انتقد سياسيون أكاديميون ومفكرون ، في ندوة “قيم العدالة والنظم الديمقراطية”، ضمن فعاليات “منتدى أصيلة” الـ 45، “الازدواجية المتناقضة”، وسياسة “الكيل بمكيالين”، و”الانفصام الأخلاقي” في السلوك الحقوقي للغرب ومواقفه السياسية، على مستوى تعاطيه مع ما حدث ويحدث في مناطق مختلفة من العالم؛ ووصفوا هذه الازدواجية بـ “النفاق السياسي”، مشيرين إلى أنها حرمت العلاقات الدولية من لحمة المساواة والعدالة، مشددين على أنها تمثل أسوء طعنة وجهت للنظام العالمي.
فالمتدخلون حققوا شبه اجماع خلال انتقادهم الشديد للأنظمة الغربية والنفاق الذي يسم تعاملها الانتقائي مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدين أن أحداث غزة أسقطت عنها القناع وجعلتها غير مؤهلة للمحاضرة في الديمقراطية وحقوق الإنسان أمام دول العالم.
وانتقد المشاركون، خلال النقاش الذي ركز على “الديمقراطية والكونية الإنسانية”، و”مكونات البنية القانونية الجديدة للعدالة” والدبلوماسية الدولية الجديدة والعدالة الكونية”، ما سموه “النكوص الغربي عن القيم الكونية، ودعوا إلى التشبث بالأمل والعمل على مستوى المشترك الإنساني”، مشددين على أن الغرب الرسمي حتى وإن تخلى عن إعمال قيم العدالة بشكل كوني وشامل، فإن هناك غربا شعبيا بدأ ينتعش، رافعا صوت احتجاجه ضد ما يحدث، معلنا تضامنه مع ضحايا الوضعالعالمي المختل.
من جهته أوضح محمد بن عيسى، الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة، في معرض كلمته الترحيبية أن غاية المنتدى من تناول هذا موضوع هو الوصول إلى “تشخيص الاختلال الصارخ”، بين الحرص على تطبيق قيم العدالة والحق لصالح الافراد والجماعات في المجتمعات الغربية، التي تصنف نفسها كمجتمعات ديمقراطية، وبين هذا “المنطق الغريب”، الذي لا يسمح بتمديد تطبيق هذه القيم لتشمل شعوبا ومجتمعات أخرى، تقع جغرافيا وحضاريا وسياسيا، خارج مجال المنظومة الغربية. ورأى وزير الخاردية السابق محمد بن عيسى أن هذه “الازدواجية المتناقضة” التي تقوم على قاعدة “الكيل بمكيالين”، تعكس في نظره مظهرا من مظاهر “الانفصام الأخلاقي، في السلوك الحقوقي للغرب ومواقفه السياسية، إزاء ما حدث ويحدث من مظالم ومآس، وما نراه اليوم من أعمال عدوانية وتوسعية، في مناطق مختلفة من العالم، وفي طليعتها منطقتنا العربية”؛ ولعل هذا، هو ما يفسر تفاقم الأوضاع المأساوية في مناطق بإفريقيا وآسيا، وتصاعد التصرفات العنصرية في أوساط المجتمعات الغربية.
الأحد 27 أكتوبر 2024 – 01:00
في أشبه ما يكون بإجماع لدى المثقفين العرب، عبّر المشاركون في ندوة بعنوان “قيم العدالة والنظم الديمقراطية”، التي نظمت في إطار فعاليات موسم أصيلة، عن انتقادهم الشديد للأنظمة الغربية والنفاق الذي يسم تعاملها الانتقائي مع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان، مؤكدين أن أحداث غزة أسقطت عنها القناع وجعلتها غير مؤهلة للمحاضرة في الديمقراطية وحقوق الإنسان أمام دول العالم.
وقال مصطفى نعمان، الكاتب والسفير اليمني السابق، إن المكون الوحيد في منظومة القانون الدولي صار هو “القوة، ولم يعد هناك شيء اسمه عدالة دولية”، مؤكدا انتفاء وجود أية معايير دولية تقاس بها الأحداث أو يعاقب بها الفاعل.
ووجّه نعمان انتقادات حادة إلى الحكومة الألمانية ووزيرة خارجيتها، حيث قال: “قبل أيام، سمعنا من وزيرة الخارجية الألمانية تصريحا غريبا في تبرير قتل المدنيين والدفاع عن هذه الجريمة”، متسائلا أنه إذا كانت دولة مثل ألمانيا التي عانت من الدمار ومن الدماء التي سالت فوق أراضيها تتخذ من قتل المدنيين مسألة عادية يمكن تجاوزها، فماذا تبقى؟”.
وأضاف الكاتب والسفير اليمني السابق مبينا أمام هذه المواقف الغربية المنافقة، أن الدولة التي قامت بهذه الجرائم (إسرائيل): “صارت بريئة من كل ما تفعل، ولا أحد يستطيع أن يجرمها أو حتى ينتقدها. أما مسألة العقاب فهي مسألة غير واردة أصلا”، مردفا أنه “إذا كانت لديك قوة وحماية غربية، تستطيع أن تفعل ما تريد وتتهم من تريد”.
وزاد المتحدث ذاته مستنكرا: “كيف يمكن، اليوم، لعاقل أن يقبل حديث الغرب حول قيم كونية وعدالة كونية، بعدما فضحت حرب الإبادة في فلسطين زيف دعاوي العواصم الكبرى عن حرصها على الإنسان وحياته وكرامته؟”، معتبرا أنه سيكون “عبثيا وساخرا أن يستمر الغرب في إعطائنا الدروس حول حقوق الإنسان والقيم والعدالة والحريات”، مشددا على أن “هذه الشعارات كلها سقطت”.
وحذر السفير اليمني السابق مما سماه “الخطر المقبل”، إذ إن “ما نشاهده، اليوم، سيخلق جيلا متطرفا يريد الانتقام لإخوانه وأشقائه وآبائه الذين قتلوا أمام أعيننا في محطات التلفزيون”.
بالمقابل أكد “محمد أوجار”، وزير العدل وحقوق الإنسان المغربي الأسبق ، الذي سير الجلسة الافتتاحية، إن “العدالة الكونية مرتبكة في استقدام الذين ينتجون الآن الهمجية على أرضنا العربية، في غزة ولبنان”، وتساءل “كيف يستقيم أن نتحدث عن القيم الكونية وعن العدالة في ظل هذا الصمت العربي المريب، وهذا التواطؤ الغربي العلني وغير العلني”.
وأضاف أوجار أنه “رغم هذا الإحباط والمذلة الكونية، ورغم وصول العدوان إلى أشد أشكال الهمجية، لا بد أن نتمسك بالأمل، ولا بد أن يولد أمل جديد، وهذا الأمل نراه يتمظهر اليوم في مظاهرات واحتجاجات طلبة وشباب الجامعات الأميركية والأوروبية، وفي المظاهرات التي تصدح بها، على الأقل، شوارع المدن المغربية”.
وتشبث أوجار بالأمل، وقال “هناك شيء ما سينهض من هذه الفاجعة، وشيء ما سيحيي هذه القيم في أبهى تجلياتها”.
من جهته، أكد نبيل بن يعقوب الحمر، مستشار ملك البحرين لشؤون الإعلام، أن القيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان بالرغم من رقيها ومثالياتها هي مجرد “شعارات حق يطوعها الكبار حسبما يريدون من أجل مصالحهم وللهيمنة على شعوب العالم”.
وأضاف الحمر متسائلا: “هل توجد في عالمنا عدالة مطلقة؟ وهل النظم التي تقدم نفسها بأنها ديمقراطية تطبق بالشكل الصحيح المبادئ التي تضمنتها دساتيرها ونظمها والتي تعلنها وتؤكد عليها وتحاسب الآخرين عليها؟، أم إنها كلها نظم ومبادئ فصلت على مقاييس، وهي بمثابة أداة ابتزاز تستغلها بعض الدول لتشكل بها ضغوطا هدفها الهيمنة السياسية على الدول والشعوب الأخرى”.
وسجل المتحدث ذاته أن هناك أنظمة ونظريات تبحث عن العدالة والإنسانية؛ ولكنها “فشلت وانهارت وسقطت، وأنظمة ادعت الديمقراطية تنهب بالقوة ثروات الآخرين، وقادة يشعلون الثورات هنا وهناك تحت شعار العدالة والإنسانية؛ ولكنهم سرعان ما تحولوا إلى طغاة”، وفق تعبيره.
أما الأكاديمي والروائي المغربي محمد المعزوز، فسجل، في مداخلة له بالمناسبة، جملة من الملاحظات حول وضع الدبلوماسية الدولية في الوقت الراهن؛ من أبرزها ما سماه الإجماع الدولي على أن القوانين الدولية “أصيبت بسكتة دماغية جعلت العالم في حيرة وتشكك من جدوى حقوق الإنسان ومعاني العدالة وأدوار الدبلوماسية الجديدة”، مؤكدا أن هذه السكتة تضعنا أمام إشكالية تحديد “أدوات مقاربتها: هل بالمنطق الفكري لما قبل 7 أكتوبر2023؟ أم بعدة معرفية ومفاهيمية جديدة تقطع مع كل ما سبق؟”.
وأفاد المعزوز بأن كل ما حدث اليوم وكل ما ارتبط به كحصيلة في النظام العالمي، منذ بداية القرن الحادي والعشرين، يتصل أساسا بـ”مظاهر الأزمات، كانتشار الأوبئة والحروب وأزمة المناخ؛ الشيء الذي بشر بتسويق النموذج الأمريكي الذي يحاول فرض قيمه كقيم إنسانية”، معتبرا أن “هذا الفرض يشرعن للقوة”.
وأبرز الأكاديمي المغربي أن القانون الدولي “لم يعد بناء قانونيا تنظيميا؛ بل بناء فكريا ينتصر لليبرالية الجديدة، حيث لا يمكننا اليوم عزل أهداف القانون الدولي عن أهداف النيو – ليبرالية التي تدعو إلى تبني النموذج الأمريكي كنموذج كوني للقيم”.
واعتبر المعزوز أن هذا الوضع يفرض وقفة فكرية لقراءته بعيدا عن التأويلات القانونية، بل “قراءة إبستيمولوجية فكرية وتاريخية، دون إغفال دور الإعلام الثيولوجي الذي يروّج للقراءات الدينية والتاريخية المؤسطرة”، حسب تعبيره.
بالمقابل قال عبد اللطيف وهبي، وزير العدل المغربي، إنه إذا كانت سيادة النظام السياسي الديمقراطي غير كافية لضمان تحقيق قيم العدالة، فإن النقاش الفكري حول الديمقراطية يتقاطع بقوة مع فكرة العدالة، وأن هذا التقاطع يعبر عن نفسه أولا في أننا عندما نذهب بعيدا في بلورة الحجج لصالح فكرة الديمقراطية فإننا ندافع عن قيم العدالة، كما يعبر عن نفسه ثانيا في أننا عندما نعمق الدفاع عن قيم العدالة نجد أنفسنا نستعمل مرجعيات الأخلاق الديمقراطية والدفاع عن مؤسساتها.
ورأى وهبي أن هذا الارتباط الوثيق بين النموذجين الديمقراطي والعدالة لا يفيد القول إن أحدهما يمكن أن يغني عن الآخر، بل إنه ارتباط يدعونا لليقظة والحذر أمام التأويلات المفرطة لهذا النموذج أو ذاك من أجل الاستغناء عن الديمقراطية باسم العدالة أو الاستغناء عن العدالة باسم الديمقراطية.
وشدد وهبي على أن الديمقراطية التي هي متغير تابع، هي خير لا يؤتي أكله إلا إذا خضع لخيرات اجتماعية وثقافية وحقوقية تصب في قيم العدالة، حيث أن النظام الديمقراطي ضروري لضبط وتنظيم الروابط الاجتماعية، لكنه ليس بكاف ولا هو بالخير الأعلى للإنسانية، أو الخير الوحيد للمجتمع الذي يؤطر فيه كل أنشطته.
ورأى وهبي أن النظام الديمقراطي هو الأفضل عندما يترافق ويمتثل لقيم أخلاقية تنبع وتصب في العدالة، وأن العدالة لا يمكن أن تبقى قيما أخلاقية مجردة تقطن الخطابات فقط، بل تحتاج أن تكون عدالة تتمأسس قيمها في الواقع المعيشي للمواطنة، ولذلك فإن الحركات الديمقراطية كانت دائما تتغذى من أولئك الذين يعتبرون الديمقراطية وسيلة لرفع حظوظ سيادة قيم العدل والمساواة والحق والقانون أمام أولئك الذين يسيطرون على القرار السياسي.
وشدد وهبي على أن الديمقراطية السياسية غير كافية لتحقيق أهدافها، وأن قيم العدالة تبقى ضرورية لدعم مسارها لكي تتحقق على أرض الواقع المعيشي للأفراد والجماعات، ما دام أن الديمقراطية والعدالة هما سيرورتان متلازمتان لبناء المجتمع الحديث.
ورصد وهبي ثلاثة مخاطر أساسية تهدد النظام الديمقراطي وتجعله يعتمد في استمراريته وازدهاره على قيم العدالة ومثلها،وهي: خطر الإنتخابوية، وخطر الفردانية المفرطة، ثم خطر الجماعاتية.
وخلص وهبي إلى أن الشطط في استعمال السلطة ليس قدرا محتوما، شريطة أن يتسلح النظام الديمقراطي بمؤسسة قيم العدالة.
بدوره، قال سيرجيو بيطار، وزير التعليم السابق بتشيلي، إن الديمقراطية وحقوق الإنسان تحتاج إلى بناء نظام عالمي جديد، مشيرا إلى أن أميركا اللاتينية، كالمنطقة العربية، عاشت ازدواجية المعايير في الديمقراطية الغربية وعانت منها.
وسجل بيطار أن دول أميركا اللاتينية عانت من ويلات “الديكتاتورية الأميركية”، مشيرا إلى أن العالم يشعر بالحزن إزاء ما يجري في فلسطين.
وقال إن التضامن بين أميركا اللاتينية والدول العربية لديه أسس صلبة، وأنه سيتطور في المستقبل. وأضاف، منتقدا الوضع العالمي والهيمنة الغربية: “نرى بألم العجز والتواطؤ لعدة دول غربية التي تتحدث عن الديمقراطية لكنها تضع العراقيل لوقف العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين”. ورأى أن “هذا السلوك الغربي يمثل انحطاطا أخلاقيا وسياسيا بادعاء شيء وفعل شيء مخالف له”.
أما “عمرو موسى”، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية ووزير الخارجية المصري السابق، فقد شدد على أن الديمقراطية لم تعد تعمل على تكريس قيم الحرية كما أنها لم تعد تساعد على المستوى الكوني في تحقيق الإنصاف أو إحقاق الحقوق وحفظ الكرامة الإنسانية، مشيرا، في هذا الصدد، إلى ما جرى ويجري في غزة وما يحدث للفلسطينيين، حيث “الدموية والدمار والعقاب الجماعي والإبادة الجماعية تطبق بواسطة من وصفت بأنها الديموقراطية الوحيدة في المنطقة”.
وشدد موسى على أن هذه الدولة (في إشارة إلى إسرائيل)، التي توصف من طرف الغربيين بأنها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، إنما “تحميها الديمقراطيات العالمية أو التي تدعي بأنها ديمقراطية تحمي الحقوق وتطالب بالمساواة والعدالة، وهو ما لا يحدث مطلقا وفيه تزوير كبير”.
وانتقد موسى استغلال الديمقراطية الغربية للفيتو، مشددا على أن تعديله يتطلب تعديل النظام الدولي القائم، في وقت يخضع فيه قرار تعديل الفيتو لفيتو، ليبقى من الصعوبة بمكان أن تتعرض المنظومة للتعديل، من غير تغيير شامل للأسس التي يقوم عليها التعاون الدولي وتسير عليه العلاقات الدولية.
وانتقد عمر موسى الكتابات التي تستهدف الإسلام وتعمل على تشويه سمعته، بدعوى أنه يقوم على العنف والقسوة والدموية. وأضاف: “ها نحن نرى بأعيننا من يستخدم العنف والقسوة والدموية والدمار الشامل”. وتساءل: “نتحدث عن قيم العدالة والحرية والمساواة باعتبارها قيما ديموقراطية عليا. من أصبح يصدق ذلك؟”.
وتحدث موسى عن تراجع الاقتناع بالقيم التي يتحدث عنها الغرب، وبعلاقتها بالديمقراطية وفلسفتها التي صارت تبرر وتحمي خرق القانون الدولي.
وكشف عمر موسى عن ازدواجية المعايير، التي وصفها بالنفاق السياسي، وقال إنها حرمت العلاقات الدولية من لحمة المساواة والعدالة، مشددا على أن هذه الازدواجية في تطبيق المعايير على المستوى الدولي تمثل أسوء طعنة وجهت للنظام العالمي للسلام وللأمن الدوليين، وأنها المدمر الأساسي لسلطة مجلس الأمن ومصداقيته، وكذا لميثاق الأمم المتحدة ونصوصه ومبادئه، ولمصداقية عدد من المؤسسات كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
ورأى عمرو موسى أن السياسات القائمة على ازدواجية المعايير التي تنبع عن فكر وممارسة الديموقراطيات الغربية تبقى أكبر عدو للاستقرار العالمي ولمستقبل العالم.
هذا قال ميغل أنخيل موراتينوس، الممثل السامي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة ووزير الخارجية الإسباني السابق، إن الديمقراطية، التي تشكل مجموعة الأنظمة والآليات السياسية التي تهدف إلى تحقيق العدالة، تمر اليوم بأزمة على المستوى الدولي، لا سيما على مستوى التمثيلية والمشاركة.
ودعا موراتينوس، في هذا السياق، إلى بناء قيم جديدة للديمقراطية والعدالة، وإلى التحرك الجماعي لتطبيق هذه القيم بشكل صحيح.
أما نبيل فهمي وزير الخارجية المصري السابق، فقد انتقد ازدواجية المعايير، مشيرا إلى أن المبادئ الديمقراطية تطبق وفق الهوى والمصالح. ورأى أن النظام الدولي يعيش على وقع الضبابية والتناقض وعدم الاستقرار، ليفقد مصداقيته، مذكرا، في هذا الصدد، بما يحدث في غزة.
وانتقد فهمي فقدان المرحلة الحالية للبوصلة، في ظل تغليب الرؤية الساعية وراء المصلحة التكتيكية في غياب أي توجه استراتيجي وطني أو دولي، وتجاهل لقواعد القانون الدولي. ورأى أن المرحلة الحالية، بما تثيره من أسئلة، هدمت كل الإنجازات التي تم البناء عليها منذ أكثر من نصف قرن، مع إشارته إلى أن الأمر يتعلق كذلك بعدم استقرار المنظومة السياسية حتى داخل الدول الكبرى، وضرب مثلا بالصراع الانتخابي الجاري في الولايات المتحدة بين المعسكرين الجمهوري والديمقراطي.
ودعا فهمي دول العالم العربي إلى لعب دور إيجابي وفعال في بناء مستقبل أفضل، من خلال العمل الجماعي وتبني سياسات ترتكز على الواقعية والقيم الكونية، مع احترام مبادئ الديمقراطية والعدالة.
كما قالت السيدة سميرة رجب، وزيرة الإعلام السابقة والمبعوثة الخاصة للديوان الملكي البحريني، إن للديموقراطية أشكالامتنوعة، تختلف باختلاف آليات تنفيذها، وبطرق تطبيقها في الواقع الاجتماعي. ورأت أن العنصر الأهم في كل هذه الأشكال والتصنيفات هي المبادئ الأساسية المعلنة، والتي يجب أن توفرها ممارسة العملية الديموقراطية محليا ودوليا، ومنها سيادة القانون، وضمان حقوق الإنسان والحريات الأساسية، والعدالة والمساواة.أما الحديث عن مصطلح العدالة، وما ينبثق عنه من مفهومي العدالة الاجتماعية والعدالة الكونية، تضيف رجب ، فهو مفهوم تشوبه نفس التعقيدات والاختلافات بين الباحثين والمفكرين والمختصين بسبب حالة عدم الاتفاق البالغ. وحتى في صورة وجود بعض التوافق حول المفهوم العام لمصطلح العدالة الاجتماعية، تضيف رجب فإنه سرعان ما يعود الاختلاف حول مجالاته ومكوناته باختلاف الدلالات والانتماءات والمعتقدات السياسية والسياقات المستخدمة.
وركزت رجب على التناقض الصريح بين محاولات فرض مفهوم الديموقراطية الليبرالية حول العالم، والتنكر الفاضح للعدالة الكونية المزعومة لباقي شعوب العالم، مستندة في هذا التحليل إلى وقائع تعبّر عن ضعف المؤسسات الدولية أمام غطرسة الدول العظمى وتأثيرها القوي، بل تَحَكّمَها، في عمل هذه المؤسسات الدولية وفرضها لقرارات أممية دون غيرها على شعوب العالم، وما نتج عنه من إخلالات في تطبيق القانون الدولي تتناقض مع مبادئ ما يسمى بالديموقراطية والكونية الإنسانية، وتتسبب في تداعيات خطيرة على شعوب ودول العالم التي باتت تئن تحت وطأة تصاعد الحروب والصراعات غير المتكافئة، وظروف القتل والإبادات الجماعية والتهجير والتشرد، إضافة إلى تفاقم معدلات الفقر والأمية وانتشار الأمراض والأوبئة التي تهدد البشرية.
ورأت رجب أن اقتراح وتنفيذ القوانين الدولية والقرارات الأممية تبقى، في أغلب الأحيان، حبرا على ورق، وتُجسد قوانين وعدالة يحكمها الأقوياء، مبنية على مصالح الدول القوية ولا علاقة لها من قريب أو من بعيد بفلسفة العدالة الكونية المزعومة، والتي عادة ما يُروَّج لها عبر الديموقراطية الليبرالية.
وخلصت رجب إلى أنه لا يمكن قلب المعادلة الحالية المجحفة في مفاهيم العدالة الكونية المتطرفة والمنحازة لصالح الدول القوية، والدول التي تملك أكبر قوة من أسلحة الدمار الشامل، لتكون هذه المعادلة أكثر عدالة وإنسانية في حق الدول الأصغر والأقل تسليحاً وقوة، إلا بالبدء بعملية إصلاح جذرية في هيكلية ومؤسسات الأمم المتحدة لتضمن جميع الدول وشعوب العالم حقوقها العادلة.
قال الأستاذ الجامعي الإماراتي عبد الخالق عبد الله إن الديمقراطية غاية من الغايات الإنسانية، مشيرا إلى أنها تقوم على أربع قيم إنسانية جامعة كبرى، هي العدالة والمساواة والحرية والكرامة.
وتساءل عبد الله هل حققت الديمقراطية الغايات منها، ليجيب بنعم ولا، قبل أن يتوسع في حديث لا، بالإشارة إلى أن الشواهد كثيرة، أبرزها ما يحدث في غزة.
من جهته، انتقد الباحث والمفكر العراقي حسين شعبان النكوص الغربي عن القيم الكونية، مشددا على أن ذلك يثير الكثير من الأسئلة. ورأى أن هذا النكوص لا يقتصر على القوى اليمينية العنصرية، وإنما يمتد إلى اليسار.
وانتقد شعبان بعض المفكرين الغربيين الذين تخلوا عن القيم الإنسانية، بانحيازهم إلى العنف والقسوة ضد الضحايا في فلسطين وغيرها. كما انتقد المعايير المزدوجة والانتقائية في التعاطي مع الديموقراطية، ورأى أن التجاوز الغربي لقيم العدالة وللقرارات ذات الصلة يطرح أكثر من علامة استفهام حول القيم التي يدعو إليها.
كما انتقد شعبان النكوص العربي الذي قال إنه وصل درجة الاندثار، رسميا وشعبيا، وكأن ما يحدث من مآسي لا يعني أحدا.
وتساءل شعبان “ما العمل؟”، ليجيب بالأمل والعمل، في نفس الوقت، في سبيل المشترك الإنساني، مشددا على أن الغرب الرسمي حتى وإن تخلى عن تطبيق عادل لهذه القيم النبيلة، فهناك غرب شعبي بدأ ينتعش، أكدته موجات التضامن الأخيرة مع الفلسطينيين.
ودعا شعبان إلى إعادة الاعتبار للقانون الإنساني الدولي الذي ينتهك من قبل دولة إسرائيل على مرأى ومسمع من العالم. وتحدث في هذا الصدد عن العمل على مستوى العدالة الانتقالية الدولية.
وشدد شعبان على أنه حتى وإن كانت بعض الحكومات الغربية قد تخلت عن القيم المشتركة، فإن ذلك لا يعني أن هذه القيم، من قبيل الحرية والمساواة والعدالة والشراكة والمشاركة والسلام والتسامح، لم تكن صحيحة.
وخلص شعبان إلى أن الجرائم الموصوفة ومكتملة الأركان، المادية والمعنوية، التي تحدث، ستلقي بثقلها على الغرب قبل غيره، وهو شيء أظهره ارتفاع الاحتجاجات الجارية وحملات التضامن مع الفلسطينيين، أخيرا.
فيما قال عبد الله سليمان الشيخ سيديا، وزير المالية الموريتاني السابق، إن الشعوب العربية تحتاج إلى العدالة الدولية لأنها أضعف من غيرها، مشيرا إلى أن هذه العدالة، هي، على الأقل، نوع من تهيُّب القوي الظالم من أن يصل إلى مداه في القوة وتدمير الآخر.
وانتقد الشيخ سيديا ازدواجية المعايير، مع دعوته إلى العمل على تخطيها، للوصول إلى عدالة يستوي فيها القوي والضعيف. وشدد على أن هذا المبتغى ليس سهلا، من منطلق أن الضمير البشري لا يكفي وحده لتحقيق ذلك، وأنه لابد من قوة ضغط داعمة، من المجتمع المدني والرأي العام.
هذا وقد انتقد محمد تاج الدين الحسيني، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس وعضو أكاديمية المملكة المغربية، ما قال إنه مهازل أصبح يشهدها العالم، الذي أضحى يستحق لقب “قرية شمولية”، كل شيء فيها معروض في الواجهة وعلى الجميع.
وانتقد الحسيني الاستكانة على مستوى العربي، وردود الفعل المتواطئة غربيا، مع ما حدث ويحدث في منطقة الشرق الأوسط.
ورأى الحسيني أن طرح إشكالية بنية العدالة الكونية كأساس للنقاش فيه نوع من استفاقة ضمير للخروج من الوضع القائم.
وشدد الحسيني على أن العالم تغير في ظل التطور التكنولوجي. وأضاف أن القانون الدولي لا وجود له، خصوصا بعد أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها. وتساءل “هل يمكن أن نتصور اليوم إمكانية تطور الوضع الحرج إلى ما هو أفضل؟”، مشيرا إلى أن أي نظام لا يتغير إلا بعد حرب عالمية قوية، كما كان الحال خلال الحربين العالميتين، الأولى والثانية. وتساءل: هل الأقوياء مستعدون للتنازل عن مواقعهم ويتركوها لآخرين؟
ورأى الحسيني أن حربا ثالثة لا يمكن أن تقع، لأنها تعني نهاية الحضارة البشرية. ثم تساءل: هل نحن محكومون بالنظام القائم؟
واستحضر الحسيني ميثاق الأمم المتحدة، مشددا على أن حق الفيتو هو “مقلب حقيقي”، وأنه حق يمكن أن يحتفظ به عن طريق فيتو جديد من أي طرف.
واستبعد الحسيني أن تعمل بعض التجمعات الاقتصادية، على غرار “البريكس”، على إعطاء توازن للمنظومة العالمية، بفعل “العشوائية” التي قامت عليها عملية تشكيله.