في زمن تُطبع فيه العلاقات الإقليمية على إيقاع التقلّبات السريعة والاصطفافات الهشة، يُطل المغرب كصوت مختلف، يتكئ على عمق التاريخ ووضوح الرؤية وسمو القيادة. وفي لحظة وطنية سامية، جدد صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيّده، في خطاب العرش لسنة 2025، حرصه الراسخ على توطيد أواصر الأخوة والتعاون مع الجزائر، مؤكدا مرة أخرى أن المغرب، بقيادته الرشيدة، لا تجرّه الاستفزازات، ولا تخرجه المتغيرات عن ثوابته القيمية والتاريخية.
قال جلالته، حفظه الله:
“وبصفتي ملك المغرب فإن موقفي واضح وثابت؛ وهو أن الشعب الجزائري شعب شقيق، تجمعه بالشعب المغربي علاقات إنسانية وتاريخية عريقة، وتربطهما أواصر اللغة والدين والجغرافيا والمصير المشترك”.
ليعيد بذلك فتح الباب في إعادة بناء الثقة، انطلاقا من ذاكرة نضالية ومصير مغاربي مشترك لا يمكن نكرانه ولا القفز عليه.
وإنّ هذا الموقف الملكي السامي ليس غريبا عن مدرسة الحكم العلوي المجيد، بل هو استمرار لنهج ملكي عريق تأسس منذ اللحظات الأولى لاستقلال المغرب، وتُرجم في محطات نضالية مجيدة، من بينها ما سطرته مدينة تطوان من خلال مجلتها الشهيرة “النبراس”، سنة 1957، في لحظة كان فيها الحرف مقاومة والموقف التزاما أخويا صريحا لا يُداور ولا يُناور.
تطوان.. ضمير المغرب وصوت الجزائر في زمن المحنة:
حين صدرت مجلة “النبراس” من تطوان بإشراف الأستاذ أحمد محمد بلقات، لم تكن مجرد منشور ثقافي عابر، بل كانت منبرا ناطقا باسم الضمير المغربي الحي، في وقت كانت فيه الجزائر لا تزال تحت نير الاستعمار الفرنسي الغاشم.
في عددها الثالث، الصادر في أكتوبر-نوفمبر 1957، تتصدر المجلة عبارات الدعم والإجلال للثورة الجزائرية، وتخاطب قادتها ومجاهديها بكلمات تنضح بالعزيمة والمساندة. بل وتخصص حيّزا لعرض أسماء أعضاء لجنة التنسيق والتنفيذ، القيادة السياسية والعسكرية للثورة، وتُعرّف بهم للقارئ المغربي بكل وضوح وثقة، في خطوة تُجسّد عمق انخراط المغرب – شعبًا ونخبة – في معركة التحرر المغاربي.
وتُتوّج المجلة عددها ذلك بنشر نص الخطاب التاريخي لجلالة المغفور له الملك محمد الخامس، طيب الله ثراه، الذي ألقاه بمدينة وجدة يوم 15 شتنبر 1956، والذي قال فيه، بنبرة القائد المؤمن بوحدة المصير:
“إننا نؤمن بأن مستقبل الجزائر لا ينفصل عن مستقبل المغرب العربي..”
بهذا الوضوح والجرأة، كانت تطوان تتكلم بصوت المملكة كلها، وكانت “النبراس” عنوانا لمغرب وفيّ للثورات، وناصر للمستضعفين، ومؤمن بقدر الأخوة.
من محمد الخامس إلى محمد السادس؛ تسلسل الوفاء:
ما بين خطاب محمد الخامس في وجدة، وخطاب محمد السادس في عيد العرش لسنة 2025، تمتد سلسلة ذهبية من المواقف المغربية الأصيلة، لم تنقطع، ولم تُبدل، ولم تخضع لاعتبارات ظرفية أو تجاذبات سياسوية.
فكما آمن محمد الخامس بأن الجزائر لا يمكن أن تبقى مستعمرة، آمن محمد السادس بأن المغرب لا يمكن أن يُقابل بالجفاء نداء الأخوة، ولا أن يُنكر الماضي المشترك، ولا أن يُقفل بابًا فُتح ذات زمن بدماء الشهداء والمجاهدين.
إن ما عبّر عنه جلالة الملك محمد السادس نصره الله، من خلال دعوته إلى توطيد العلاقة مع الجزائر، ليس مجرّد موقف دبلوماسي، بل هو رؤية استراتيجية تؤمن بأن الإقليم المغاربي لن ينهض إلا بوحدة شعوبه.
في هذا الخطاب الملكي نقرأ السمو في أبهى تجلياته:
• سموّ في اللغة، حيث غابت كل الإشارات الجارحة.
• وسموّ في المبادرة، حيث ظل المغرب هو المبادر دوما إلى الوصل.
• وسموّ في النية، حيث بدت اليد ممدودة، رغم رياح القطيعة.
المغرب بقيادة جلالة الملك؛ الثابت في زمن السيولة:
في عالم عربي تتناسل فيه الخلافات، ظل المغرب استثناء في حكمته، وتميزه، ووفائه التاريخي. وهو اليوم، بقيادة صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، يؤكد أن البناء لا يكون بالقطيعة، وأن الذاكرة لا تُمحى، وأن وحدة المغرب العربي ليست وهما، بل حاجة تاريخية واستراتيجية لا مفر منها.
تطوان، وهي تحتضن على صفحات “النبراس” وجدان الأمة المغربية سنة 1957، كانت تُجسّد روح الموقف الملكي. والمغرب اليوم، بقيادة ملك متبصر، خبير، ومتجذر في التقاليد العلوية الشريفة، لا يزال يسير على الدرب ذاته: درب التضامن، الحكمة، والرؤية البعيدة.
بين ضوء “النبراس” ونور العرش:
النبراس، اسم المجلة التي صدرت من تطوان، لم يكن مجرد رمز. فقد كان ضوء يسبق الزمن، وشعلة أضاءت طريق الأمة المغاربية نحو الأمل والحرية. واليوم، في ظل القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، ما زال المغرب يحمل ذلك النبراس، يرفعه عاليا في وجه العتمة، ويقول لأشقائه في الجزائر:
“لذلك حرصت دوما على مد اليد لأشقائنا في الجزائر، وعبرت عن استعداد المغرب لحوار صريح ومسؤول؛ حوار أخوي وصادق حول مختلف القضايا العالقة بين البلدين”.
وما بين سطور المجلة القديمة، وفقرة خطاب العرش الجديد، تكتب المملكة المغربية فصلا آخر من سيرة الشرف والحكمة والقيادة الهادئة.
فهل آن للأشقاء أن يقرأوا التاريخ بعين الإنصاف؟
في خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله اليوم، كل الإجابات حاضرة… لمن يريد أن يُصغي بقلبه لا فقط بأذنه.