في قلب مدينة طنجة، حيث تلتقي ضوضاء الحياة اليومية بعراقة التاريخ، يتسلل فن جديد ينبض بالحياة على الأرصفة، الجدران، والزوايا المهملة. إنه فن الشارع أو “Street Art”، الذي لم يعد مجرد رسومات عشوائية، بل أصبح وسيلة تعبير قوية، تنبض بها المدينة وتكشف عن وجهها الآخر: وجه شاب، حر، مبدع، ومليء بالأحلام والرسائل.
فن الشارع في طنجة ليس وليد الصدفة، بل هو نتيجة تفاعل بين واقع اجتماعي متغير، وفضاء مدني يبحث عن وسائل جديدة للتعبير. فبين لوحات الغرافيتي، والعروض الموسيقية في الساحات، والرقصات الارتجالية، ومسرح الشارع، تنبثق حركة ثقافية موازية، تسائل السلطة، وتحاور الجمهور، وتفتح للهوية المحلية نافذة على الحداثة.
■ شارع يتحول إلى مسرح
في ساحة 9أبريل، إحدى أشهر ساحات طنجة، يُمكن لأي عابر أن يتوقف لوهلة ويستمع إلى شاب يعزف على آلة القيتار، أو يتأمل لوحة غرافيتي ملونة تزين جدارًا كان إلى الأمس القريب شاهداً على الإهمال.
يقول أمين، شاب عشريني يمارس العزف في الشارع منذ ثلاث سنوات: “الشارع هو جمهوري الحقيقي. هنا أكتشف ذاتي وأختبر تفاعل الناس مع موسيقاي. أحياناً يتوقف السياح ويطلبون التقاط الصور معي، وأحيانًا يشاركني أطفال الرقص والغناء. إنها لحظات إنسانية لا تُنسى”.
ويضيف: “كثيرون يظنون أننا نطلب المال، لكن الحقيقة أن ما نبحث عنه هو الاعتراف، هو أن نحظى باهتمام يعترف بأننا فنانون لنا مكان في المدينة”.
■ الغرافيتي.. حين تتكلم الجدران
الجدران في طنجة لم تعد صامتة. رسومات الغرافيتي باتت تغزو أحياءً كاملة، بعضها يعكس احتجاجات اجتماعية، وبعضها ينقل رسائل حب وسلام، وأخرى تخلد وجوهًا وأسماء منسية.
في حي المصلى، لوحة ضخمة تجسد وجه امرأة بملامح أمازيغية، تزين جدار مدرسة مهجورة. الرسام اسمه يونس، خريج معهد الفنون الجميلة، وقد اختار الجدران كمساحة للتعبير عن قضايا المرأة والهوية.
يقول يونس: “الغرافيتي ليس تشويها للفضاء العمومي كما يدعي البعض، بل هو فن شعبي يخرج من قلب الشارع ويعود إليه. أرسم في الشارع لأن المعارض مغلقة في وجهي، ولأن رسالتي يجب أن تُرى في الضوء لا في الظل”.
■ فنانون بلا مسارح.. شارع مفتوح
تعاني الطاقات الفنية الشابة في طنجة من غياب فضاءات العرض. المسارح قليلة، وصالات العرض محدودة، والدعم المؤسسي شبه غائب. في هذا السياق، يتحول الشارع إلى فضاء بديل، حيث تتشكل فرق موسيقية مرتجلة، وتُقام عروض مسرحية ساخرة في الهواء الطلق.
“فرقة بوجلود” مثلاً، وهي مجموعة شبان تؤدي عروضًا تمزج بين الكوميديا والمسرح الشعبي، تتخذ من حديقة بير الشفا مسرحًا لعروضها. جمهورهم من المارة، وتذاكرهم مفتوحة لمن أراد أن يضع درهماً في صندوق خشبي بسيط.
يقول محمد، أحد أعضاء الفرقة: “بدأنا نشتغل في الشارع لأننا لا نملك قاعة عرض. ثم اكتشفنا أن الشارع أكثر صراحة وتفاعلاً. الجمهور هنا لا يجامل، إن أعجبته يضحك، وإن لم يعجبه يتركك ويرحل. إنه مسرح الحياة بامتياز”.
■ الجمهور.. شريك في العرض
الميزة الكبرى لفن الشارع هي التفاعل المباشر مع الجمهور. لا يوجد حواجز، ولا تذاكر، ولا فواصل بين المؤدي والمشاهد. هذا التفاعل العفوي يجعل من الجمهور طرفاً أساسياً في تشكيل العرض.
سعاد، أستاذة جامعية، تقول: “في إحدى المرات كنت مارّة من ساحة الجامعة، ووجدت شبابًا يعزفون الموسيقى ويغنون. توقفت، واندمجت مع الحضور. لحظات جعلتني أرى المدينة من زاوية أخرى. طنجة ليست فقط ضجيج السيارات، بل أيضًا نغم حي ينبض في الشوارع”.
■ رسائل متعددة.. وقضايا مُعلّقة
لا يقتصر فن الشارع على الجماليات البصرية أو الترفيه، بل يتجاوز ذلك ليطرح قضايا اجتماعية وسياسية. فبعض جداريات طنجة تحمل رسائل ضد العنف، التهميش، والبطالة. إحدى الجداريات في حي العرفان تُظهر شابًا يحمل شهادة جامعية ويصرخ: “فين الخدمة؟”.
يقول عدنان، فنان بصري: “نحن نحاول عبر الجدران أن نُعيد للمدينة صوتها المفقود. نُقاوم الصمت بالإبداع، ونحارب التهميش بالألوان. صحيح أن بعض السلطات لا تتقبل أعمالنا، ولكن الجمهور يحتضنها، وهذا يكفينا”.
■ تحديات قانونية ومجتمعية
رغم كل هذا الزخم، يواجه فنانو الشارع عراقيل متعددة. قانونيًا، لا توجد نصوص واضحة تنظم هذا النوع من الفن، مما يضع الفنان في مواجهة مباشرة مع السلطات في حالة الشكاوى أو التبليغات. كما أن بعض فئات المجتمع ما زالت تنظر إلى فن الشارع نظرة دونية.
يقول هشام، راقص هيب هوب: “نشتغل في الشارع ونتعرض أحياناً للطرد أو المضايقات. البعض يرانا متسولين، وآخرون يعتقدون أننا فوضويون. نحن فقط نبحث عن مساحة حرة للتعبير، بدل أن ننحرف أو نغرق في البطالة”.
■ مبادرات شبابية رائدة
رغم التحديات، هناك مبادرات متميزة بدأت تُثمر. من بينها مبادرة “زنقة آرت” التي ينظمها شباب بالتنسيق مع جمعيات محلية، وتهدف إلى تحويل أزقة طنجة إلى معارض فنية مفتوحة. وقد نجحت في طلاء أكثر من 20 جدارًا في المدينة القديمة برسومات تحمل رسائل ثقافية وتاريخية.
كما أن مبادرة “طنجة تعزف” جمعت موسيقيين شباب من مختلف الأنماط الموسيقية ليقدموا عروضاً أسبوعية في ساحة 9 أبريل، حيث يلتقي الراي مع الجاز، والشعبي مع الكناوي، في لوحة فنية نابضة بالحياة.
■ السياح وفن الشارع
الغريب أن فن الشارع في طنجة يحظى بإعجاب كبير من السياح، الذين يرون فيه تعبيرًا حيًا عن ثقافة المدينة. كثير من الزوار يحرصون على تصوير الجداريات، ومشاركة لحظاتهم مع فناني الشارع على مواقع التواصل الاجتماعي.
لوران، سائح فرنسي، يقول: “كل مرة أزور طنجة أكتشف جدارية جديدة أو عرضًا موسيقيًا فريدًا. هذا ما يجعلني أحب المدينة أكثر. فيها طاقة لا تجدها في المدن النمطية”.
■ دعم رسمي خجول
رغم نجاح بعض المبادرات، إلا أن الدعم المؤسساتي يظل محدودًا. فوزارة الثقافة والمجالس الجماعية نادرًا ما تخصص ميزانيات لفن الشارع. وغالبًا ما يتم التعامل مع هذا الفن كمسألة هامشية لا تستحق الاهتمام.
في حديث مع فاعل ثقافي، قال: “نحتاج إلى تغيير النظرة الرسمية لهذا الفن. يجب دعمه بقوانين، فضاءات، وبرامج تكوين. طنجة تستحق أن تكون مدينة فنية بامتياز، وليس فقط مركزًا صناعياً وسياحيًا”.
■ نحو احتضان شامل لفن الشارع
إن تطور فن الشارع في طنجة مؤشر على دينامية شبابية قوية تسعى لتحرير الإبداع من القوالب الجاهزة. غير أن استمرارية هذا الفن تتطلب احتضاناً فعليًا من السلطات، واعترافاً قانونياً، ودعماً لوجستيًا ومادياً.
كما أن الإعلام المحلي مدعو للعب دور إيجابي في الترويج لهذه الفنون، بدل التركيز فقط على السلبيات. والتعليم كذلك يجب أن يدمج هذا الفن في المناهج، كأداة للتعبير والتربية على الجمال.
فن الشارع بشوارع طنجة ليس ظاهرة عابرة، بل هو نبض مجتمع، وصوت جيل، ولوحة مفتوحة على الأمل والتمرد. وبين الجدران التي تنطق، والموسيقى التي تخترق الزحام، ترسم المدينة مسارًا جديدًا، يُعيد الاعتبار للفن كحق للجميع، وكوسيلة لإعادة تشكيل الفضاء العمومي.
فهل تنتبه المؤسسات المعنية لهذا الصوت القادم من الشارع؟ وهل تكون طنجة رائدة في جعل فن الشارع جزءاً من سياستها الثقافية الرسمية؟ أم سيظل هذا الفن محاصراً بين اللامبالاة والتهميش؟ الجواب ستكتبه الأيام… وربما تُرسم على جدار.

104