قصة” الباروكة والصلعاء” (1)للأديب والإعلامي” عبدالرحيم التوراني” استوقفتني: لما لها من مفارقات في نـسيج المفارقات الثقافية والإبداعية، ومساهمتها من جديد، لأستعيد ما تراكم عندي من استيهامات وعوالم الحلال والحرام، عند فقهائنا الكرام. (2)عوالم أغلقناها مؤقتا – المسرح والتحريم- لأن هنالك علاقة سرية بين القصة المسرودة، والعوالم التي تكمن في ” الشعر المستعار( الباروكة) ولتقريب الصورة في سياق القصة التي استوقفتني هل يجوز: للممثل أن يضع الباروكة في العرض المسرحي ؟ إذا كان لبس الباروكة حرام، ولو كان في البيت ! لننغمس في السخرية والفنتازيا أعمق. يجـوز للممثل أن يلبسه ، لإبراز الشخصية ( المقصودة) إن لم يكن شعرا آدميا. لأن الأئمة أجمعوا على تحريمه ! واستشهادهم بذلك أن « الباروكة « ما فيها من تلبيس وتدليس وتزوير وغرور. و العلة الثانية/ استعمال ما اختلف في نجاسته.لكن اختلفوا في حكم “الباروكة” من شعـر غير الآدمي أي من البهيمة أو الصوف أو الخرق. حيث القول الأول: يجوز وصل الشعر بغير الشعر والقول الثاني قولان التحريم والكراهة (3) وهناك من يحسم الأمر بالتحريم القطعي، لأن ما فيه من تغيير خلق الله، وهو أمر محرم.
كلام فقهي هذا، وفي سياقه هل الباروكة المنوجدة في القصة حلال أم حرام؟ المعني بالسؤال صاحبها ؟ لكن لا نحمله مالا طاقة له، لأنه أديب وليس فقيه أصولي. أو إذا أخذنا تصريحه محمل الجد:” ولأني لست فيلسوفا، بل مجرد نصف مجنون، سأتساءل دائما عن هدفي وأخاف عليه.(4) بالتأكيد ندرك أنه ليس مجنونا بالمطلق ولا بالنسبي، بقدر ماهو نصف مجنون، سواء صاحب القصة أو شخصيتها ( الكاتب)من هاته الزاوية ؛ تتراوح رؤيته بين الواقع والخيال، لأن واقع حدث ” الباروكة والصلعاء” أقوى منه ومن احتمالية قلقه، فحاول بذلك الهروب من عوالم الواقع نحو عوالم التخيل والسخرية وتوظيف اللامعقول لخلق عوالم جديدة للتعبير عن قضية عميقة تتلبسه ، تقلقه. لأنه نصف مجنون:” غالبًا ما أجد نفسي قلقًا.. قلق بشأن الآتي، قلق بشأن أشياء كان بالإمكان تجاوز حدوثها، وأشياء أخرى لم تحدث بعد…يملؤني قلق من المستوى غير الضروري.. أو الصنف غير المفهوم..(5) القلق أمسى ظاهرة طبيعية في مجتمعنا لأسباب) !) حتى أن هناك من له القلق المزمن؟ لكن بالنسبة لمحمول القصة هنالك قلق أعمق، حيث بداية القصة كانت واقعية بمكانها وشخوصها ( في) :”في حانة شعبية بوسط المدينة، تمنعت مسرحية من فصل واحد وأربعة مشاهد، على قلم كاتب مسرحي كبير، لم تستسغ معاملته لها كواحدة من بنات الليل، حاول عبثا إغراءها واستدراجها بسيجارة ثم كأس. لم تستجب، خرج وهو في حالة توتر وغضب واضحين(*)حقيقة صورة مجسدة لعلاقة أغلبية المبدعين بإبداعهم على مستوى مخاض الفكرة وصياغتها، ولكن أين ؟ في الخمرات، فضاء البوح وتفريغ الألم، من هنا يستقي المبدع مادته ! لكن
في الشارع العام ، صور أخرى، في قصتنا هاته. عوالمه تدخل مجال اللامعقول والسخرية المفرطة في فنتازيتها، عند الكاتب:” في الشارع المضيء، رأى الكاتب المسرحي قصائد وخواطر أدبية وروايات وقصصا بديعة من كل صنف، ابتسمت له قصة قصيرة وغمزت، فتبعها. سار خلفها، مشت في أزقة ضيقة. إلى أن وقفت أمام باب قديم، وطلبت منه الدخول(*) أكيد مشهد يوحي بفنتازيته، بأن كل فنون القول معروضة ليس للبيع بل للغواية، إذ الجميل هنا تم استعمال ” بلاغة “المجاز المرسل” بدل الرمز. ومن باب الغواية استدرجت” القصة” الكاتب لكي تعاشره، بدل المسرح، طاوعها:” في غرفة نوم معتمة نزعت القصة الفاتنة ملابسها القصيرة جدا، وطلبت من الكاتب أن يفعل مثلها(*)فالمطاوعة (هنا)هل هي نتيجة رغبة لتجريب كتابة القصة؟ أم هروب من فشل إتمام نصه المسرحي؟ أم تطاول؟ ففي سياق مقول القصة:” في غرفة نوم معتمة نزعت القصة الفاتنة ملابسها القصيرة جدا، وطلبت من الكاتب أن يفعل مثلها(*) فمن باب المجاز. نحن هنا أمام عهر ثقافي، لأن القصة تمظهرت هاهنا عاهرة بالمعنى الاستعاري ما دمت هنالك استعارات( القصة ( ملابسها)..القصيرة جدا): قصدية المعنى المانعة لمعنى المشابهة [ القصة القصيرة جدا / جدا] فهذا النوع أمسى مستباحا لمن أراد كتابة القصة. لكن الكاتب يمقت هذا النوع. وبكرهه، حتى أنه قام بجريمة قتل، وذلك لقتل غوايته له مما:” قاوم الكاتب بقوة، وتمكن بصعوبة من خنق القصة المتوحشة، قتلها قبل أن تنهيه. أخذ معه باروكة الشعر المستعار والعين الزجاجية، وطقم الأسنان الاصطناعية، وحمالة الصدر المنتفخة، ولوى هاربا.(*) نلاحظ المبالغة البديعة، بقرائن من إرادة المعنى الوضعي، هي في غير معناها الحقيقي لعلاقةٍ غيرِ المشابهة، لكن بموضعة معادلة للقصة( التي) :
[تلبس](الباروكة= صلعاء= مشوهه)و[ تضع] (عين زجاجية= عوراء=عاهة)و [تركب]( طقم أسنان= اصطناعي= مزور)كل هذا يكافئ بأن تلك القصة المتوحشة= نحيفة وفارغة و غير فاعلة ومنتجة لعلاقةٍ غيرِ المشابهة ( لها نهدان ضامران)وبالمعنى الجمالي: مواطن جمال المرأة – نهديها- بالتالي بعد اكتشاف الكاتب لسلبيات هاته القصة المصطنعة والمشوهة والمعاقة أصيب بصدمة، نتيجة الهجوم الكاسح للقصة/ القصاصين. في حياته (جالسة فوق سريره) فسعت أن تحوله مثلها رغم المقاومة ثم :” وقفت تتمايل بغنج زائد، توسلت إليه أن يعيد إليها أسنانها فقط. لم تنظر اللعوب جوابا، بل فاجأت القاتل حين ارتمت فوقه، نزعت منه أسنان فمه وعينه اليمنى، ونتفت شعر رأسه قبل أن تخنقه(*)فهذا الصراع الفنتازي” المجازي” محاولة تجسيدية لما يعانيه الكاتب الصادق من معاناة وألم ( أي) كاتب طبعا. وخاصة كاتبنا المريض، بعد غواية القصة له؛ وتخليه عن كتابة مسرحيات، لم يجن منها إلا الإحباط ، لأنها غير مربحة:” في سوق الخردوات وقف الكاتب بعرض أشياءه للبيع، حصل على بعض الدريهمات مقابل الباروكة، تخلص من البضاعة الباقية برميها في مطرح نفايات(*)هنا تخصيص “ضمني” لحال أحد أصدقائه المقربين ! ممن عانوا المحن والحصار واليأس، وبالتالي فالمبدع ” عبدالرحيم التوراني” لا يستحضر ذاته في ذات القصة، لأنه ليس مسرحيا، ولم يدخل مصحة نفسية؟ طبعا كتابة ” التوراني” أغلبها سوريالية ، فنتازية ، ساخرة من واقع مؤلم. مما استغل أسلوبه ليكشف لنا عن فلسفة ورؤية صاحبه / الكاتب.
وفي الوقت نفسه يشعرنا بأن الذكريات لا تموت، بقدرما ما تظل عالقة في المخيلة مهما تآكلت الذاكرة ، لامحالة تبقى تنبض حية في الأرواحِ.
وبما أن ” الباروكة” التي باع نسخا منها، هي قمة السوريالية المندمجة جوانية الفنتازيا في مجتمع يدفع بالكِتاب والأديب نحو حافة الانهيار . ولهذا فمن باب الفنتازيا (تلك) القصة القصيرة جدا عند الفقهاء حرام ! لما فيها من تزوير وتدليس. والفقه يعتمد على الملموس والقرينة . وبما أن قرينة المشابهة متوفرة في (الباروكة) يجوز التحريم( أي) تحريم القصة القصيرة جدا من المشهد الثقافي والإبداعي.
ولكن ما حكم الفقه، حينما وجد كاتبنا المريض عمله مسروقا؟بقرينةٍ ليست مانعة من إرادة المعنى الحقيقي؛ أي: مشاهدته برنامج تلفزي ، لتصريح إحدى الممثلات المتألقات عن مشاريعها المستقبلية :”قالت إنها ستلعب دور البطولة في مسرحية ” الباروكة والصلعاء” من تأليف كاتب كبير(*)مسألة سرقة النصوص والأفكار، أمست طبيعية. لكن أمام حالة الكاتب المريض فالوضع يختلف جدا، أمام ” سرقة” مجهوده الذي بدأه في الحانة الشعبية. بحيث ازدادت درجة انهياره مما: “لم يتمالك نزيل المصحة نفسه من الضحك، ارتعش وانتفض جسده، تم نهض بهدوء، قبيل نهاية البرنامج بثوان، وأمسك صامتا بعنق الممثلة النجمة(*)
الإستئناس:
1- الباروكة والصلعاء: صحيفة السؤال الآن بتاريخ- 14/07/2025
2- انظر لموضوع: أحكام شعـر المرأة وصلا، وإزالة في ضوء الفقه الإسلامي- إعداد :مريم عبدالسلام
بكر- المجلد السادس من العدد التاسع والعشرون لحولية كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات – بالإسكندرية
3- استأنس بتاج والاكليل لمختصر خليل. ليوسف العبدري الغـرناطي، وخاصة ج 2 من خمسة أجزاء
تتبحر في المذهب المالكي
4- على قلق كأن الريح تحتي! لعبد الرحيم التوراني- صحيفة أنفاس بريس/ في- 28/03/2025
5- على قلق كأن الريح تحتي! لعبد الرحيم التوراني- صحيفة كفى بريس/ في-28/03/2025
*- متــن القصة الباروكة والصلعاء: