في الساحة الدولية، ثمة طريقان ممكنان بالنسبة للدول من أجل السهر على مصالحها:
1-اللجوء إلى ‘القوة الخشنة” Hard power أي القدرة على التأثير على مسرح الأحداث الجهوية و/ أو العالمية عبر قوتها العسكرية أو الاقتصادية.
2-بفضل ما يسمى ب”القوة الناعمة” Soft power، ويتعلق الأمر بمفهوم طرحه جوزيف ناي في بداية السبعينات والذي تحول إلى مرجع أساسي في دراسة قوة الأمم. ويُقدِّر ناي بأن الدولَ ليست وحدها الفاعلة في مجال التنظيم الدولي وتوازنات القوة بل هناك دور متنامي ومحوري للمجتمع المدني، لوسائل الإعلام، للشخصيات ذات الصيت العالمي، للرياضة والثقافة، في تغيير الرؤى والآراء حول هذا البلد، تينَك الفكرة أو تلك الظاهرة.
بفعل هذه القوة الناعمة، بإمكان بلد مفتقر للأدوات الرادعة للقوة الخشنة لعدد من الأسباب كصِغر رقعته الجغرافية أو ضعفِه الاقتصادي-العسكري أو قلةِ موارده البشرية، أن يغطي على هذا العجز ويتجاوز معيقاته كما هو الحال مثلا بالنسبة لدولة قطر.
بفضل قناة “الجزيرة” وروافع أخرى من القوة الناعمة من بينها قناة بيين سبور، فريق باريس سان جرمان، ودورها المحوري في المفاوضات بين إسرائيل وحماس، إلخ. أصبح هذا البلد ذي الثلاثة مليون نسمة (منهم ثلاثمائة ألف قطريون فقط) يُضرب له ألف حساب على الساحة السياسية الدولية ويثير إعجابَ بل وحسدَ دول كبيرة لم تُحسن تفعيل وتطوير آليات القوة الناعمة.
إذا أسقطنا هذا المنظور على المغرب، على بلدٍ لا يملك إلا نزرا قليلا من أدوات القوة الخشنة، ليس ثمة أدنى شك بأن قوته العلائقية Puissance relationnelle، ديبلوماسيتَه الأثيلَةَ المتبصرة، التوهجَ الدولي على المستوى العلمي والفني والرياضي لعدد كبير من مواطنيه، مسلمين ويهودا، فضلا عن ثقافته العريقة، هي عناصر مؤسسة ومؤثثة لقوته الناعمة ومفسِّرة لفاعلية هذه القوة.
ويمكن القول إن هذه العناصر ظلت تتفاعل مع بعضها البعض وتنضج على نار هادئة إلى أن جاءت ملاحم فريقه الوطني لكرة القدم في كأس العالم الأخيرة لتكتسي بذلك أبعادا إعلامية وجيوسياسية أصبح معها المغرب حديث العالم فتتحسن بذلك بشكل كبير صورةُ البلد على المستوى الدولي.
وبالفعل، جاءت الجائزة قبل أن يرتد إلينا طرفُنا بمنح المغرب تنظيم كأس العالم لسنة 2030 مع إسبانيا والبرتغال لتتأكد بذلك فاعلية وقوة هذه القوة المغربية الناعمة، ولا يخفى على أحد أن تنظيم هذا الحدث العالمي ستكون له انعكاسات كبيرة جدا على البنيات المُهيكِلة للبلد وعلى ماكرواقتصاده خلال العَشرية القادمة.
من الزاوية الجيوسياسية دائما، إذا كانت جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية-الأوكرانية والحرب الإسرائيلية على غزة بانعكاساتها السيئة على الحركة الملاحية في خليج عدن والبحر الأحمر، قد بيَّنت هشاشة الطرق العالمية التقليدية للتزود بالسلع، فإن كل المؤشرات تدل على أنه من الآن فصاعدا ستُوجه الجيوسياسةُ الاقتصادَ وبأن العالم سينتظم في مناطق نفوذ متعددة، أقل حجما، يُّوطَّن فيها الإنتاج الصناعي بغرض ضمان التزويد بمختلف المنتوجات الأساسية.
أمام مثل هذا السيناريو الجيوسياسي، أمام تضخم جامح وانكماش اقتصادي واضح وكل ما يترتب عنهما من احتكاكات اجتماعية وعودة اليمين المتطرف بمآسيه، المغرب وإسبانيا اليوم، على الرغم من الخزعبلات التي تطرحها بعض اللوبيات الإسبانية، السياسية منها والإعلامية، حول السر الواقف خلف العلاقات الجيدة والتفاهم الاستراتيجي بين زعماء البلدين، يمضيان بخطى واثقة لاستباق ما سيأتي حتما مستلهمين تعاونهما البناء من تلك الحكمة الصينية القائلة بوجود فرصة وراء كل أزمة.
اليوم، هذه العلاقات الممتازة والبراغماتية مكَّنت من المضي قُدما في تفعيل ما يمكن نعته ب”مشروع القرن”، مشروع ربط القارة الإفريقية بالأوروبية، والذي سيُمكِّن من:
-أولا: وضع الأساسات لمنطقة ترابط واندماج اقتصادي في غرب المتوسط ستسمح بتقريب مناطق الإنتاج مع الحفاظ على تنافسية كبيرة أي التحكم في تكلفة الإنتاج.
-ثانيا: اجتناب الانقطاعات في التزود بالسلع القادمة من الدول الأسيوية بفعل الصراعات المزمنة في خليج عدن والبحر الأحمر.
-ثالثا: الربط المادي للقارتين الذي سيُمكِّن، علاوة على تحفيز المبادلات التجارية والاقتصادية بين أوروبا وإفريقيا، الاقتصاد الإسباني من استغلال الفرص التي يمنحها المغرب بفضل علاقاته المتميزة تاريخيا مع عديد من الدول الإفريقية.
-ورابعا: ربط هذا المحور الاقتصادي مع المحور الآخر الذي تشكِّله “المبادرة الأطلسية” التي أطلقها مؤخرا ملك المغرب والتي تحظى بدعم دول الساحل، دول مجلس التعاون الخليجي، الولايات المتحدة الأمريكية، إسبانيا، فرنسا وألمانيا وغيرها، والتي سيكون فيها ميناء الداخلة منصة أساسية.
أهمية هذا المشروع الكبير تكمن في تداوله اليومي والواسع على مختلف وسائل الإعلام العالمية التي تسلط الضوء يوما بيوم على تقدم دراساته وعلى استعداد شركات عامية كبرى في الاستثمار في جوهرة الهندسة المدنية هذه.
لقد كان يحلو للشاعر الأمريكي الكبير جون بيريمان أن يقول بأنه علينا “السفر دائما في اتجاه خوفنا”، ولعمري أنها أنسبُ وأبلغُ جملة لتلخيص تاريخ ومستقبل العلاقات بين المغرب إسبانيا.
نعم، السفر هو الأهم وليس ثمة شك أن البلدين تقدما كثيرا في علاقاتهما خلال هذا السفر، وكما تقول الحكمة العربية: لا تُسمِّ الرجل صديقا حتى تختبرَه في ثلاث: تُغضبه فتنظر غضبَه بُخرجه من الحق إلى الباطل، عند الدينار والدرهم، وحتى تسافر معه”.
يالله VAMOS