تشهد مدينة طنجة، عاصمة شمال المملكة المغربية، خلال الشهور الأخيرة احتقانًا متصاعدًا وغير مسبوق، يتداخل فيه السياسي بالاقتصادي، ويتقاطع فيه الإداري بالمؤسساتي، في مشهد يعكس تحوّلاً بنيويًا في طريقة تدبير الشأن العام المحلي، وصراعًا مفتوحًا بين نمطين مختلفين من الحُكم: نمط تقليدي قائم على منطق التوازنات والمصالح الموروثة، وآخر حديث يسعى إلى فرض سلطة القانون والرقابة المؤسساتية.
هذا التوتر، الذي أخد ألعادا كثيرة ومتنوعة، والذي بدأ في الظهور أو البروز تدريجيًا منذ أشهر، بلغ في الأسابيع الأخيرة مستوىً جعل المدينة في قلب الجدل الوطني، خاصة بعدما تسربت إلى الإعلام تفاصيل ما بات يُعرف بـ”التصادم الصامت” او الخافت بين والي جهة طنجة تطوان الحسيمة السيد “يونس التازي”؛ وبعض المنتخبين المحليين والمنعشين العقاريين، في ظل اتهامات متبادلة تتراوح بين “التحكم الإداري” و”الفساد الممنهج”.
وتتمحور جذور هذا الصراع أساسًا حول ملفات ثقيلة ومعقدة، أبرزها: العقار أو كل ما ارتبط بمحال التعمير، الاستثمار، الرخص الاستثنائية، تدبير العقار العمومي، والمراقبة الإدارية الصارمة التي انتهجها الوالي الجديد، والتي أطاحت، حسب مصادر متطابقة، بعدد من الامتيازات التي كانت تعتبر سابقًا “حقًا Leclerc” لفاعلين سياسيين واقتصاديين على حد سواء.
بل أكثر من ذلك، فالمتتبع للشأن المخلي، سوف يعي أن نبرة والي الجهة في الاجتماعات الرسمية، وتصريحاته الغير المألوفة والتي تنتقد بشكل مباشر ما وصفه بـ”جيوب المقاومة داخل المؤسسات”، شكلت سابقة في علاقة ممثل السلطة المركزية بالمنتخبين، وأحدثت ما يشبه القطيعة التدبيرية بين الطرفين. فقد أصبحت قرارات الوالي تُواجه بمواقف متشنجة داخل المجالس المنتخبة، من طرف بعض المنتخبين، تدخلات بعض المنتخبين بدورة مقاطعة طنجة المدينة نمودجا.
في المقابل، ترى الولاية أن ما يجري ليس صراعًا سياسيًا أو اقتصاديًا، بل هو “مواجهة مباشرة مع مراكز الفساد والتلاعب بالمال العام والعقار العمومي”، وأنها لا تقوم إلا بمهامها القانونية في حماية المصلحة العامة، وتأمين احترام القوانين والضوابط، وتحصين المدينة من الاستغلال غير المشروع للسلطة والموقع.
وسط هذا التجاذب، يقف الرأي العام الطنجاوي متوجسًا، أمام تعطل بعض المشاريع، وتراجع منسوب الثقة بين مختلف الفاعلين، وتزايد المخاوف من أن يؤدي هذا الصراع إلى تعطيل قطار التنمية الذي لطالما افتخرت به طنجة كنموذج حضري حديث. وهو ما يطرح أسئلة حارقة: هل نحن أمام إرادة حقيقية للإصلاح تمارسها الدولة من خلال ممثلها الترابي، والي الجهة ؟
ملف التعمير: من الرخص إلى الريع
يُجمع الفاعلون والمتتبعون أن ملف التعمير بطنجة كان دائما ولا يزال أحد أكبر وأبرز مصادر التوتر في علاقة الإدارة الترابية بالمجالس المنتخبة والمنعشين العقاريين.
فالرخص التي كانت تُمنح في السابق بسرعة ودون تعقيدات كبيرة، أصبحت اليوم تخضع لمسطرة دقيقة ومعقدة، تشمل التدقيق في الوثائق، مراجعة التصاميم، بل وأحيانًا إعادة النظر في الأساس القانوني للمشروع برمّته.
مصدر إداري من قسم التعمير، تحدث لـلحريدة الالكترونية “لادبيشمال بوست”، وأكد أن الوالي أعطى تعليمات صارمة بعدم توقيع أي رخصة لا تحترم دفتر التحملات بشكل دقيق، مضيفًا:ان “المرحلة السابقة كانت تعرف تساهلًا كبيرًا، وهذا ما فتح الباب أمام تجاوزات خطيرة في تصاميم التهيئة، وتفويتات مشبوهة لعقارات الدولة. نحن اليوم أمام محاولة لوضع حدّ لتراكمات طويلة.”
وبحسب معطيات حصلت عليها “شمال بوست”، فإن عشرات المشاريع تم توقيفها أو تجميدها بسبب عدم توافقها مع ضوابط جديدة فرضتها المصالح الولائية، دون مراجعة التصاميم أو فتح باب الوساطة، ما اعتبره بعض المنتخبين المحليين “إلغاءً غير معلن لاختصاصات المجالس”.
توقيف منح الشواهد الإدارية..وتوقف مصالح الناس
لعل من أبرز النقاط التي خلقت توثر كبيرا بين الفاعل السياسي ووالي جهة طنجة تطوان الحسيمة، قرار توقيف منح الشواهد الإدارية، حتى يتمكن عدد من المالكين للشقق والبنايات الغير الحاصلة على الرخص النهائية للبناء من ادخال الماء والكهرباء.
القرار الذي اتخد في عهد الوالي السابق محمد امهيدية، لعدة أسباب وعوامل، لم يجرأ أحد على نقاشها أو رفضها وظل القرار سار ومفعل لمدة تزيد عن السنة ونصف، لكن بعدما تولى الوالي يونس التازي رئاسة ولاية طنجة تطوان الحسيمة، برز للعيان مدى التصادم بشكل مباشر أو غير مباشر مع القرارات الصادرة عن مؤسسة الوالي، اذ هناك من يعتبر ان ردة فعل بعض المنعشين العقاريين وبعض السياسيين مرتبطة اما بالمصالح الذاتية او باقتراب الانتخابات، بعيدا كل البعد عن الدفاع على مصالح البسطاء والفقراء والمهمشبن.
اجتماعات مغلقة وتصريحات نارية: خلف كواليس الصراع
بدأت بوادر الأزمة تنكشف للعيان، منذ الاجتماع الذي عقده والي الجهة مع عدد من المنتخبين والمنعشين العقاريين، والذي خرجت منه تسريبات مثيرة للجدل، أبرزها ما ورد على لسان الوالي:
“حوتة كتخنز الشواري”، منعش عقاري هو سبب في تأخر أو عرقلة خروج مشروع تصميم التهيئة بجماعة اجزناية”، ومن يريد الاشتغال في طنجة عليه أن يحترم القانون، ومن تعوّد على الفوضى، فليبحث له عن مكان آخر.”
هذه العبارة، وفق ما أكدته مصادر حضرت اللقاء الذي نشرت بعض التفاصيله عبر شبكات التواصل الاجتماعي التابعة لبعض المنابر الإعلامية، فجّرت موجة من الاستياء داخل عدد من الكيانات السياسية، بالمقابل عبر عدد من متتبعي الشأن المحلي والسياسي، بارتياح كبير اتجاه القرارات الجريئة التي اتخذها الوالي التازي أو اعتمد عليها والي جهة طنجة تطوان الحسينة.
وفي تطور غير مسبوق، اختار بعض المنتخبين التعبير عن رفضهم للوضع خلال دورة يونيو العادية، من خلال التصعيد ضد عدد من القرارات التي اعتمدتها الولاية، سواء في مجالات الاستثمار أو التنظيم الإداري. بينما يرى آخرون أن ما يجري هو “محاولة لإعادة ترتيب مراكز النفوذ المحلي”، وأن بعض الجهات تخشى فقدان السيطرة التي كانت تتيح لها التحكم في منح الرخص والمشاريع الكبرى.
بالمقابل، تصرّ بعض المصادر الولائية على أن هذه اللقاءات لم تكن سوى فرصة لوضع حدّ لـ”الازدواجية في اتخاذ القرار”، وللتأكيد على أن القانون فوق الجميع، بما فيهم من تعودوا على اختراقه.
كيف ينظر المواطن الطنجاوي لكل ما يحدث؟
بعيدًا عن اختلاف الرؤى بين السلطة المحلية وبعض السياسيين والمنعشين العقارين، أو بالأحرى أصحاب المصالح، يقف المواطن الطنجاوي وسط هذا المشهد المعقّد، يحاول أن يفهم ما يجري، لكنه في الغالب يتساءل فقط عن شيء واحد: لماذا توقفت المشاريع؟ ولماذا يبدو أن كل شيء يراوح مكانه في مدينة لطالما اشتهرت بديناميتها؟
تقول سعاد، 38 سنة، موظفة بإحدى المصالح الشبه العمومية، في تصريح خاص به شمال بوست:”لا أفهم السياسة كثيرًا، كنت ألاحظ أن مشاريع كثيرة لم تُكتمل، لكن اليوم نرى إصلاحات كبيرة تشهدها المدينة تحث توجه والي جهة طنجة تطوان الحسيمة، وهي الأشغال والإصلاحات التي تتجه نحو تغيير ملامح المدينة، وتقوية بنياتها التحثية.”
أما ياسين، شاب يعمل في مجال الخدمات العقارية، فيرى أن الوضع أثر مباشرة على سوق الشغل:
“منذ بداية هذا التوتر، كثير من المشاريع العقارية تجمدت. ، لأن شركات البناء لم تعد تشتغل كما كانت. قد لا يهمنا من المسؤول، لأننا نريد فقط أن نعيش بكرامة.”، لكن طبعا نريد ان تعود المياه الا مجاريها وان تكون علاقة السلطة بالمنعشين العقاريين علاقة تكامل، خصوصا ان الكل يشهد لإستقامة الوالى الحالي.
أما حسن، وهو فاعل جمعوي بطنجة، يقول ان بعض القرارات قد تكون صائبة لكنها تدين رجال السلطة في نفس الوقت، وجب إيجاد حل منطقي لمسلسل الإصلاحات خصوصا أن طنجة مقبلة على استقبال أنشطة ومواعيد دولية أبرزها كأس افريقيا 2026 وكأس العالم سنة 2030.
العديد من المواطنين عبروا عن دعمهم للإصلاح، ولوثيرة العمل التي أطلقها والي الجهة، بالإضافة الى دعمهم لسياسة محاربة الفساد، لكنهم في الوقت ذاته يخشون أن يتحول هذا “الصراع ” إلى أزمة مؤسساتية طويلة الأمد، يكون ضحيتها الأولى والأخيرة المواطن البسيط.
هل من حلول وسط؟ مداخل لإنهاء الأزمة دون كسر المؤسسات
رغم ضبابية المشهد، يتفق عدد من الفاعلين على أن تجاوز الأزمة التي تعيشها مدينة طنجة لا يمرّ عبر “كسر العظام” بين السلطة والمنتخبين، بل من خلال بناء آليات جديدة للتعاون والتكامل، تُراعي منطق الدولة وتُحترم فيه المؤسسات المنتخبة.
يرى الخبير في الحكامة الترابية، الدكتور عبد .تـ في تصريح لـ”لادبيشمال بوست”، أن الوضع الحالي “ينذر بتصادم مؤسساتي خطير إذا لم تُضبط إيقاعاته بسرعة”:
“المطلوب هو تفعيل أدوات الوساطة المؤسساتية، كهيئات التنسيق والتتبع الجهوية، وتمكين المجالس من ممارسة صلاحياتها داخل إطار القانون، مع استمرار الولاية في مراقبة الشرعية.”
ويضيف ذات الخبير، ان المنتخبين يجب ان يحترموا مؤسسة الوالي ويعرفوا جيدا مدى حدود تدخلهم، فجميل جدا أن يقوموا بالإنتقاد لسياسة الوالي، لكن الإنتقاد يجب ان يكون بناء ومرتبطا بمجموعة من العوامل، وأن لا يكون انتقاد السياسي مغلفا بمصالح اخرى، مثل ان يرتدي السياسي عباءة المنعش العقاري”.
وفي هذا السياق، تحدثت مصادر مطلعة ل “شمال بوست” عن وجود مساعٍ غير معلنة لتهدئة الأجواء، شريطة توقف تجييش لوبي السياسة والمنعشين العقاريين، لمهاجمة الوالي ودعم التيار الراغب في رحيله عن طنجة رغم عمله المتفان واجتهاده الكبير.
بالمقابل، هناك من يرى أن المجتمع المدني الحقيقي والفاعل، يجب أن يطرح نفسه كوسيط ممكن في هذه المرحلة، من خلال خلق عدد من المبادرات الفعالة والجادة، أبرزها لما لا الدعوة إلى تنظيم مناظرة جهوية حول التعمير والاستثمار، يُدعى لها ممثلو السلطة والمنتخبون والمهنيون، من أجل تفكيك مكامن الخلل وبناء تعاقد أخلاقي جديد بين جميع الأطراف.
لكن، وإلى حين تحقيق ذلك، يظلّ الرهان الأكبر هو استعادة الثقة داخل المدينة، وهي ثقة لا يمكن بناؤها دون شفافية القرار، وحوار مؤسساتي نزيه، وإشراك المواطن في فهم ما يدور، لا تركه يتابع من بعيد، في صمت مشوب بالخوف أو اللامبالاة.
طنجة، المدينة التي كانت تُقدّم لسنوات كنموذج للنهضة الحضرية والتدبير الحداثي، تجد نفسها اليوم في مفترق طرق حقيقي. بين إرادة تحديث تقودها الدولة عبر ممثلها الترابي، ورفض تيار لوبي السياسة والمنعشين العقاريين، الأمر الذي يدفع نحو تطرح أسئلة عميقة عن مستقبل الجهة، وعن نوعية الحكامة التي نريد ترسيخها.
فهل تنجح طنجة في تجاوز هذا المنعرج الحاد؟ وهل سوف ينتصر السياسيون لمقاربة مؤسسة الوالي الراغبة في القطع مع الفساد والريع واعصاء الفرصة للكفاءات والأطر، أم أن مدينة طنجة فارس البوغاز ستظل رهينة شدّ وجذب يؤجل التنمية ويُعمّق فقدان الثقة ما بين السلطات والفاعل السياسي والمنعشين العقاريين من جهة وما بين المواطنين والفاعلين السياسيين والمنعشين العقاريين؟.
وجدير للذكر، أن هذه الهوة ما كانت لتكبر لولا اعتماد البعض على عدد من وسائل الإعلام الحديثة لتمرير مواقفهم، ومحاولة ايهام الناس أن السلطة هي من تقف ضد مصالح الناس”.