جاء الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لعيد العرش المجيد ليجدد التأكيد على الرؤية المتبصرة والدور المحوري للقيادة الملكية في بناء مغرب متقدم، موحد ومتضامن، حيث أشار الخطاب بوضوح إلى مقومات ومعالم المشروع المجتمعي الذي انبرت المملكة لتحقيقه عبر سنوات من العمل المستمر والإصلاحات الجوهرية، مع التشديد على أن المنجزات لم تكن وليدة الصدفة، بل نتاج خيارات استراتيجية منسجمة واستقرار سياسي ومؤسسي راسخ.

لقد انطلق المشروع المغربي المعاصر من قناعة راسخة بأن التنمية الشاملة هي حجر الزاوية لبناء مغرب قوي ومتجانس، هذه التنمية لم تقف عند حدود التنمية الاقتصادية فحسب، بل شملت جوانب بشرية واجتماعية واسعة. وقد حرص صاحب الجلالة في الخطاب على إبراز بُعد الاستمرارية والوضوح في الاختيارات التنموية الكبرى، وهي اختيارات وُضعت في إطار “النموذج التنموي الجديد” الذي يروم تحقيق انخراط سلس ودينامي للبلاد ضمن نادي الدول الصاعدة، عبر سياسات منفتحة على المستقبل وواثقة بالقدرات الوطنية.
ولم يخف الملك محمد السادس نصره الله مدى صعوبة الظروف الراهنة، من توالي سنوات الجفاف الحاد إلى تعقيد الأزمات الدولية الاقتصادية والسياسية. لكن، رغم ذلك، أظهر الاقتصاد الوطني قدرة استثنائية على الصمود وتحقيق نمو منتظم وهام، وهو ما يدل على حُسن التدبير وحكمة الإصلاحات الماكرو-اقتصادية التي ساهمت في استمرار الاستقرار العام للمالية الوطنية، وخلق مناخ جاذب للاستثمار ورائد في المنطقة.
فالمغرب اليوم يشهد نهضة صناعية لافتة، خاصة منذ سنة 2014، حيث ارتفعت الصادرات الصناعية بأكثر من الضعف، مع تركيز خاص على القطاعات الواعدة كالسيارات، الطيران، الطاقات المتجددة، الصناعات الغذائية، والسياحة. هذه القطاعات تحوّلت إلى رافعة قوية للاقتصاد الوطني، وأصبحت مصدر استقطاب للاستثمارات الأجنبية وخلق فرص الشغل. يندرج ذلك ضمن سياسة تنويع الشركاء الاقتصاديين، حيث أصبحت المملكة تربطها اتفاقيات تجارية مع أسواق تناهز ثلاث مليارات نسمة من المستهلكين، مما يعكس تعدد وتنوع آفاق الشراكة والانفتاح الاقتصادي.
وقد اعتُبر تعزيز وتحديث البنيات التحتية أحد أعمدة النموذج المغربي، حيث أطلقت المملكة مشاريع ضخمة مثل تمديد شبكة القطار فائق السرعة بين القنيطرة ومراكش، إلى جانب الأوراش الكبرى في مجال الأمن المائي والغذائي والسيادة الطاقية. هذه المشاريع لا تقتصر على رفع جودة الحياة، بل تسهم في تعزيز جاذبية المغرب كقاعدة صناعية واستثمارية متقدمة ومستدامة.
ولم يغفل الخطاب الملكي البعد الاجتماعي، حيث أكد جلالته أن النجاح الاقتصادي يفقد معناه إن لم تتم ترجمته إلى تحسين ملموس للظروف المعيشية لجميع المواطنين عبر كل الفئات والمناطق. لذلك، وُجدت مقاربة شاملة تتوخى تعميم الحماية الاجتماعية، دعم الأسر المحتاجة، وتدارك الفوارق المجالية، والانتقال من مقاربة تنمية اجتماعية تقليدية إلى مقاربة تنمية مجالية مندمجة تجعل ثمار التقدم من نصيب كافة فئات الشعب ومناطقه.
يمكن القول إن المغرب، وفق الرؤية الملكية المجسدة في خطاب العرش، قد رسم لنفسه مساراً متفرداً يرتكز على الحكامة الرشيدة، والاستشراف التنموي، والانفتاح على العالم، مع الالتزام بتكوين مجتمع موحد ومتين، تسود فيه العدالة الاجتماعية والمجالية، ويعلو فيه صوت التضامن والعيش الكريم. إن هذه المنجزات والتوجهات ليست نهاية المطاف، بل دعوة لمواصلة المسار بذات العزيمة، مع جعل المواطن المغربي محور كل السياسات العمومية وأساس نجاح مشروع الدولة الصاعدة والمتضامنة.