في أصيلة، تلك المدينة المغربية التي تستلقي على كتف المحيط الأطلسي، لا يبدو البحر وحده هو ما يمنحها سحرها الخاص. هنا، بين جدرانها البيضاء وأزقتها الضيقة، يتجدّد كل صيف طقس من طقوس الحياة: الفن.
أصيلة لا تشبه غيرها. مدينة صغيرة بحجمها، لكنها كبيرة بما وهبته للثقافة المغربية والعالمية. منذ أكثر من أربعة عقود، تحوّلت إلى معمل مفتوح للإبداع، إلى مساحة ينصهر فيها الحلم بالفن، وتُطرَز جدرانها برسائل الأمل التي يكتبها القادمون من جهات الأرض الأربع. لا تسير في شوارعها دون أن تستوقفك الألوان المترسبة على جدرانها، كأنها أرشيف حي لذاكرة لا تنضب.
في الدورة السادسة والأربعين لموسمها الثقافي الدولي، تواصل أصيلة سرد حكايتها بلغة الألوان. ففنانون من المغرب والعالم يلتقون على جدرانها ليعيدوا رسمها كأنها ولدت للتو. والجميل في المشهد أن الأطفال هم جزء لا يتجزأ من هذه الحكاية. بأيدٍ صغيرة تلتقط الريَش بفضول وشغف، يلونون الجداريات تحت أنظار أساتذتهم وضيوف المدينة، غير مدركين تمامًا أن ما يفعلونه الآن هو امتداد لرسالة ثقافية بدأت قبل أن يولدوا بسنوات طويلة.
في أصيلة، لا يقتصر الإبداع على الرسم. ورشات أدبية، مسرحية، وموسيقية تشهد بدورها ميلاد مواهب جديدة. الأطفال، الأمهات، والشباب يكتشفون ذواتهم من خلال الفن، وينسجون روابط إنسانية عبر ورش التعبير والإبداع التي تُحفر عميقًا في وجدانهم. الفن هنا ليس عرضًا لحظةً وينتهي، بل نمط حياة متجذر في روح المدينة وسكانها.
وفي خضم هذه الألوان والابتسامات، يغيب عن الواجهة للمرة الأولى مؤسس هذا الحلم: محمد بن عيسى. الرجل الذي آمن بأن الثقافة قادرة على أن تصنع مصير مدينة وتُغيّر صورة وطن. غيابه، الذي يخيم كظل رقيق على تفاصيل الموسم، لم يوقف المسيرة. بل زادها إصرارًا على الاستمرار. فقد ترك وراءه إرثًا من الإيمان بأن أصيلة يجب أن تبقى مدينة تكتب الحياة على جدرانها، لا تخضع لعابري الزمن ولا تذوب في رتابة المدن العادية.
الجيل الجديد في أصيلة يكبر وهو يحمل هذا الحلم دون أن يراه يتلاشى. يلوّن جدرانه، يكتب قصصه، يعزف موسيقاه. وهكذا، تظل أصيلة مدينة تقاوم النسيان… بالألوان.