بقلم:المختار لعروسي-شمال بوست
تعيش مدينة طنجة وضعاً سياسياً متأزماً، يتجلى في اتساع الهوة بين الفاعل السياسي والمواطن المغربي، اذ يغيب الفعل السياسي الفعّال والممنهج او المخطط له، ويغيب معه تأثير الأحزاب السياسية على مجرى الحياة العامة للمواطنين، خاصة في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية صعبة تستوجب حضوراً سياسياً مسؤولاً وفعّالاً، منغرساً في انشغالات المواطنين ومطالبهم بل وحاجياتهم واحتياجاتهم أيضا.
ورغم أن المغرب يزخر بأزيد من 36 حزباً سياسياً، من مختلف المشارب الإيديولوجية (يسارية، إدارية، يمينية، إسلامية، ليبرالية…)، فإن هذا المقال سيتناول واقع الأحزاب اليسارية، التي اضطلعت في لحظات تاريخية بدور محوري في الدفاع عن حقوق الفئات المهمشة، ورفعت شعارات إصلاحية كبرى من قبيل: “الملكية البرلمانية، فصل السلط، والعدالة الاجتماعية، والديموقراطية والكرامة…، وهي شعارات تبنتها فيما بعد حركة 20 فبراير. كما كان لليسار حضور نوعي في عدة إطارات جماهيرية مثل الجمعية الوطنية لحاملي الشهادات، والجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وغيرها.
أين اختفى يسار طنجة؟
يطرح سؤال مركزي اليوم حول مصير اليسار في المغرب عموماً، وفي طنجة على وجه الخصوص، باعتباره تاريخياً حاملاً لمطالب الفئات الشعبية وناطقاً باسم الشارع، غير أن المعطيات الميدانية تشير إلى تراجع لافت لحضور الأحزاب اليسارية، سواء تنظيمياً أو نضالياً، بالرغم من توفرها على قيادات وطنية بارزة تنحدر من المدينة عبد الرحمن اليوسفي وعلي يعتة وأيمن المرزوقي وعلى تاريخ نضالي محلي غني.
فالمتتبع للشأن السياسي بمدينة طنجة،سوف يؤكد ان اليساريين اليوم موجودون بشكل كبير داخل الجمعيات الجمعوية وبعض النقابات والجمعيات الحقوقية، إلا أن هذا التواجد اليومي والميداني لا يستغل سياسيا، الأمر الذي يعتبر قصورا في امتلاك تصور سياسي واستراتيجي مكتمل ومتكامل وفق المهتمين بالشأن السياسي المغربي.
يسار غائب في ثاني أكبر مدينة اقتصادياً وسكانياً
طنجة، باعتبارها ثاني قطب اقتصادي في المملكة المغربية، ومدينة ذات وزن سكاني وسياحي كبير، تضم أكبر مقاطعة بالمغرب (بني مكادة)، وتشكل بوابة المغرب نحو إفريقيا وأوروبا، إلا أن واقع الحال يُبرز غياباً شبه تام للتنظيمات اليسارية في المشهد العام، خاصة بعد الأنتخابات الأخيرة التي نظمت بتاريخ 8 شتنبر 2021.
باستثناء حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي اعتمد على مرشحين ذوي خبرة انتخابية دون انتماء إيديولوجي واضح، فأغلب من يتواجد بحزب الوردة اليوم بالإقليم، سبق وأن مر بأحزاب أخرى مثل التجمع الوطني للأحرار والإتحاد الدستوري والعدالة والتنمية والحركة الشعبية، أما الأحزاب اليسارية الأخرى،فقد شهدت خفوتاً لافتاً، حيث اختفت البيانات السياسية الموجهة للساكنة، وتراجعت معها اللقاءات التأطيرية والندوات المفتوحة التي كانت تميز أحزاباً سياسية مثل حزب الاشتراكي الموحد وفيدرالية اليسار.
أحزاب يسارية بدون شبيبات طموحة
لعل من أبرز الهياكل التابعة للأحزاب اليسارية، والتي تعتبرخزانا حقيقيا للحزب، هي شبيبات الحزب، التي تكون دائما على يسار الحزب، بفضل طموحاتها وعنفوانها وحماسها. فالشبيبات طالما شكلت خزنا حقيقيا للحزب واطارا منتجا للمناضلين، نظرا للمسار السياسي الذي يمر منه الحركة التلاميذية ثم الحركة الطلابية وجمعيات الأحياء فتحمل المسؤولية بأجهزة الشبيبة.
لكن في المرحلة الراهنة فهاته الأحزاب اما لا تتوفر على شبيبات فاعلة، أو موجودة لكنها تفتقد للفعالية، فإذا توقفنا عند حشدت أو حركة الشبيبة الديموقراطية التقدمية، والتي تأسست في طنجة اواخر 2011، وكانت من أنشط الشبيبات الحزبية اقليميا، يمكن الجزم اليوم بالقوم عنها شبه منعدمة اللهم بعض الأنشطة المحتشمة والتي تحافظ على روح البقاء فقط.
أما شبيبة حزب الفيدرالية اليسار الديموقراطي،سواء كانت موجودة أم منعدمة، فالمر لا يختلف بمدينة طنجة، مادام الوجود والتواجد الفعلي لا يمكن قياسه وملامسته، وقياس الأمر يتم عن طريق الفعل والممارسة وهو أمر متغيب، رغم أن الحزب يضم في كيانه تحالف أرعة تنظيمات منها من كانت أحزابا ومنها من كانت تيارات مثل، حزب المؤتمر الإتحادي، وحزب الطليعة، وتيار اليسار التقدمي وتيار البديل.
أما شبيبة حزب التقم والإشتراكي وحزب الإتحاد الإشتراكي، هم أيضا في عداد “الموتى” أو المفقودين، رغم أن شبيبة حزب الوردة كان خزانا حقيقيا للمناضلين اليساريين والتقدميين.
سبات سياسي في لحظة استعداد للاستحقاقات
في الوقت الذي بدأت فيه بعض الأحزاب إعادة هيكلة تنظيماتها تحضيراً للاستحقاقات المقبلة، سواء التشريعية التي من المنتظر أن تنظم سنة 2026، أو الإنتخابات الجماعية والجهوية والتي من المنتظر أن تنظم سنة 2027، يظهر اليسار، خصوصاً حزب “الشمعة” و”الرسالة” و”الكتاب”، وكأنه في سبات سياسي عميق، رغم امتلاكهما لقيادات شابة وذات كفاءة تنتمي للمدينة.
من 20 فبراير إلى اليوم: حلم يتلاشى
لا يمكن الحديث عن اليسار في طنجة دون التذكير بدوره البارز في حركة 20 فبراير، حيث شكّل مناضلوه، خصوصاً الشباب، ركائز الحراك محلياً، وقادوا مسيرات حاشدة طالبت بإصلاحات سياسية ومجتمعية. لكن الزخم النضالي تراجع بشكل كبير، إلى درجة أن مشاركة اليسار في التظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية مؤخراً بدت باهتة، وغاب التأطير السياسي الذي كان يميز حضوره في الماضي.
هذا التحول يعكس تراجعاً تنظيمياً وسياسياً ملموساً، فضعف تمثيلية اليسار في المؤسسات المنتخبة، وغيابه عن عدد من المقاطعات، يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى قدرته على مواكبة هموم المواطنين.
واذا كانت بعض الأحزاب اليسارية في فترات سابقة، استطاعت تعويض عدم تواجدها، بالمؤسسات المنتخبة بتواجدها في المعارك الجماهيرية، فاليوم اليسار غير قادر على خلف فعل جماهيري، ولا قيادته ولا حتى المساهمة فيه بشكل ملموس يترك بصمته، وهو أمر يؤكد تخلي هاته التنظيمات اليسارية التقدمية والحداثية عن سياسة التكوين والتأطير
شهادات من الداخل: أزمة تنظيم أم أزمة تصور؟
تقول “مريم”، مناضلة سابقة في فيدرالية اليسار:
“لم أتلق أي دعوة منذ مدة رغم أنني كنت عضوة نشيطة. هناك جمود واضح. لا اجتماعات، لا مبادرات. الناس فقدوا الثقة لأن السياسيين لم يلتزموا بوعودهم.”
فمنذ الإنتخابات الأخيرة التي نظمت سنة 2021، ربما تم استدعائنا لنشاط داخلي أو اثنين على أكثر تقدير، وهو ما يؤكد حجم تراجع الفعل السياسي المبادر لحزب الرسالة.
في حين يرى “يوسف”، فاعل جمعوي وحقوقي، بهوية يسارية أن:
“الإشكال ليس في الأفكار بل في غياب الحركية الميدانية. الأحزاب تكتفي بردود فعل موسمية دون تواصل حقيقي مع الناس.”
أما “بلال”، عضو حالي بحزب يساري، فيقول:
“القيادة الوطنية لا تفوّض الصلاحيات للفروع المحلية، ما يخلق الإحباط. نريد أن نكون فاعلين، لا مجرد منفذين لقرارات تصدر من الرباط.”
ويضيف كيف يعقل لحزب له أمين عام وطني من طنجة والكاتب الجهوي للحزب على مستوى الشمال من طنجة، والفعل ضعيف جدا
ويضيف “محمد”، مناضل سابق في حزب التقدم والاشتراكية:
“الحزب فقد بوصلة ارتباطه بالجماهير، وتحول إلى مجرد واجهة انتخابية، غائب عن القرى والأحياء الهامشية رغم تواجده في المعارضة أو بعض المواقع التنفيذية.”
أما “عزيز”، من الاتحاد الاشتراكي، فيعلق:
“الحزب جلب محترفي الانتخابات وظفر بعدة مقاعد، لكنه ابتعد عن هويته الأصلية. وبرحيل هؤلاء، سيعود إلى الصمت.”
ويضيف حزب الإتحاد الإشتراكي لم يكن يوما ملجأ لأصحاب الشكارة، لكن اليوم الحزب أصبح يفتح دراعيه، حتى لأعداء الإديولوجية اليسارية.
اليسار بين خطاب التغيير وغياب الممارسة
رغم انسجام الخطاب اليساري مع قيم العدالة والمساواة والحرية والكرامة، ورغم التميز في الخطاب السياسي الذي يتميز به، مقارنة مع الأحزاب السياسية الأخرى، ورغم التضحيات الجسام التي قدمها من أجل الوطن على مر العقود، فإن الممارسة الواقعية لا ترقى إلى مستوى هذا الخطاب. فغياب الجرأة في تقديم بدائل حقيقية، وانعدام اللقاءات المفتوحة، يعمق الفجوة بين الأحزاب اليسارية وقاعدتهم المفترضة، بينما تملأ أحزاب أخرى (شعبوية أو دينية) هذا الفراغ.
نضالات جماهيرية يسارية بدون أفق مشترك
لعل من الأخطر الأمور التي يعاني منها اليسار المغربي عموما وبمدينة طنجة على وجه الخصوص، عدم خلق المشترك بينهم للنضال عليه، فجل العوامل متوفرة لطرح حج الأدنى من البرامج النضالية التي يمكن الإلتفاف عليها، إلا أن عدم وجود الرغبة السياسية، ومحاولة تباهي كل حزب يساري من الأحزاب الأربعة أنه هو الذي يمكل الحقيقة المطلقة، تجعلهم يسقطون في بعض الأحيان في فخ الرفاق الأعداء.
انشقاقات 2021.. أثر بشكل مباشر على يسار طنجة
كحال باقي التنظيمات السياسية، لم يسلم اليسار من الانشقاقات، فقد خرج الاتحاد الاشتراكي من رحم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، والتقدم والاشتراكية من الحزب الشيوعي، بينما تشكل الاشتراكي الموحد من اندماج عدة تنظيمات يسارية سنة 2002.
وقبل انتخابات 2021، غادرت مجموعتان من حزب “الشمعة” نحو فيدرالية اليسار، ما أثر سلباً على قدرة الحزب في تغطية الدوائر بطنجة. فقد ترشح الاشتراكي الموحد في دائرتين فقط بكل من بين مكادة الذيحقق فيه مقعد واحد وطنجة المدينة الذي حقق مقعدين على مستوى المقاطعة ، بينما اكتفت الفيدرالية بمقاطعة طنجة المدينة، وحققت نتائج ضعيفة جدا.
الإنتخابات الأخيرة، أبرزت للعيان أن اليسار الإصلاحي الحقيقي، الملتحم مع هموم الجماهير، مازال لم يستطع امتلاك ميكانيزمات العمل الإنتخابي، رغم أنهم تنظيمات تؤمن بالتغيير داخل المؤسسات المنتخبة، فحتى الخطاب السياسي الموجه للمواطنين يجب تحيينه،حتى يستوعب في صفوفه أبناء الشعب التي تناصر اليسار ذو بعد الجماهيري.
هل يستعيد يسار طنجة بريقه؟
يرى عدد من متتبعي الشأن السياسي، أن الوضع السياسي لن ينعدل ببلادنا، في ظل غياب ممارسة سياسية يسارية متزنة ومستقلة، سواء داخل الأغلبية التي تقود الحكومة، أو في المعارضة، وهو نفس الشيء ينطبق على التسيير الجماعي أو الترابي على مستوى مدينة طنجة، إلا أن استعادة اليسار لدوره في طنجة خصوصا والمغرب عموماـ يتطلب أولا المصالحة مع الذات ومع الخطاب، مع إعادة تقييم الذات و تقييم التجربة الميدانية، والتواصل الجاد مع الفئات الشابة والمهمشة والفئات الهامشية المسحوقة. بالإصافة الى الإنفتاح على نخب مثقفة جديدة، والرغبة في استعادة المناضلين الغاضبين عن تنظيماتهم لسبب من الأسباب الموضوعية، كما تمثل الأزمات الاجتماعية والإقتصادية المتزايدة التي تعيشها بلادنا في الأونة الأخيرة فرصة سانحة لليسار إن أحسن استثمارها، وعبّر عن واقعه بلغة المواطن، لا بلغة النخب.
كما يجب على اليسار أن ينحاز لإديولوجيته، وأن يكون واضحا في تنسيقاته السياسية الميدانية، خصوصا مع الحركات الإسلامية، فهذا التنسيق “الهجين” قد يضعف من تواجد اليسار، ولنا في التجارب الميدانية نمادج عديدة ومتعددة.
ان المغاربة عامة والطنجاويون على وجه الخصوص، جربوا عبر عقود تمثيليات سياسية مختلفة، لكنهم لم يجدوا لحدود الساحة التنظيم السياسي الذي ينتصر لحاجياتهم ومطالبهم على جل المستويات السياسية والثقافية والإقتصادية والإجتماعية، وهي المستويات التي تضمن لهم الحد الأدنى من العيش الكريم، كما أنهم لن يجدوا حرجا إن دعموا اليسار باعتباره نظريا من أقوى التنظيمات المؤمنة بالديموقراطية وبفصل السلط وبالدوران في تحمل المسؤولية، وفي المحاسبة.
فهل ينجح اذن اليسار في استعادة مكانته الحقيقية عبر الانفتاح والتجدد؟ وهل يستغل اليسار المغربي ضعف الخطاب السياسي الحالي ليشكل بذلك قوة ضغط حقيقية داخل المؤسسات المنتخبة وخارجها؟ وهل يعيد اليسار المغربي الهيبة للسياسيين والمنتخبين وللمؤسسات وللأدوار المناطة اليهم؟