تعيش مدينة أصيلة، جوهرة شمال المغرب، لحظة سياسية فارقة تتسم بالكثير من الترقب والتساؤل، وذلك عقب وفاة محمد بن عيسى، وزير الخارجية الأسبق والرئيس التاريخي للمجلس الجماعي، الذي ارتبط اسمه بتدبير الشأن المحلي لأكثر من أربعة عقود. فقد أسس خلال تلك الفترة نمطاً سياسياً خاصاً به، استند على النفوذ الشخصي والتدبير الثقافي والدبلوماسي، ما جعل من أصيلة نموذجاً استثنائياً في علاقته برجل واحد أكثر مما هو تجربة ديمقراطية تعددية.
لكن برحيل بن عيسى، تطرح المدينة على نفسها سؤالاً محورياً: هل باستطاعتها أن تؤسس لمرحلة سياسية جديدة، قائمة على المنافسة والتعددية، أم أن رمزية الرجل ستستمر في التأثير على حاضر ومستقبل الحياة السياسية محلياً؟
إرث ثقيل وحضور رمزي مستمر
محمد بن عيسى لم يكن مجرد رئيس جماعة محلية، بل شكل طيلة عقود “سلطة رمزية” متجاوزة لموقعه الإداري، جمع بين البعد السياسي والثقافي والدبلوماسي، ونجح في جعل أصيلة محط أنظار محلية ودولية عبر موسمها الثقافي السنوي. غير أن هذه المركزية في شخصه حالت، بشكل مباشر أو غير مباشر، دون بروز بدائل سياسية حقيقية، باستثناء محاولات محدودة كما حدث مع تجربة حزب الاتحاد الاشتراكي في تسعينيات القرن الماضي.
رئيس جديد… استمرار للنهج أم بداية للقطيعة؟
في أعقاب رحيل بن عيسى، انتخب المجلس المحلي الدكتور طارق غيلان رئيساً جديداً، وهو شخصية محسوبة على نفس التيار السياسي الذي شكّل نواة السلطة المحلية لسنوات. غير أن غيلان، رغم ما يشهد له به من نزاهة ودماثة خلق، لا يملك بعد نفس الوزن الرمزي ولا نفس الشرعية السياسية أو الشعبية، ما يجعل موقعه حساساً، خاصة في ظل تصدعات داخلية داخل حزب الأصالة والمعاصرة، الحزب المسيّر للبلدية، والتي تهدد بتغيير موازين القوى مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.
مشهد حزبي هش… حضور شكلي وغياب للهيكلة
رغم تغير السياق، لا يبدو أن الأحزاب السياسية في أصيلة قد التقطت لحظة التحول. فواقع التنظيم الحزبي محلياً يوصف بالهش والمتردي؛ معظم الفروع الحزبية تفتقر لمقرات، ولا تُمارس التأطير، ولا تظهر أي دينامية حقيقية. ويكاد يغيب التفاعل الجاد مع المواطن، مما يجعل العمل السياسي موسمياً، يُختزل في الحملات الانتخابية، دون امتداد يومي في حياة الساكنة.
الحزب الأغلبي (الأصالة والمعاصرة) لا يتوفر على مقر محلي، في حين أن أحزاباً تقليدية كحزب الاستقلال والتجمع الوطني للأحرار تعيش وضعاً تنظيمياً شبيهاً، لا يتعدى مستوى اللجان التحضيرية. أما الأحزاب اليسارية، التي كانت في زمن مضى رقماً صعباً في المعادلة السياسية، فهي اليوم شبه منعدمة، تعاني من التشرذم والانكفاء، وغياب حقيقي للفروع والمناضلين.
أزمة ثقة وانتكاسة في المشاركة
انعكاساً لهذا الوضع الحزبي، يتعمق العزوف الانتخابي في أصيلة، والذي لم يعد مجرد خيار فردي، بل أصبح ظاهرة اجتماعية، تعكس انعدام الثقة في جدوى السياسة والانتخابات. شهادات المواطنين تؤكد هذا الانفصام بين المواطن والفاعل السياسي: “ما كاين لا برامج لا وجوه جديدة”، “التصويت شهادة ولا أحد يستحق صوتي”… عبارات تتردد بكثرة وتختزل أزمة تمثيلية حادة.
النخبة المثقفة… الغياب المربك
ما يزيد الوضع تعقيداً هو الغياب المثير للنخبة الثقافية والأكاديمية عن المشهد السياسي، في مدينة تُعد تاريخياً حاضنة للفكر والثقافة. أسماء وازنة في الإعلام والفن والتعليم تفضل البقاء على هامش الحياة السياسية، معتبرة أن الممارسة السياسية محلياً لا تزال محكومة بمنطق الولاءات الشخصية والصراعات الصغيرة، ولا توفر شروط الاشتغال الجاد والاحترام للكفاءات.
هذا الغياب يحرم المدينة من خبرات مهمة، ومن إمكانية إنتاج خطاب سياسي راقٍ ومشروع تنموي مستند إلى رؤية عميقة ومتعددة الأبعاد.
بين الحنين والاستحقاق القادم
بين من يرى في مرحلة بن عيسى نموذجاً للاستقرار، ومن يطمح إلى بداية سياسية جديدة تتجاوز الشخصنة وتراهن على المؤسسات، تقف ساكنة أصيلة في مفترق طرق. فالانتخابات المقبلة، في ظل مشهد حزبي مفكك ومشاركة شعبية ضعيفة، تبدو أقرب إلى إعادة تدوير الوجوه ذاتها من كونها لحظة تغيير حقيقي.
غير أن الأمل لا يزال قائماً، إذا ما توفرت إرادة سياسية صادقة لتجديد النخب، وإعادة الاعتبار للتنظيم الحزبي، وإحياء جسور الثقة بين المواطن والمؤسسات. الشرط الأول لذلك هو القطع مع الخطاب الوصائي، الذي لا يزال يُروّج له بعض المقربين من الرئيس السابق، وكأنهم بصدد تنفيذ “وصية سياسية”، وهو خطاب يعمق العزوف ويقوّض أي إمكانية للتحول الديمقراطي.
السياسيون والسلطة المحلية… أين الحدود؟
العلاقة بين السلطة المحلية والمنتخبين تثير بدورها تساؤلات حول حدود التدخل والتوازنات. إذ لا يمكن تصور ممارسة سياسية حقيقية دون استقلالية المنتخب عن منطق التعليمات، خاصة في قضايا التدبير المحلي. على السياسي أن يستند إلى شرعية انتخابية وتواصل يومي مع المواطن، لا إلى توافقات فوقية قد تفرغ المجالس من دورها.
أصيلة تنتظر صحوة سياسية
أصيلة مدينة على الهامش، تتوفر على مؤهلات كبيرة، وتستحق نموذجاً ديمقراطياً محلياً يعكس طموحات ساكنتها. غير أن ذلك لن يتحقق ما لم تستيقظ الأحزاب، وتخرج النخبة من صمتها، ويؤمن المواطن أن التغيير يبدأ من صندوق الاقتراع. لقد انتهى زمن الرجل الواحد، وبدأ زمن الأسئلة الصعبة: هل نعيد إنتاج الماضي، أم نبني مستقبلاً مختلفاً؟