سقوط جدار برلين في 9 نوفمبر 1989 لم يكن مجرد حدث تاريخي أزال الحواجز المادية بين شرق أوروبا وغربها، بل كان تحولاً جذريًا في مشهد القارة الجيوسياسي والثقافي. هذا الحدث أنهى حقبة الحرب الباردة، ومن الانقسامات الأيديولوجية التي مزّقت أوروبا لعدة عقود، مؤسساً لحقبة من الأمل والانفتاح. لكن بعد ربع قرن من انهياره، تواجه أوروبا تحديات تتعلق بالهجرة واللجوء، وبدأت القيم التي أرساها سقوط الجدار تخضع لاختبارات جديدة، مع ازدياد الأزمات الإنسانية وتنامي اليمين المتطرف والحركات القومية والشعبوية في أنحاء القارة.
مع انهيار الاتحاد السوفيتي، أصبحت أوروبا وجهة مرغوبة لأعداد متزايدة من الباحثين عن فرص حياة أفضل. استقطبت الاقتصادات القوية في أوروبا الغربية العمالة من الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي، إضافة إلى موجات من المهاجرين القادمين من مناطق تشهد صراعات وحروب، مثل الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا الوسطى. وبفضل العولمة، أصبحت أوروبا فضاء للتنوع الثقافي والهوياتي، مما ساهم في تطوير نسيج اجتماعي غني بتعدده الثقافي.
اعتبرت أوروبا سقوط جدار برلين بداية لانفتاحها وتفعيلا لمبادئ حقوق الإنسان التي غالبا ما تشدقت بأنها من أهم منجزاتها. ولكن مع زيادة توافد المهاجرين، تناسلت التساؤلات حول قدرة المجتمعات الأوروبية على استيعاب ودمج هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين الوافدة من العديد من مستعمراتها السابقة. وظهرت بعض التحديات الأمنية والاجتماعية، خاصة بعد تعرض أوروبا لسلسلة من الهجمات الإرهابية واندلاع أزمة اللاجئين في عام 2015، مما جعل البعض يشكك في جدوى سياسة الانفتاح، وبدأت بعض الدول الأوروبية في بناء “جدران” جديدة، سواء رمزية أو فعلية، لمواجهة تدفقات الهجرة الخارجية القادمة بالخصوص من إفريقيا.
أزمة اللاجئين التي بلغت ذروتها في 2015 كانت نقطة تحول كشفت انقسامات حادة داخل الاتحاد الأوروبي. تدفق الملايين من اللاجئين، لا سيما من سوريا وأفغانستان وإريتريا وإفريقيا هاربين من الحروب والاضطهاد بأمل العثور على الأمان داخل الحدود الأوروبية. ورغم أن بعض الدول، مثل ألمانيا بقيادة المستشارة أنجيلا ميركل، اتخذت موقفًا مرحبًا باللاجئين، إلا أن دولًا أخرى، مثل هنغاريا وبولندا، رفضت استقبالهم بحجة حماية الهوية الوطنية والثقافة المحلية والأمن.
الانقسام بين الدول الأوروبية أبرز قصور الاتحاد الأوروبي في صياغة سياسة هجرة موحدة، وأظهر واقعًا جديدًا يتمثل في أوروبا مجزأة بشأن مسألة الهجرة واللجوء. ورغم أن القيم الأوروبية الرسمية تنادي بالوحدة والتضامن وسمو مبادئ حقوق الانسان ، إلا أن التحديات السياسية الداخلية دفعت بعض الدول إلى الإخلال بهذه المبادئ في الواقع العملي، خاصة مع صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة التي بدأت تروج خطابًا مناهضًا للهجرة تحت شعارات الدفاع عن “الهوية الأوروبية” والخوف من التغيير الديموغرافي ومخاطر “صراع الحضارات”.
يرى البعض في سقوط جدار برلين رمزًا للحرية، لكنه يعود اليوم لينتصب من جديد بسياسات جديدة وبأشكال مختلفة عبر أسلاك شائكة وحواجز على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. من بين مظاهر هذه السياسات الجديدة، إقامة مراكز ـ معسكرات ـ احتجاز للاجئين وتنفيذ سياسات لتوزيع اللاجئين خارج أوروبا عبر اتفاقيات مع دول مثل تركيا وليبيا، ومؤخرا مع ألبانيا. هذه الإجراءات تعرضت لانتقادات شديدة، حيث يعتبرها بعض المدافعين عن حقوق الإنسان انعكاسًا لما يُعرف بـ “القلعة الأوروبية”، مقاربة يدعو أصحابها إلى تحصين القارة وإغلاقها أمام المهاجرين، مقاربة سبق لعالم الفيزياء البريطاني إسحاق نيوتن Isaac Newtoon أن ترجمها في قولته البليغة: ” بنينا الكثير من الحصون، ولم نبن ما يكفي من الجسور”
ساهمت الهجرة في نمو متسارع للحركات الشعبوية والقومية واليمين المتطرف في أوروبا. أحزاب مثل “البديل من أجل ألمانيا” في ألمانيا، و”التجمع الوطني” في فرنسا، و”الرابطة الإيطالية ” وحزب “إخوان إيطاليا” الذي تتزعمه رئيسة الحكومة الحالية في إيطاليا، كلها حققت شعبية واسعة بفضل خطابها المناهض للهجرة. ويرى هؤلاء أن المهاجرين، خصوصًا القادمين من ثقافات غير غربية، لا يتأقلمون بشكل جيد مع المجتمع الأوروبي خصوصا منهم المسلمين ، ما يمثل تهديدًا للهوية الأوروبية المسيحية. وقد وجد هذا الخطاب صدىً لدى قطاعات من السكان الذين يشعرون بأن العولمة والهجرة تؤثر سلباً على نمط حياتهم واقتصادهم.
اليوم، وبعد أزيد من ثلاثة عقود على سقوط جدار برلين، تقف أوروبا عند مفترق طرق حاسم، فإما أن تختار السير على خطى الانغلاق وبناء “حصون” جديدة لحماية مصالحها، أو أن تستلهم قيم سقوط جدار برلين عبر تبني سياسات جديدة تُركز على الإدماج والاحترام المتبادل لمواطنيها دون تمييز بسبب أصولهم أو العرق أو الدين .
تؤكد كل الدراسات الاقتصادية أن الهجرة يمكنها ـ إذا ما أُديرت بشكل فعال ـ أن تشكل فرصة لتعزيز الاقتصاد الأوروبي ومعالجة أزمة شيخوخة السكان وتأمين نظام التقاعد ودعم المبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن الخطاب الشعبوي يخترق المجتمعات الأوروبية إلى حدود تبني الأحزاب التقليدية من اليمين الليبرالي المعتدل والا شتراكيين الديموقراطيين لجزء من هذا الخطاب حفاظا على مواقعه الانتخابية.
تواجه أوروبا في هذه الذكرى تحديا وجوديا بين البقاء وفية للقيم التي احتفلت بها في عام 1989، وأن تبحث من أجل ذلك عن سبل جديدة لتوحيد مساراتها وحل تحديات الهجرة بشكل عادل وإنساني يتماشى مع مبادئ حقوق الانسان التي دأب الغرب على التذكير بريادتها، أو أن تتحول إلى حصن مغلق سينتهي لا محالة بعودتها إلى مرحلة ما قبل الحربين العالميتين ومآسيها.