Web Analytics
أخبار الشمال

طنجة في قبضة المتسولين: بين واقع اجتماعي مختل وتجاهل مؤسساتي”

مع اقتراب كل موسم صيف، تُطل مدينة طنجة بحلتها السياحية المبهرة، إذ تتحول إلى قبلة لعشرات الآلاف من الزوار من داخل المغرب وخارجه. غير أن الزائر لا يلبث أن يُصدم بظاهرة لافتة تفقد المدينة شيئاً من بريقها: تسول متفاقم على الأرصفة، في الممرات، وعند إشارات المرور، أمام المساجد، وعلى أبواب المخابز والمقاهي، وحتى داخل الحافلات والأسواق الكبرى بل حتى بالشواطئ.
لقد بات مشهد التسول مألوفاً لدرجة أنه لم يعد يثير الدهشة بقدر ما يطرح علامات استفهام حارقة: لماذا تنتشر الظاهرة بهذا الشكل المتسارع؟ من يتحمل مسؤوليتها؟ هل هو مجرد تعبير عن الفقر والهشاشة، أم أنه نشاط منظم تديره شبكات خفية؟ وهل تتوفر المدينة على آليات فعالة للتعامل مع هذا الواقع الذي بات يهدد صورتها وسكينتها ويشوّه المشهد الحضري لمدينة تطمح للارتقاء إلى مصاف المدن السياحية العالمية؟
■ التسول بين الحاجة والحيلة
في حي بلاصا طورو، أحد أكثر المناطق استقطاباً للزوار في طنجة، التقينا سيدة في عقدها السادس، تُدعى “الحاجة زهرة”، تفترش الأرض كل صباح وبجانبها طفل صغير ملفوف في بطانية. تقول لنا بنبرة تختلط فيها الشكوى بالحسرة: “أنا أرملة، وما عندي لا تقاعد لا خدمة. كنجي نطلب غير باش نوكل هاد الوليد، راه ماشي ولدي ولكن بنت ختي ماتت وخلفاتو ليا”.
لكن روايات السكان المحيطين تقول إن هذه السيدة تتردد على نفس المكان منذ أكثر من خمس سنوات، وتستغل الطفل نفسه، والذي يبدو أنه لا يكبر أبداً، ما يطرح شكوكا حول حقيقة روايتها. وتؤكد صاحبة محل تجاري مجاور أن السيدة كانت في السابق تغير الأطفال الذين تصطحبهم، مما يثير احتمال أن هؤلاء الأطفال يُستغلون ضمن شبكة.
وليس بعيداً عن المكان ذاته، وقفنا على مشهد متكرر: شاب في العشرينيات، بكامل قوته الجسدية، يقترب من السياح ويطلب المساعدة بإلحاح، مدعياً أنه فقد محفظته ويحتاج المال للعودة إلى مدينته. وعندما سألناه عن اسمه ومدينته الأصلية، ارتبك وغادر دون جواب.
■ ظاهرة تمتد إلى كل أحياء المدينة
في حي بنديبان الشعبي، تختلف الصور ولكن المعنى واحد. الأطفال الصغار يتسولون أمام المخابز، نساء يجلسن على الأرصفة يطلبن دريهمات، وشيوخ يمدون أيديهم عند أبواب المساجد. وفي حي مسنانة، أكد لنا سكان الحي أن بعض الأطفال يتسولون صباحاً، لكنهم يعودون مساءً إلى منازلهم ويعيشون في ظروف مادية لا توحي بالحاجة.
في تصريح لأحد سكان المنطقة، قال: “هاد الأطفال كيتجمعو مع بعض، وكل واحد فيهم كيعرف بلاصتو. كنشوف مرات كيجي شخص كبير يجمعهم مع العصر. ما نعرف واش هادشي فيه مافيا ولا غير تعاون عائلي، ولكن راه واضح أن الأمور ماشي عشوائية”.
■ التسول كـ”نشاط موسمي” و”مربح”
ما يميز الظاهرة في الصيف هو تحولها إلى نشاط موسمي مدر للربح، يتوافد له أشخاص من خارج المدينة، يختارون مواقع استراتيجية ذات كثافة بشرية، ويستهدفون زواراً من طبقات اجتماعية ميسورة. لا يخلو كورنيش طنجة، أو محيط مطاعم مالاباطا، من هؤلاء الذين يمتهنون التسول بأساليب متنوعة، وأحياناً مبتكرة.
عبد الكبير، حارس أمن في مركز تجاري معروف، يقول: “كل صباح كنديرو دورية لطرد المتسولين، ولكن كيرجعو. فيهم اللي كيدعي أنه معاق، وكيطيح على الأرض، وفي الحقيقة مجرد تمثيل. كاينين مجموعات كتشتغل مع بعض، وكل واحد عندو منطقة محددة، بحال اللي كايديرو تقسيم ترابي بينهم”.
ويضيف: “فاش كيقرب الصيف، كيتضاعف العدد. كتشوف ناس جدد ماشي من طنجة، كيجيو ويكريو شي بيت فالأحياء الشعبية، وكيبداو يطلبو. سمعت مرة أن بعضهم كيحقق حتى 300 درهم في اليوم. وعلاش يخدم؟ هو كيشوف التسول مربح وما فيه لا ضرائب ولا رب عمل”.
التسول مهنة ما لا مهنة له
في مدينة طنجة العريقة، طنجة ملتقى الثقافات، مدينة التسامح والتعايش مدينة اختلاف الأديان، أصبحت المدينة ملجأ لكل معطل عن العمل، فالمتسول في طنجة يبدوا وكأنه يعمل، فمعظمهم من خارج طنجة، يأتي يبحث عن الكراء ثم يبدأ في عملية التسول.
في عملية التسول بطنجة، ينبغي البحث عن المكان والزمان المناسب والطريقة التي يتم الحكي بها خلال عملية التسول، فالزمان والمكان عنصران أساسيان يعتمد عليهم المتسول.
■ الجانب القانوني والمؤسساتي
من الناحية القانونية، يظل التسول في المغرب جريمة يعاقب عليها القانون الجنائي، خاصة في حال كان منظماً أو مصحوباً باستغلال القاصرين. الفصل 326 من القانون الجنائي المغربي يُجرّم التسول ويُشدد العقوبة في حال استعمال الأطفال أو الإعاقة كوسيلة للتحايل.
غير أن الإشكال يكمن في ضعف تفعيل القانون، وغياب مقاربة شاملة تدمج البعد الزجري بالبعد الاجتماعي. ففي غياب آلية مستدامة للمتابعة القانونية والاجتماعية، يتحول القانون إلى مجرد نص جامد، لا يُطبق إلا في مناسبات ظرفية.
تقول أستاذة ، محامية بهيئة طنجة: “هناك فراغ تشريعي في كيفية التعامل مع الظاهرة. لا يمكن أن نضع الجميع في سلة واحدة. من يطلب بدافع الحاجة ليس كمن يتسول ضمن شبكة. نحن بحاجة إلى قوانين جديدة تنص على إعادة الإدماج، وتُجرم استغلال الأطفال والنساء في التسول المنظم”.
التسول المنظم.. شبكات في الظل
رغم صعوبة الحصول على معلومات دقيقة حول الموضوع، فإن تقارير إعلامية سابقة وتحقيقات أمنية كشفت وجود شبكات متخصصة في التسول، تُوظف أشخاصاً في وضعية هشاشة، وتتحكم في مناطق نشاطهم، بل وتقتطع من مداخيلهم اليومية. بعض هذه الشبكات تُشغل القاصرين مقابل مبالغ رمزية، وتفرض عليهم حصصاً يومية من المال.
مصدر أمني فضّل عدم ذكر اسمه صرح لنا: “لقد سبق أن فككنا شبكات تستغل أطفالاً قادمين من نواحي شفشاون والحسيمة، وتجبرهم على التسول تحت التهديد. هناك عناصر إجرامية تدير هذا النشاط كأنه تجارة مربحة، وتُحوّل مداخيل التسول إلى مشاريع صغيرة ظاهرها قانوني، وباطنها إجرامي”.
■ المقاربة الاجتماعية.. أين الخلل؟
المقاربة الاجتماعية الرسمية تبدو محدودة التأثير. المراكز الاجتماعية الموجودة في المدينة لا تكفي لاستيعاب كل الحالات، وهي غالباً تشتغل وفق إمكانيات متواضعة. أما برامج إعادة الإدماج فهي إما ظرفية، أو غير قادرة على الوصول إلى الفئات المستهدفة.
عبد الرحيم الشنتوف، رئيس جمعية تهتم بالرعاية الاجتماعية، يقول: “في كل صيف نوجّه نداءً للسلطات لتنسيق الجهود. يجب استباق الظاهرة، لا انتظار تفاقمها. الجمعيات وحدها لا تملك الوسائل ولا السلطة القانونية لإيقاف تسول الأطفال، أو إيواء العشرات من الحالات”.
وأضاف: “نحن في الجمعية حاولنا التواصل مع عدد من المتسولين، واكتشفنا أن بعضهم له أسرة مستقرة، ولكنه وجد في التسول موردًا سهلاً. كما أن هناك من يفعل ذلك لتمويل إدمانه على المخدرات أو الكحول. الأمر معقد، ويحتاج إلى تدخل متعدد الأبعاد: نفسي، صحي، قضائي واجتماعي”.
شهادات من الواقع
خديجة، فتاة في السابعة عشرة، تمتهن التسول رفقة والدتها عند مدخل أحد الأسواق الممتازة، تقول: “ما قريتش، وبابا مريض. كنجيب يومياً 150 حتى 200 درهم. ولكن كيعطيو أكثر للسياح، خاصة اللي معهم أطفال. أنا ما كنسرق، غير كنطلب باش نعيش”.
وهي شهادة مؤثرة من قاصر، مكانها الطبيعي المدرسة، فعوض أن نجد هاته الطفلة تتسول في أزقة وأحياء المدينة، كان يجب أن نجدها في أقسام المؤسسات التعليمية، وأن نجدها تلعب وتحلم وتطمح أيضا.
في المقابل، يقول يوسف، شاب من مدينة القصر الكبير ، إنه يزور طنجة كل فصل الصيف فقط ليمارس التسول قرب محطات الحافلات والموانئ: “كنجي غير خمسة ثلاثة أشهر ، كنربح بزاف. ماشي حاجة كنفتخر بها، ولكن كتنفعني فاش نرجع نقرا من جديد”.
وتقول سامية، سائحة مغربية من الدار البيضاء: “كنت خارجة من الفندق أنا وبنتي، وفجأة جاتني سيدة وبغات تعانق بنتي بزعم أنها زوينة. ولكن فاش قربات، لقيتها كتطلب بحدة، وتابعتنا لمدخل المطعم، هادشي كيخلع، وكيشوه صورة المدينة عند الزوار”.
وتضيف لا يمكن لمدينة مثل طنجة بوابة افريقيا، والمدينة التي تسحر زوارها، أن نجد مثل هاته الممارسات وبحدة كبيرة، فالقضاء على التسول يحتاج الى قرار سياسي جرئ، لا يقبل فيه القسمة على إثنين.
آثار الظاهرة على صورة المدينة
السياحة تُعتبر أحد أعمدة الاقتصاد المحلي في طنجة، غير أن تزايد أعداد المتسولين، خاصة في النقاط السياحية الهامة، يسيء إلى تجربة الزائر. تقول جاكلين، سائحة ألمانية: “أحببت المدينة، ولكن عدد الأشخاص الذين يطلبون المال في كل مكان كان صادماً. في بعض الأحيان شعرت بعدم الأمان”.
وتضيف جاكلين خلال تواصلها مع هيئة تحرير جريدة لادبيش، ان توسع رقعة انتشار المتسولين بطنجة، يجعلك لا تشعر بالأمان وهذا الأمر خطير جدا، خصوصا أن المغرب وطنجة خصوصا تستعد لإستقبال محطات وملتقيات كبيرة مثل منافسات كأس افريقيا أو منافسات كأس العالم.
من جانبه، يقول مرشد سياحي يعمل في المدينة القديمة: “بعض السياح يشتكون من أن المتسولين يُلاحقونهم إلى داخل الأزقة ويطلبون المال بلغة عدوانية أحياناً.
ويضيف قائلا، ان هذا يُؤثر على جودة الخدمة السياحية، ويجعل بعض الزوار يقررون عدم العودة”.، نظرا لعدم شعورهم بالأمان والاطمئنان.
■ وفي هذا محاربة ظاهرة التسول والقضاء عليها، أكد جعفر وهو أخصائي نفسي، أنه يجب القيام برزمة من التدخلات أهمها، أو أبرزها:
1. خلق خلية جهوية لليقظة تتكفل بتتبع الظاهرة خلال موسم الصيف.
2. اعتماد مقاربة اجتماعية شاملة لإعادة إدماج المتسولين في المجتمع.
3. تفعيل القانون بشكل صارم ضد شبكات التسول المنظم.
4. دعم الجمعيات العاملة في الميدان بموارد إضافية وتسهيلات لوجستيكية.
5. إطلاق حملات توعية للمواطنين لعدم تشجيع التسول العشوائي.
6. تشجيع البرامج التلفزية والإذاعية لمناقشة الظاهرة وطرح حلول عملية ومجتمعية.
7. إدماج أطفال المتسولين في مدارس غير نظامية وتوفير دعم نفسي لهم.

ان طنجة، المدينة المتوسطية التي يتغنى بها الشعراء وتستهوي عشاق البحر، تواجه اليوم تحديًا كبيرا وخطيرا جدا، فالأمر لا يكاد أن يتوقف طيلة السنة، لكن حدته تزداد مع اقتراب فصل الصيف. فبين وهج السياحة وواقع التسول، تتقاطع صور التناقض المغربي المألوف: مدينة تنفتح على العالم، لكنها تُغلق عينيها عن فقر مستتر يتمدد على أرصفتها ويتوسع بين أزقتها وأحياءها.
إن مواجهة الظاهرة لا يمكن أن تتم عبر الإعتماد على المقاربة والحلول الأمنية الظرفية، بل عبر تبنٍ جماعي، سياسي ومدني جمعوي وحقوقي، وذلك لوضع رؤية شاملة تضع الإنسان في قلب الاهتمام.
فهل امام جل هاته التحديات تنجح مدينة طنجة في فك شفرة التسول كما نجحت في التحول إلى قطب اقتصادي وسياحي نموذجي؟ سؤال يبقى معلقًا إلى حين إشعار آخر، إشعار يتجدد فيه الطموح والرغبة بالإرادة السياسية، حتى نلامس ونحلم بطنجة التي نريد.

زر الذهاب إلى الأعلى