رغم القرار التاريخي الذي اتخذه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، والقاضي بإلغاء شعيرة نحر أضحية عيد الأضحى لهذه السنة، كإجراء استثنائي تمليه الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها المملكة، فقد وجد العديد من الأسر في شمال البلاد، كما في باقي جهات المملكة، صعوبة في التخلي عن واحدة من أقوى الطقوس الدينية والاجتماعية المتجذرة في الثقافة المغربية.
بين من يرى في القرار بعداً تضامنياً وشجاعة سياسية نابعة من حرص ملكي على المصلحة العامة، وبين من لم يستوعب فحوى القرار إما بدافع ثقافي أو اجتماعي، لوحظت مظاهر متفاوتة عبر عدد من مدن الشمال، تعكس أن تفعيل القرار لم يكن شاملاً. فقد تم رصد إقبال، وإن في إطار غير رسمي، على اقتناء الأضاحي أو تعويضها بلحوم الأغنام من أسواق موازية أو عبر البيع المباشر من الفلاحين.
خلفيات القرار: الحكمة في زمن الأزمة
جاء القرار الملكي في سياق اقتصادي واجتماعي استثنائي، يتسم بارتفاع غير مسبوق في أسعار الأعلاف، واستمرار الجفاف للسنة الرابعة على التوالي، وتفاقم الضغط المعيشي على الأسر المغربية بفعل التضخم. وقد أكد البلاغ الرسمي أن القرار الملكي نابع من روح التضامن مع الفئات الهشة، وتخفيف العبء الاقتصادي عن المواطنين، في خطوة تعكس الرعاية الملكية الدائمة للشعب.
غير أن القرار، رغم وجاهته من الزاوية الاجتماعية والاقتصادية، شكّل صدمة وجدانية لدى فئات واسعة من المواطنين الذين يرون في الأضحية طقساً دينياً وعائلياً ذا رمزية خاصة، رغم أن العديد من هؤلاء أنفسهم سبق أن عبّروا عن رغبتهم في تخفيف تكاليف هذه المناسبة.
طنجة: مظاهر مزدوجة بين الالتزام والمقاومة الصامتة
خلال جولة ميدانية لفريق “شمال بوست” في عدد من أحياء مدينة طنجة، من بني مكادة إلى المجمع الحسني والسواني، رُصدت مشاهد متباينة. ففي الوقت الذي بدا فيه سوق بني مكادة هادئاً مقارنة بالسنوات الماضية، تحدث بعض التجار عن نشاط خفي لتسويق الأضاحي خارج أعين الرقابة. أحد سائقي الشاحنات الصغيرة صرّح: “البيع هاد العام سري… كنجيب الخرفان للناس اللي كيعرفوني، وكلشي بعيد على العيون”.
صاحب محل جزارة أشار بدوره إلى ارتفاع الطلب على لحم الغنم قائلاً: “الناس كيشريو اللحم باش يعوضو الغياب الرمزي للأضحية، الكيلو وصل حتى لـ100 درهم”. كما شهدت أسعار “الدوارة” ارتفاعاً كبيراً تجاوز 800 درهم، ما يعكس تشبث الأسر المغربية بطقوس العيد رغم الظرفية الاستثنائية.
تطوان… الوضع لا يختلف كثيرا
في مدينة تطوان، كما هو الحال في طنجة، تفاوتت ردود الأفعال بين من التزم كلياً بالقرار الملكي، ومن اكتفى بشراء اللحم فقط، وبين من اقتنى خروفاً بسرية. هذه المواقف المتباينة تكشف صراعاً داخلياً بين الالتزام بالمصلحة الوطنية والحنين إلى طقوس عميقة الجذور.
الأضحية في الوجدان الجمعي: صراع بين القيم والمقدس
يرى عدد من الباحثين السوسيولوجيين أن الأضحية في المجتمع المغربي ليست فقط ممارسة دينية، بل جزء من البناء الرمزي للانتماء والهُوية. ويرى هؤلاء أن القرار الملكي، وإن كان صائباً على مستوى التقدير السياسي والاجتماعي، يحتاج إلى مواكبة ثقافية ودينية لتيسير تقبله جماهيرياً.
الشراء الخفي: بين الضرورة والرمز
حميد، رب أسرة من حي المجاهدين بطنجة، لم يُخفِ اقتناءه لخروف العيد، قائلاً: “أنا مع جلالة الملك فكل قراراته، ولكن أولادي صعب عليّ نشرح ليهم علاش ماكينش خروف. خبيتو في سطح دار فالقرية وماخليتوش يصيح”. حميد ليس حالة معزولة، فقد شهدت الضواحي نشاطاً موازياً لبيع الأضاحي، خصوصاً في مناطق مثل حجر النحل وسب الزينات.
كاميلية، ربة بيت من حي صدام، قالت: “كل سنة كيعاونوني المحسنين، هاد العام شريت غير اللحم ودرت طقوس العيد باش مايحسوش أولادي بالفرق”.
تساؤلات فقهية ومواقف متباينة
أثار القرار نقاشاً فقهياً، إذ اعتبر بعض العلماء أن الأضحية سنة مؤكدة يمكن تركها للضرورة، بينما يرى آخرون أن القرار ينبغي أن يكون توجيهياً لا إلزامياً. الشيخ عبد القادر، إمام بأحد مساجد طنجة، صرّح قائلاً: “إذا رأى ولي الأمر مصلحة عامة، فالواجب احترام رأيه، لكن لا يجب إلزام الناس دون فتوى شرعية واضحة”.
نبض الشارع: “العيد بلا خروف ماشي عيد”
في سوق بني مكادة، التقت الجريدة بفاطمة، ربة بيت، قالت: “كبرنا على طقوس العيد، صعيب تحرم ولادك منها. القرار فيه حكمة، ولكن التغيير صعيب”. بينما قال محمد، موظف جماعي: “جلالة الملك عطانا فرصة نراجعو أولوياتنا… العيد ماشي فقط خروف، هو اجتماع عائلة ومحبة”.
خاتمة: بين القرار الملكي ووجدان المواطن
ما رصدته جريدة “شمال بوست” في طنجة وتطوان والحسيمة، يكشف أن القرار الملكي الشجاع والإنساني اصطدم بجدار ثقافي عميق. فالأضحية ليست فقط لحماً وشواء، بل هي طقس له رمزيته الاجتماعية والدينية.
القرار الملكي جسّد مسؤولية عظيمة وحرصاً على مصالح الشعب، لكنه يحتاج إلى مرافقة توعوية دينية وإعلامية لتعميق وعي المواطنين بالسياق الذي أُصدر فيه. وبين الحنين للطقوس والواجب الوطني، يبقى النقاش مفتوحاً حول سُبل التوفيق بين الهُوية والواقع، وبين الالتزام الفردي ومصلحة الوطن.