Web Analytics
أخبار الشمال

أزمة النقل في طنجة: بين تضاعف أعداد السيّاح وعجز الخدمات العمومية

"لم نجد وسيلة نقل منذ ساعة"... صرخة مواطنة وسط ازدحام المدينة

مدينة طنجة، “عروس الشمال” كما يحلو للبعض أن يسميها، لم تعد كما عهدها زوارها ومحبّوها. ففي السنوات الأخيرة، ومع تزايد أعداد السيّاح المغاربة والأجانب، باتت طنجة تختنق تحت وطأة أزمة نقل خانقة، كشفت هشاشة البنية التحتية وغياب التخطيط الاستراتيجي. بين معاناة السكان المحليين الذين يجدون أنفسهم أسرى لمواصلات معطّلة، وبين الزوار الذين يصطدمون بواقع مرير يخالف ما وعدتهم به الكتيّبات السياحية، تغرق المدينة في أزمة تتفاقم يوماً بعد يوم.
طوابير الانتظار… مشهد يومي متكرر
في ساعات الصباح الأولى وعند نهاية اليوم، تتكرر نفس المشاهد أمام محطات الحافلات وطرقات الطاكسيات. طوابير طويلة من المواطنين ينتظرون عبثاً حافلات قد لا تأتي أو سيارات أجرة قد لا تتوفر.
ليلى العروسي، موظفة في قطاع التأمينات، تروي لنا معاناتها اليومية: “أخرج من منزلي بحي البرانص قبل السابعة والنصف صباحاً حتى أتمكن من الوصول إلى عملي في وسط المدينة في الوقت المحدد. الحافلات نادرة، ولا تأتي في الوقت، وعندما تصل تكون مكتظة بشكل لا يطاق.”
تقول ليلى إن هذا الوضع لا يقتصر فقط على الحافلات، بل حتى سيارات الأجرة الصغيرة أصبحت صعبة المنال، خاصة خلال فصل الصيف أو عند سقوط الأمطار. “أحياناً أضطر لاستخدام تطبيق للنقل، لكن الأسعار جد مرتفعة، وأحياناً لا أجد سيارة أصلاً بسبب الضغط الهائل.”
السياح في مواجهة الواقع: “لم نتوقع هذا!”
لا تقتصر الأزمة على سكان طنجة فقط، بل تمتد لتطال آلاف السياح الذين يتدفقون على المدينة كل موسم. مارك وإلين، زوجان فرنسيان جاءا لقضاء عطلة صيفية، شاركا قصتهما معنا: “كنا نعتقد أن طنجة مدينة سياحية حديثة ومجهزة بكل وسائل الراحة. لكننا صدمنا حين قضينا أكثر من ساعة نبحث عن وسيلة نقل من المدينة القديمة إلى الكورنيش. لم نجد لا طاكسي ولا حافلة. اضطررنا للسير على الأقدام لأكثر من نصف ساعة.”
شهادات مماثلة تتكرر على ألسنة العديد من الزوار، الذين يجدون أنفسهم وجهاً لوجه مع نقص فادح في وسائل النقل العمومي وارتفاع أسعار سيارات الأجرة وتطبيقات النقل.
النقل عبر التطبيقات: وجه آخر للأزمة
مع تزايد العجز في النقل التقليدي، لجأ الكثيرون إلى تطبيقات النقل لكنها بدورها أصبحت جزءاً من الأزمة، بل أصبحت جزءا من استغلال أزمة المواطنين.
محمد، شاب يعمل كسائق مع أحد هذه التطبيقات، يقول: “في الصيف يصبح الطلب غير طبيعي. الناس يتصلون بلا توقف، ونحن لا نستطيع تلبية الجميع. أحياناً نضطر لرفع الأسعار عبر خاصية التسعير الديناميكي، لكننا أيضاً نُتهم بالجشع.”
ويضيف محمد أن هذا العمل لم يعد كما كان: “في البداية كان مربحاً، لكن حالياً أصبح مرهقاً. هناك منافسة كبيرة وارتفاع في أسعار المحروقات والصيانة، بينما الزبائن يشكون من الأسعار المرتفعة. نحن في الوسط، لا أحد راضٍ.”
النقل “السري”: خيار مضطر أم قنبلة موقوتة؟
مع اشتداد الأزمة، برز من جديد النقل “السري” كبديل للكثيرين. سيارات خاصة تقوم بنقل الركاب بشكل غير قانوني في مختلف أنحاء طنجة. بعض هؤلاء السائقين أصبحوا معروفين في الأحياء الشعبية، ويُطلبون عبر الهاتف أو بانتظارهم في أماكن محددة.
فاطمة الزهراء، عاملة نظافة في أحد الفنادق، تعترف بأنها تستخدم النقل السري بشكل شبه يومي: “لا أملك خياراً آخر. راتبي لا يسمح لي باستخدام الطاكسي بشكل يومي، والحافلات نادرة وغير موثوقة. النقل السري أسرع وأرخص رغم مخاطره.”
ورغم أن السلطات بين الحين والآخر تشن حملات ضد هذا النوع من النقل غير القانوني، إلا أن الظاهرة مستمرة بل وتنتشر أكثر فأكثر. أحد السائقين الذي رفض ذكر اسمه قال لنا: “لو كان النقل العمومي كافياً لما اضطررت للعمل بهذه الطريقة. الناس هم من يطلبون خدماتنا.”
أبعاد اجتماعية واقتصادية عميقة
أزمة النقل في طنجة ليست مجرد مشكل لوجيستي. إنها مرآة لعدة مظاهر خلل اجتماعي واقتصادي. فمن جهة، يعاني السكان من تزايد كلفة المعيشة وانعدام بدائل نقل فعالة وآمنة. ومن جهة أخرى، يؤدي غياب الاستثمار في البنية التحتية إلى تفاقم الفوارق الاجتماعية بين الفئات القادرة على استخدام النقل الخاص أو التطبيقات والفئات الهشة التي تجد نفسها رهينة النقل المتهالك أو النقل السري.
يقول الدكتور الحسين بنعيسى، باحث في علم الاجتماع: “النقل ليس فقط وسيلة تنقل، بل هو عامل حاسم في تحقيق العدالة الاجتماعية. في طنجة نرى فشلاً واضحاً في تحقيق هذا التوازن. الطبقات الفقيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً.”
الحلول الممكنة… بين الواقع والطموح
في خضم هذه الأزمة، تبرز الحاجة الملحّة إلى حلول شاملة ومبتكرة. بعض الخبراء يقترحون:
1. توسيع وتحديث شبكة الحافلات: عبر شراء أسطول جديد وتوفير رحلات منتظمة ومؤمّنة.
2. تنظيم النقل عبر التطبيقات: بفرض سقف للأسعار وتحديد معايير واضحة للخدمة.
3. تعزيز النقل الجماعي البديل: كخدمات النقل بالترام أو القطارات الحضرية.
4. تشجيع النقل المستدام: مثل الدراجات الهوائية ومسارات المشي.
شهادات أخرى تعمّق صورة الأزمة
في جولة قمنا بها في حي مسنانة، كان الوضع لا يختلف عن وسط المدينة. أم محمد، سيدة في الستين من عمرها، وقفت وهي تئن من التعب: “أنتظر الحافلة منذ أكثر من ساعة. لا أستطيع دفع ثمن الطاكسي أو التطبيقات. هذه معاناة يومية.”
أما رشيد، طالب جامعي، فقال: “أضطر أحياناً إلى التغيب عن بعض المحاضرات لأنني لا أجد وسيلة نقل. بعض زملائي يفكرون في شراء دراجات نارية هرباً من هذه الأزمة.”
صيف ملتهب… ومدينة على حافة الاختناق
مع تزايد حرارة الصيف وتضخم أعداد الوافدين، تبدو طنجة وكأنها تقترب من لحظة الانفجار. فبدلاً من أن تكون مدينة الانفتاح والتلاقي، باتت تواجه خطر الغرق في فوضى النقل والعشوائية.
هشام بوعرفة، فاعل جمعوي، يختصر الوضع قائلاً: “الأزمة لن تُحل بالمسكنات. طنجة بحاجة إلى رؤية استراتيجية حقيقية تنقلها إلى مستوى مدن كبرى مثل برشلونة أو لشبونة. لدينا الإمكانات، لكن أين الإرادة؟”
تتحدث طنجة بصمت موجع. خلف الواجهات اللامعة والفنادق الفاخرة، تختبئ معاناة آلاف المواطنين الذين يكافحون يومياً للوصول إلى أعمالهم، مدارسهم، مستشفياتهم. صرخة طنجة اليوم ليست فقط ضد أزمة النقل، بل ضد اختلال في السياسات والتخطيط.
فهل يسمع المسؤولون صرخة “عروس الشمال” قبل فوات الأوان؟

زر الذهاب إلى الأعلى