Web Analytics
أخبار الشمال

ينهض التاريخ من صمته.. هل يصنع برج سيدي ميمون تحوّلًا هادئًا في وجه أصيلة المُزخرفة؟

هل تصالح أصيلة تاريخها؟ برج سيدي ميمون يفتح أبوابه بعد قرون من العزلة

في الزاوية الغربية من أصيلة، هناك برج صامت، لا لافتة تشير إليه، ولا سياج يحميه، ولا حتى اسم محفور على جداره. فقط لسان من حجر يتقدم نحو البحر، كأنّه يسير في نزهة أبدية لا تكتمل. هذا هو برج سيدي ميمون: المعلمة التي قررت فجأة أن تنهض من عزلتها، بعد أن ظلت العشرات من العقود ان تختبئ بين السور والرطوبة والذاكرة المنسية.

المشهد بدأ يتغيّر بهدوء، عندما قرر المجلس الجماعي الجديد بقيادة الدكتور طارق غيلان فتح البوابات المغلقة منذ سنوات، وكأن المدينة تُعيد ترتيب علاقتها بتفاصيلها الصغيرة، تلك التي لا تحضر في بطاقات البريد ولا في عناوين المهرجانات.

لم يُرافق فتح برج سيدي ميمون إعلان رسمي صاخب، ولا تغطية إعلامية كبرى، ولا تدشين برعاية شخصية نافذة. فقط قرار بسيط: فتح الباب. لكن في مدينة مثل أصيلة، حيث صارت الفنون التشكيلية هي اللغة الرسمية للترويج، يُصبح لهذا القرار البسيط طابعٌ ثوري.

“الرسالة ليست في فتح البرج، بل في الاعتراف بوجوده”، يقول رضا العمراني، فاعل جمعوي من أبناء المدينة. “أصيلة تعيش منذ سنوات على واجهتها المُطلية، بينما بقي الجزء الأعمق منها مهمشًا، يُنظر إليه كعبء وليس ككنز”.

ان البرج لا يحتوي على منصات تفاعلية، لا لوحات تفسيرية، لا مرشدين سياحيين. فقط حجارة وأفق وبحر، وكأن المجلس الجماعي أراد ترك البرج يتحدث بلغته القديمة، التي لا تحتاج ترجمة ولا تجميل.

فاطمة زائرة تنحدر من الرباط العاصمة تؤكد في تصريح لها خصت به الجريدة الالكترونية “شمال بوست”: “كأنك تدخل إلى فصل صامت من كتاب مفتوح على البحر، لا يشرح، لكنه يُحرك شيئًا داخلك.”

ذاكرة بلا صوت… هل يحق لها العودة؟

يعود تشييد برج سيدي ميمون إلى القرن الخامس عشر، ضمن شبكة من التحصينات البرتغالية التي أُقيمت حين احتل البرتغاليون المدينة سنة 1471. ورغم أن البرج لم يكن يومًا مقرًّا للحكم، ولا مركزًا عسكريًا رئيسيًا، إلا أنه لعب دور “عين بحرية” متقدمة، تراقب حركة السفن، وتحذر من الغزاة. بُني على هدوء، وعاش على الهامش، ومات تقريبًا بصمت، حين تآكل بفعل الرطوبة والنسيان.

برج سيدي ميمون.. لا لافتة ولا حراسة، فقط ذاكرة تُعيد اكتشاف نفسها.

البرج لا يُقارن من حيث الحجم أو الواجهة ببرج القمرة، الذي يُنسب إلى دون سيباستيان، أو برج القريقية الشاهق الذي صار مرجعًا بصريًا في المدينة. لكنه يملك ما لا يملكه غيره: الصدق الخالص لمعمار دفاعي لم يُشوّه بعد، والقدرة على خلق لحظة تأمل بين البحر والجدار.

منذ إعادة فتحه، بدأ يتسلل إليه زوار جدد: شبّان يلتقطون صورًا للغروب، باحثون في التراث العسكري، وحتى بعض أبناء الحي الذين لم يسبق لهم أن دخلوا هذا المكان من قبل. لا ازدحام، لا طقوس، فقط فضاء بسيط، يقدم تجربة وجدانية لا تشبه شيئًا آخر في المدينة.

هل نحن أمام تحوّل في الفلسفة السياحية للمدينة؟

أصيلة، المدينة الصغيرة ذات الاسم الكبير، عاشت لسنوات طويلة على إيقاع “الواجهة”، حتى صار يُنظر إليها كمنتج ثقافي موسمي، أكثر منها مدينة حقيقية لها ماضٍ متعدد الطبقات. الجدارية طغت على السور، والمهرجان على التاريخ، واللوحات على الحجارة.

لكن يبدو أن شيئًا ما يتغير. فمبادرة فتح برج سيدي ميمون لا تأتي معزولة، بل ضمن مسار أوسع يسعى لتأهيل معالم أخرى، مثل تحرير أبواب مثل باب القريقية، وقد يصل الأمر إلى تخصيص ميزانيات لمواقع أثرية مهجورة في ضواحي المدينة.

إنها فلسفة مغايرة تقول، ضمنيًا، إن السياحة ليست تزيينًا خارجيًا، بل إعادة قراءة صامتة لما صمد من المدينة رغم محاولات الإخفاء.

وفي هذا الصدد أكد احد المستشارين الجماعيين بشمال بوست : “نحن لا نبحث عن جذب الحشود، بل عن تغيير النظرة: تحت كل حجر ذاكرة، وحول كل زاوية برج، رواية نائمة تنتظر من يوقظها.”

بين “الحكم بالصورة” و”الذاكرة بالحجر”

السؤال الآن: هل نعيش لحظة تحوّل حقيقية؟ أم هي فقط ومضة إصلاح في زمن الاستعراض؟

الدكتور طارق غيلان، الذي يقود جماعة أصيلة حاليًا، يبدو واعيًا بضرورة كسر احتكار “أصيلة المهرجان” للسردية الرسمية. ووفق مصادر من داخل الجماعة، فإن فتح برج سيدي ميمون لا يهدف إلى خلق مزار جماهيري، بل إلى تصحيح النظرة المجتزأة التي تعتبر أن المدينة لا تساوي أكثر من مهرجان وجداريات ملونة.

برج سيدي ميمون، بصمته، يعلّم المدينة أن ما يُبقي المكان حيًا ليس فقط اللون، بل الحكاية. أن الجمال لا يحتاج زينة، وأن الأثر لا يطلب جمهورًا ليكون حيًا.

هل تنجح المدينة في التوازن بين الحداثة والذاكرة؟

الرهان الآن ليس فقط في فتح المزيد من المعالم، بل في إعادة إدماجها ضمن الحياة اليومية للمدينة. في أن يُصبح برج سيدي ميمون، لا فقط معلمًا أثريًا، بل جزءًا من السردية المحلية، من الفخر الجماعي، من التجربة التربوية والثقافية.

السياحة الثقافية ليست مجرد منتج، بل حوار بين الإنسان والمكان. وبرج سيدي ميمون، في صمته، قد يكون بداية هذا الحوار. فهل تستمع المدينة؟ وهل نمنحه ما يكفي من الانتباه قبل أن يعود إلى عزلته الطويلة؟

زر الذهاب إلى الأعلى