Web Analytics
سياسة

طنجة-أصيلة.. زمن النخب السياسية بين إعلان الحداد وتأجيل الدفن

ما لا شك فيه أنه لا يمكن الحديث عن أي مجتمع حديث ـ كيفما كان ـ دون التوقف عند العمل السياسي الذي يُعد جزءًا لا يتجزأ من الفعل المدني، بحكم التكامل والجدلية القائمة بينهما. فلا تطور حقيقي لأي مجتمع في غياب الفاعلين السياسيين والأحزاب التي يُفترض فيها أن تترافع وتناضل من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي في شموليته، وأن تلامس مختلف تجليات الديمقراطية الحديثة المرتبطة بكرامة الإنسان، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والعيش الكريم.

لقد كان الفاعل السياسي، أو ما يُصطلح عليه بالنخب السياسية، عاملًا حاسمًا في عدد من المكتسبات التي تحققت في المغرب مباشرة بعد الاستقلال سنة 1956. تلك النخب ضحّت بالغالي والنفيس من أجل مغرب يتسع لجميع أبنائه ويكون حاضنة لهم. ولعل محطات عديدة من تاريخنا تؤكد ذلك؛ إذ كانت الأحزاب السياسية تُنتج كوادر وقيادات بصمت اسمها في سجل المغرب الحديث بمدادٍ من الفخر والاعتزاز.

ومهما اختلفنا مع تنظيماتهم الحزبية أو مواقفهم السياسية، فإننا نتقاطع جميعًا حول حقيقة مفادها أن عددًا مهمًا من الهيئات الحزبية كان يضم نخبًا وطنية أحبّت البلاد وعملت على تطويرها ودفع مسارها التحديثي بكل ما أتيت من قوة، حتى حين كلفها ذلك حريتها. والخطأ وارد دائمًا ما دام الفعل السياسي فعلًا بشريًا؛ ومن يمارس يخطئ.

وإذا ما عدنا إلى التاريخ السياسي لمدينة طنجة، مهد الحضارات وملتقى الثقافات وتعايش الأديان، فسنجد أنها أنجبت أسماء سياسية كبرى أثّرت في المشهد الوطني وأغنته. ويكفي أن نذكر ـ على سبيل التمثيل لا الحصر ـ المناضل عبد الرحمن اليوسفي، والزعيم علي يعتة، وغيرهما كثير. لكن حين نتأمل المشهد السياسي الراهن، لاسيما بعد انتخابات 8 شتنبر 2021، نلمس حالة من الميوعة السياسية، سواء كانت مقصودة أم نتاج تراكم الاختلالات، جعلت المدينة تبدو وكأنها فقدت نخبها السياسية أو أعلنت حدادًا عليها دون أن تُقام جنازة تُودِّع فيها الأحزاب أدوارها التاريخية.

اللحظة السياسية التي تعيشها طنجة اليوم ـ وربما يعكس صداها ما يقع على نطاق أوسع في البلاد ـ تكشف صعوبة التمييز بين أحزاب الأغلبية وأحزاب المعارضة. فالتحالف المحلي الذي أُنشئ لتدبير المجلس الإقليمي، والمجلس الجماعي، والمقاطعات الأربع، وعدد من الغرف، يبدو تحالفًا هجينًا وهلاميًا، غير قائم على مرجعية سياسية صلبة أو حد أدنى من التوافق البرنامجي. وما جرى في مقاطعة بني مكادة مؤخرًا، وقبله في بعض دورات المجلس الجماعي، يقدم دليلًا واضحًا: أغلبية تصوّت ضد أغلبية، جزء من الأغلبية يصوّت لصالح المعارضة، وسياسيون ينتمون للحزب نفسه يوقّعون ضد مناضلي حزبهم ويتمردون على قرارات هيئاتهم. ذلك يشكل ضربًا صارخًا لمفهوم الانتماء الحزبي. ثمة فرق بين أن تختلف ـ في إطار الديمقراطية الداخلية ـ مع قرار تنظيمي وطني أو جهوي أو محلي، وهو اختلاف مشروع، وبين أن تتمرد على قرار الحزب وتمنح صوتك للضفة الأخرى فقط لأن مصالحك الضيقة تتقاطع مع مصالحها.

الأغرب أن المعارضة، التي يُفترض أن تبني مواقفها على تعليل سياسي واضح وأن تقدم بدائل مقنعة، انخرطت بدورها في أدوار لا تندرج ضمن وظيفتها الأصلية. باتت تدعم شخصًا من داخل الأغلبية ضد آخر، وتنسق مع طرف ضد طرف، وتوقع بلاغات سياسية مع منتخبين من الأغلبية في قضايا لا تلزمها مؤسساتيًا. بدل أن تكون رافعة لتقوية الفعل السياسي، تحولت في حالات عديدة إلى عنصر تأزيم إضافي.

طنجة اليوم تختبر نموذجًا مشوَّهًا في الممارسة السياسية؛ نموذج “كَمْ حاجة قضيناها بتركها”. قليل من المراقبين يختلفون في أن البنية الحالية للمؤسسات المنتخبة بالمدينة قد تكون من أضعف ما عرفه تاريخ طنجة المؤسسي. وإذا تأملنا المستوى الأكاديمي والعلمي لأغلب مكاتب مجالس المقاطعات والجماعة الحضرية، وكذا لغالبية المستشارين، سنصطدم بإحباط حقيقي. بل إن عددًا من المنتخبين، الذين من المفترض أنهم يتولون تدبير الشأن الترابي، عاطلون عن العمل ولا يتوفرون على دخل قار؛ فتتحول المهمة التمثيلية ـ التي يُفترض أن تكون تطوعية وعمومية ـ إلى مورد عيش، ما يضع الاستقلالية موضع شك.

وعند تتبع عشرات النقط والملفات التي تمر بالإجماع خلال دورات المجالس المنتخبة، يتولد انطباع قوي بأن العديد من الأعضاء إما لا يفقهون شيئًا في العمل السياسي وفلسفته، أو أنهم لم يتدرجوا تنظيميًا داخل أحزابهم بما يكفي قبل تمثيلها، أو أنهم ببساطة ليسوا أبناء هذه التنظيمات من الأصل، فلا يشعرون بحرارة الانتماء إليها ولا يتبنون خلفيتها السياسية أو الإيديولوجية.

أوجه الميوعة السياسية متعددة. من أبرزها ذلك التماهي المبالغ فيه بين رجل السياسة ورجل السلطة. فكيف لمن يفترض فيه تمثيل المواطنين أن يحافظ على جرأة الموقف حين يذوب في دائرة القرب من ممثل السلطة؟ الإشادة الدائمة من المنتخبين بالسلطة ـ استحقَّت أم لم تستحق ـ مؤشر على تراجع الفعل السياسي الحر. لرجل السلطة أن ينتقد المنتخبين، فهذا طبيعي ضمن توازن الأدوار، لكن حين يُنتزع من السياسي حق الاختلاف العلني بدافع الحفاظ على قنوات القرب أو الامتياز، نكون قد دخلنا منطقة رمادية تُفرغ السياسة من مضمونها.

يتجلى ذلك، مثلًا، في المواقف الراهنة لغالبية السياسيين وتنظيماتهم تجاه الوالي، الرجل الأول بالإدارة الترابية على مستوى جهة طنجة تطوان الحسيمة. من الطبيعي في سياق سياسي صحي ألا يُجمع الفاعلون على الإشادة ـ فهذا جوهر التعددية ـ لكن غير الطبيعي هو أن تُبنى المواقف فقط على مدى سهولة فتح الأبواب أمام السياسيين، كما كان يحصل في فترات سابقة، لا على تقييم موضوعي للأداء. وفي المقابل، لا يمكن إنكار أن بعض ممثلي السلطة، عبر مراحل، لم يقوموا دائمًا بالأدوار المنوطة بهم كما يجب؛ وهي ملاحظة تُسجَّل دون تعميم.

من أسباب التردي السياسي وتراجع إنتاج النخب داخل كثير من التنظيمات الحزبية غياب الاهتمام الجاد باليافعين والشباب. لم تُرسَّخ مسارات منظمة للتكوين والتدرج: من العمل الجمعوي الموازي، مرورًا بالشبيبات الحزبية والقطاع الطلابي، ثم تحمل المسؤوليات التنظيمية المحلية، فالمشاركة في التمثيل الانتخابي. كما لم يُحترم دائمًا مبدأ الديمقراطية الداخلية، ولا أُتيح للشباب تكوينٌ سياسي يُنمِّي حرارة الانتماء ويعمق الإيمان بالمرجعية الفكرية للحزب، قبل تمثيله أمام الناخبين.

يضاف إلى ذلك ارتهان عدد من الأحزاب لما يُعرف اصطلاحًا بـ”مول الشكارة”؛ أي تغليب أصحاب المال على حساب المثقفين والمناضلين وأطر التنظيم خلال الاستحقاقات الانتخابية. هذا المسار أسهم بوضوح في إضعاف البنية الحزبية وإفقار المشهد من الكفاءات المؤهلة، فغابت النخب المؤمنة بأدوارها في الدفاع عن مصالح المواطنين وخدمتهم.

لا موجب للخجل اليوم من الاعتراف بأن طنجة، شأنها شأن مدن مغربية أخرى، باتت عقيمة في إنتاج نخب سياسية حقيقية ـ إلا ما رحم ربك ـ وعاجزة عن بناء فعل سياسي في مستوى انتظارات ساكنتها، حتى حين يتطلب ذلك تضحيات كما كان الحال في السابق. فصياغة موقف سياسي والدفاع عنه أمر صعب، لكنه جوهر الممارسة الديمقراطية.

لقد أقمنا ـ رمزيًا ـ في طنجة، كما في أصيلة التابعة إداريًا لإقليم طنجة، مأتمًا على أغلب نخبنا السياسية، مع الإبقاء على “الجثمان” مُعلَّقًا دون دفن. والدفن هو آخر مراحل الوداع؛ بعده يبدأ الترحم. فهل تكون هذه الحالة الصادمة دافعًا لإعادة التفكير في أدوار الأحزاب واستعادة رسالتها التأطيرية التاريخية؟ أم أننا اكتفينا بالترحم على نخب لم نُعلن رسميًا رحيلها، لأننا ـ في قرارة أنفسنا ـ نعلم أن موتها السياسي كان سرياليًا، قيميًا، ورمزيًا؟

فهل انتهى زمن النخب السياسية بإقليم طنجة-أصيلة؟

زر الذهاب إلى الأعلى