا مظاهر عيد، لا تكبيرات، لا طعام جماعي… الرسالة: “عيدكم ليس عيدنا”.
قرار “بطولي”، لا شك. كيف يجرؤ أولئك العمال المهاجرون، أغلبهم من أصول مغربية، على الاحتفال بدينهم في بلد “مسيحي، أوروبي حديث؟! من فكََّر أصلاً، أو سوَّلت له نفسه أن يُفكر أن الإسلام جزء من النسيج الاجتماعي الإسباني؟ آه نعم… التاريخ، ربما..
هكذا، وبِجَرَّة قلم، قرر السادة أن من حقهم إعادة رسم ملامح الفرح. أن يُحددوا من يستحق أن يحتفل، ومن عليه أن يصمت.
العيد، بالنسبة لهؤلاء الفرسان الجُدُد، ليس مناسبة دينية وثقافية، بل تهديد للهوية.
وفي الخلفية… يدق التاريخ بابنا ساخرًا.
يبدو أن فرسان حزب فوكس لا يدرسون التاريخ كثيرًا، أو يدرسونه على طريقة “من لا يتذكره، يُعيده”. في عام 1609 طُرد الموريسكيون بعدَ أن تنصَّروا من الأندلس، وانتهت قرون من التعايش، لا بالسجالات الفكرية، بل بمحاكم التفتيش وبالمحرقة والمِقصلة. واليوم، بعد أكثر من 500 سنة، يأتي القرار الجديد لا بالحرق، بل بالمنع الإداري. لأنهم صاروا أكثر “حضارة”، على ما يبدو.
ما الفرق بين محاكم التفتيش بالأمس، والمذكرات البلدية اليوم؟ فقط توقيع العمدة بدل الختم الملكي.
منطق القرار بسيط: الهوية الإسبانية المسيحية الكاثوليكية “في خطر” بسبب إقامة مئات العمال المغاربة لاحتفال ديني بسيط داخل قاعة رياضية. فعلاً، كم من مرة سقطت الإمبراطوريات بسبب بسكويت العيد والشاي بالنعناع؟!ههههه.
تخيلوا لو قرر مسلمو إسبانيا إقامة صلاة العيد في استاد (ملعب)مدريد…حينها ستُعلن حالة الطوارئ!
“المسلم الجيد هو المسلم الميت” ، كانت تقول الكنيسة أثناء حملة تطهير وإبادة الاسبان المسلمين ، فرسان فوكس اليوم لا يريدون العامل المسلم ميتا، يريدونه صامتا وخانعا.
هكذا تفكر بعض النُّخب السياسية اليمينية في إسبانيا، حتى من اليمين المحافظ ” المُعتدل”: المسلم الجيد هو ذاك الذي يعمل في الحقول، يدفع الضرائب، يصمت، ويُدفن بهدوء. أما أن يحتفل بثقافته، أو يمارس دينه، أو يتحدث بلغته، فذلك “استفزاز” و”فرض لثقافة دخيلة”.
المفارقة أن من يصرخ اليوم ضد المسلمين في جُمِيَلة، هم أنفسهم من يرفعون شعار “الحرية”، و”الديمقراطية”، و”قيم أوروبا”. لكن يبدو أن هذه القيم تُفعَّل حسب لون البشرة، واسم العائلة، ونوع العيد.
والمثير للضحك المُبكي: أن المرافق التي مُنعت فيها احتفالات العيد، تُستخدم دون مشاكل لمهرجانات محلية، ومسابقات خمور، واحتفالات صاخبة. فقط حين يكون الحدث إسلاميًا، تظهر قواعد “الانضباط البلدي” و”الحفاظ على الهوية”.
ما حدث في هذه البلدة الصغيرة ليس إلا انعكاسًا لموجة أوسع تجتاح أوروبا: تطبيع العنصرية، وتعليب الهويات، وتجريم التنوع. فرنسا تحظر الحجاب. إيطاليا تُغلق المساجد. والمجر تُدرّس أن أوروبا “حصن مسيحي”. والآن، جاء الدور على جُمِيَلة الإسبانية، لتضيف نغمتها النشاز إلى سمفونية الإقصاء.
ما يُثير الحيرة – أو الضحك المر – أن القرار لم يكن نابعًا من صراع اجتماعي، أو مشاكل واقعية، بل كان خيارًا أيديولوجيًا خالصًا. نوع من الاستعراض السياسي الرخيص، على حساب أضعف من في المعادلة: العمال المهاجرين، الذين لا صوت لهم في الصناديق، ولا حضور لهم في الإعلام، لكن لهم وزن كبير في حياة الإسبان اليومية… وإن أنكر العنصريون.
ولكن مهلاً أيها الفرسان… هل نسيتم شيئًا؟ أليس هؤلاء “الممنوعين” من الاحتفال، هم من يقطفون العنب الذي يصنع نبيذكم؟ أليسوا من ينظفون شوارعكم، ويبنون منازلكم، ويملؤون خزائن الضرائب؟
أليسوا من يعيشون في صمت منذ سنين، دون مطالبات، إلا أن يُعاملوا كبشر؟
كلمة خاصة… بالبنط العريض، إذا كانت الديمقراطية تعني حكم الأغلبية على حساب كرامة الأقلية، فاسمحوا لي أن أقول: هذه ليست ديمقراطية، بل طغيان بالأغلبية.
وإذا كانت “الهوية الوطنية” تستدعي إقصاء الآخر، فاعلموا أن ما تبنونه ليس مجتمعًا… بل سجنًا كبيرًا بسقف زجاجي، سيبدأ عاجلًا أو آجلًا في التصدّع.
ولنا في الأندلس عبرة… وللذاكرة لعنة لا ترحم.
لكن، لنسأل السؤال الذي لا يُطرح في اجتماعات المجالس البلدية:
من يحرث الأرض في جُمِيَلة؟ من يقطف العنب تحت الشمس الحارقة؟ من يملأ الأسواق، ويخدم في المطاعم، ويقف مُعلقا في أشغال البناء؟
الجواب واضح: مئات الآلاف من المغاربة، ومعهم مهاجرون من دولٍ شقيقة، لا يطلبون وسام الشرف، بل فقط الاحترام. هم العمود الفقري لقطاعات بأكملها في إسبانيا: من الفلاحة في مورسيا، إلى الضيعات في الأندلس، إلى النقل والخدمات في كتالونيا، وحتى العلماء في المختبرات والجامعات، والأطباء في المستشفيات.
من نجوم كرة القدم الإسبانية اليوم من وُلد لأب مغربي أو أصول مغربية. ومن أطباء إسبانيا ومهندسيها ومخترعيها من يحملون أسماءً لا تُنطق بسهولة في نشرات الأخبار… لكنهم يصنعون الفارق كل يوم.
أي بلادة أكبر من سياسات تدعو إلى طرد الإنسان… وتستبقي جهده فقط؟
أي بلادة في قرار يمنع عيدًا لكنه يتغنّى بالتعايش في النشرات الرسمية؟
هذه السياسات ليست فقط عنصرية، بل غبية من الناحية الاستراتيجية. لأنها تُقوِّض ما تبنيه المجتمعات من ثقة متبادلة ومصير مشترك.
ثم هناك سؤال آخر:
أين موقع هذا القرار من العلاقات المغربية الإسبانية التي تعيش مراحل دقيقة من التقارب؟
ألا تعني هذه الاستفزازات البلدية تخريبًا صامتًا لكل ما تبنيه الدبلوماسية بعناء؟ ألا تزرع الشك بين شعبين عاشا قرونًا من التداخل التاريخي والثقافي؟
إن المجتمع لا تبنيه الحكومات فقط، بل تبنيه القلوب والعقول…
حفظ الله الإسبان والإسبانيات الذين يقومون و يقفون في وجه هذه الكراهية، ويعرفون أن ما يجمعنا أكبر مما يفرّقنا.
نحن وإياهم أبناء نفس البحر ، ونفس الشمس، والإنسانية نفسها.