افتتح، مساء الخميس الماضي، برواق دار الفن بمدينة طنجة، معرض فني جديد للفنان التشكيلي المغربي عزيز السيد، بحضور عدد من الفنانين والنقاد والمهتمين بالمجال الفني والثقافي بعاصمة البوغاز. المعرض، الذي يستمر إلى غاية الثالث من غشت المقبل، ليس مجرد عرض للوحات فنية جديدة، بل هو أيضاً لحظة تأمل فني واحتفاء رمزي بروح فنانين راحلين أسهما في إثراء المشهد الثقافي محلياً وعالمياً، وهما محمد الدريسي وعبد الباسط بندحمان، في إشارة واضحة إلى الامتداد الذي يصنعه الفن عبر الأجيال والتجارب.
يحمل هذا المعرض أبعاداً جمالية وفكرية متعددة؛ فهو من جهة يقدم أحدث أعمال عزيز السيد، ومن جهة أخرى يستدعي ذكرى فنانين تركوا بصماتهم في الساحة الفنية المغربية. فالمعرض يندرج ضمن سياق تكريم الذاكرة الفنية والثقافية الجماعية، ويعكس في آن واحد قدرة الفن على تجاوز الزمن والحفاظ على أثر الأسماء التي أسهمت في بناء هوية الفن التشكيلي المغربي. يقول عزيز السيد إن أعماله الجديدة تدور حول تيمة الجسد، الذي جعله محوراً مركزياً في رؤيته التشكيلية المعاصرة، وهي رؤية تستند إلى طقوس وتقاليد مغربية أصيلة، لكنها منفتحة في الوقت نفسه على التيارات الحداثية العالمية، في تماهٍ غني بين الخصوصية والانفتاح.
اختار عزيز السيد أن يواصل بحثه الإبداعي حول الجسد ليس بوصفه شكلاً تشكيلياً فقط، بل باعتباره حاملاً لمجموعة من الدلالات الثقافية والرمزية العميقة. فهو لا يقدم الجسد باعتباره مجرد صورة، بل يعبر به وعبره عن حالات إنسانية معقدة: الفرح، الغضب، الحزن، الانكسار، القوة، الهشاشة، كلها حالات نفسية وانفعالية يحاول أن يعبر عنها عبر ضربات فرشاته وانسياب الألوان وتوزيع الضوء والظل. يقول السيد في حديثه لوسائل الإعلام: «أسعى دوماً إلى تطوير أدوات اشتغالي الفني على الجسد، بحيث يصبح كل عمل بمثابة فضاء تشكيلي يعكس رؤيتي الخاصة، ويعبر عن جمالية مغايرة تتفرد بها كل لوحة على حدة». هذا البحث الدائم عن تطوير اللغة التشكيلية يمنح أعماله طابعاً تجريبياً واضحاً ويجعل كل معرض له بمثابة محطة جديدة في مسار فني لا يتوقف.
في أروقة دار الفن، حيث تُعرض هذه الأعمال، يجد الزائر نفسه أمام عالم بصري غني ومركب. هناك تداخل بين الإنسان والطبيعة، بين الكائنات الحية والرموز، حيث تظهر في بعض اللوحات عناصر مثل القطط والعصافير والطاووس، جنباً إلى جنب مع الأجساد البشرية في حالات حركة أو سكون. هذه التراكيب التشكيلية تفتح أمام المتلقي إمكانيات متعددة للقراءة والتأويل، فهي تحتمل قراءات سيكولوجية واجتماعية وثقافية ورمزية. لا يسعى عزيز السيد إلى فرض قراءة واحدة على المتلقي، بل يمنحه هامشاً واسعاً للتفاعل مع اللوحة، واستبطان أبعادها وفق ما يمليه الوجدان الشخصي والذائقة الفنية.
نجية خاليلو، مديرة رواق دار الفن بطنجة، تحدثت عن هذه التجربة الفنية، مشيرة إلى أن الفنان يستلهم في لوحاته تجربة رحلات والده حول العالم، وهي تجربة أثرت بوضوح في بناء خلفيته الثقافية والبصرية. تقول خاليلو إن هذه التجربة الغنية تنعكس في حضور لمسات مستلهمة من ثقافات متعددة: أوروبا الشرقية، الهند، المغرب، مما يمنح أعماله نوعاً من الفنتازيا المشهدية التي تتجاوز الواقعية التقليدية، وتفتح باباً أمام عالم خيالي حيث تختلط الأجساد بالعناصر الطبيعية والرموز الثقافية. إنه، بحسب خاليلو، تشظٍ مقصود للشكل وتوسيع لأفق الخيال، حيث لا تكتفي اللوحات بتقديم موضوع ما، بل تدعو المتلقي إلى الانغماس في عوالم داخلية يصعب حصرها.
هذا الانفتاح على التعدد والتنوع الثقافي لا ينفي الحضور القوي للهوية المغربية في أعمال عزيز السيد. فمن خلال الألوان والخطوط والرموز والتكوينات، تحضر الثقافة المحلية بأبعادها المختلفة: الطقوس، الأزياء، الحرف التقليدية، الاحتفالات الشعبية، وحتى الحكايات القديمة، ما يجعل هذا الفن يعكس، ولو بشكل غير مباشر، صورة عن المجتمع المغربي بمختلف تعقيداته وتحولاته. هذا المزج بين المحلي والعالمي، بين التراثي والحديث، يمنح لوحات السيد طابعاً خاصاً يجعلها تعبر حدود الجغرافيا والثقافة.
من جهتها، أكدت بهيجة الهاشمي علي، مديرة رواق الفن المعاصر محمد الدريسي، أن عزيز السيد يقدم عبر أعماله تجربة بصرية تمنح المتلقي متعة إبداعية خاصة. وأضافت أن تركيزه على الجسد الإنساني، لا سيما جسد المرأة، يكشف عن وعي فني بجمالية الجسد وما يحمله من أبعاد حسية وانفعالية. فالمرأة في لوحات السيد ليست فقط موضوعاً تشكيلياً بل هي رمز للخصوبة، الحياة، الألم، الحلم، وهو ما يُترجم عبر التلاعب بالضوء واللون والخطوط بطريقة تعكس حالات شعورية دقيقة. ترى الهاشمي أن هذه التجربة الفنية تفسح المجال للجمهور لاكتشاف مستويات متعددة من المعنى، حيث لا توجد قراءة واحدة صحيحة، بل تتعدد التأويلات بتعدد رؤى المتلقين.
إن هذا التفاعل بين الفنان والجمهور جزء لا يتجزأ من فلسفة عزيز السيد، الذي لا يعتبر اللوحة كياناً مغلقاً على ذاته، بل فضاء حيوياً يكتمل مع حضور الآخر. إنه يعي جيداً أن الفن لا يكتسب قيمته إلا حين يخلق تفاعلاً حقيقياً مع المتلقي، ولهذا يحرص على أن تكون لوحاته مفتوحة على التأويلات المختلفة، من دون أن تفقد في الآن ذاته وحدتها الجمالية وشخصيتها الفنية. هذا الموقف يجعل أعماله تشكل تحدياً لكل قارئ بصري يبحث في النص التشكيلي عن معنى أو رسالة أو تجربة جمالية.
الخصوصية التي تتميز بها أعمال عزيز السيد لا تقتصر فقط على الموضوعات المختارة أو الرموز الموظفة، بل تشمل كذلك التقنية والأسلوب. فهو فنان لا يخشى التجريب ولا يتردد في اعتماد تقنيات مختلفة، بدءاً من الأكريليك والزيت إلى الكولاج وتقنيات مختلطة. هذه الجرأة التقنية تعكس وعياً عميقاً بأن الفن التشكيلي ليس فقط مسألة مضمون بل أيضاً مسألة شكل وأساليب تعبير. لكل لوحة مساحتها الخاصة، وضوءها الفريد، وتوزيعها اللوني المميز، ما يجعل كل عمل أشبه بقصيدة بصرية مستقلة بذاتها.
يُحسب لعزيز السيد كذلك حرصه على الانخراط في الحياة الثقافية والمجتمعية لمدينته طنجة، حيث لم يكتف بأن يكون فناناً يشتغل في مرسمه وحسب، بل ساهم ولا يزال في تنشيط الحقل الفني المحلي عبر معارض وورشات ولقاءات مع الجمهور. إن هذا الحضور الثقافي النشيط يعكس قناعته بأن الفن ليس ترفاً ولا مجرد هواية، بل هو رسالة مجتمعية تساهم في الارتقاء بالذوق العام وفي إغناء النقاش الثقافي حول قضايا الجمال والهوية والحرية.
يعيدنا هذا المعرض إلى سؤال محوري حول دور الفن التشكيلي في المجتمع المغربي والعربي عموماً. ففي ظل الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية، قد يبدو الفن في نظر البعض مسألة ثانوية، إلا أن تجارب مثل تجربة عزيز السيد تؤكد العكس: الفن هو وسيلة للتعبير عن الذات والجماعة، وهو قناة للحوار والتفكير والتغيير. الفن في نظر السيد ليس رفاهية بل ضرورة وجودية، تجعل الإنسان أكثر وعياً بحياته وبعالمه الداخلي والخارجي.
في نهاية جولتنا داخل المعرض، يبدو جلياً أن الأعمال المعروضة لا تكتفي بإبهار العين، بل تثير أسئلة عميقة حول الإنسان والمجتمع والثقافة. إنها تجربة بصرية وفكرية في الآن ذاته، تحترم ذكاء المتلقي وتدعوه إلى رحلة داخل عالم تتداخل فيه الجماليات مع الرموز، والواقعي مع الخيالي، والمحلي مع الكوني. إنها رحلة لا تنتهي بانتهاء المعرض، بل تظل مستمرة في ذاكرة كل من وقف أمام لوحات السيد وتأمل تفاصيلها.
معرض عزيز السيد بدار الفن بطنجة إذن ليس مجرد عرض لأعمال فنية جديدة، بل هو أيضاً دعوة مفتوحة إلى التأمل في ما يمكن أن يمنحه الفن من متعة ومعنى، وهو محطة جديدة في مسار فنان تشكيلي مغربي لا يكف عن البحث والتجريب، وعن إثارة الأسئلة حول الجمال والهوية والإنسان.