في عالم كثيرًا ما يُغلق أبوابه أمام الاختلاف، يطل بول العربي معمر كإجابة ناطقة عن سؤال التحدي، وقصة حية عن المعنى العميق للإرادة.
وُلد بول سنة 2001 بالعاصمة الفرنسية باريس لأب مغربي وأم ألمانية. لم تكن نشأته عادية، فقد وُلد حاملاً لمتلازمة داون (التثلث الصبغي 21)، وهي الحالة التي كثيرًا ما تُستخدم كمبرر اجتماعي للإقصاء أو الشفقة، لكنها لم تكن في حياته سوى نقطة انطلاق نحو التميز.
منذ انتقاله إلى المغرب سنة 2009، بدأ رحلة تعليمية حافلة بالصبر والاجتهاد. تنقّل بين ثانويات الدار البيضاء والرباط، ليُصبح أول شاب مغربي مصاب بمتلازمة داون يحصل على شهادة الباكالوريا من البعثة الفرنسية بميزة “حسن جداً”، في سابقة تربوية سلطت الضوء على طاقاته الكامنة، وكسرت القوالب الجاهزة حول قدرات ذوي الإعاقة الذهنية.
لكن بول لم يقف عند هذا الإنجاز. اختار ولوج عوالم الكاميرا والصوت والصورة، وسجّل اسمه في المعهد العالي للإعلام والاتصال بالرباط، المؤسسة المعروفة بتكوين نخبة الإعلاميين المغاربة. وخلال أربع سنوات من الدراسة المكثفة، أثبت نفسه كطالب طموح، لينال إجازته عن عمر 24 عاماً، متوجًا مشواره ببحث تخرّج اختار له عنوانًا يعكس قضيته: “إدماج الأشخاص في وضعية إعاقة في الإعلام المغربي”، وقدمه في عرض شجاع تخلله فيلم وثائقي من إنتاجه، نال إعجاب لجنة المناقشة والحضور.
لم ينتظر بول الحصول على شهادة لاقتحام الميدان. أنشأ قناة رقمية باسمه، وأدارها بطريقة احترافية، أجرى عبرها حوارات مع شخصيات من العيار الثقيل: جياني إنفانتينو، ناصر الخليفي، عمر هلال، إيمانويل ماكرون، رشيدة داتي، أندري أزولاي، ووزراء مغاربة سابقين وحاليين.
أسئلته كانت جريئة، حضوره واثق، ورسائله تُعبّر عن وعي حقيقي بقضايا المجتمع.
لم تكن إنجازاته حكرًا على الشاشة، بل صعد بول منصة البرلمان المغربي، حيث قدّم خطابًا مؤثرًا حول واقع الأشخاص في وضعية إعاقة، داعيًا إلى تحسين ظروفهم وتعزيز إدماجهم في مختلف المجالات، وعلى رأسها الإعلام.
وراء هذا المسار الحافل، يقف والده، السيد خالد معمر، داعمه الأول، والذي لعب دورًا مركزيًا في بناء هذه التجربة الفريدة، متجاوزًا العراقيل الإدارية والنفسية التي تواجه أغلب أسر الأشخاص في وضعية إعاقة.
قصة بول ليست فقط حكاية نجاح فردي، بل دعوة جماعية للتفكير في الأنظمة التعليمية والإعلامية والاجتماعية التي ما زالت تتعامل مع الاختلاف كاستثناء لا كجزء طبيعي من التعدد البشري.
بول معمر ليس “بطلًا خارقًا”، بل مواطن مغربي مارس حقه في التعليم والعمل والمشاركة. نجاحه يثبت أن الإدماج ليس منّة، بل واجب قانوني وأخلاقي، وأن العقبة الحقيقية ليست في التثلث الصبغي، بل في التمييز غير المعلن والموروثات الاجتماعية.
بهذا المسار المتفرد، يرسّخ بول العربي معمر حضوره كأول صحفي مغربي من ذوي متلازمة داون، ويؤكد أن الإعلام حين يكون عادلًا، يسمع الجميع..
قصة بول ليست فقط للاحتفاء، بل للتعلّم… وللتغيير.