يعتبر التعاون الأمني بين الرباط ومدريد حجر الزاوية في العلاقات المغربية الاسبانية، وعبرها مع باقي دول الاتحاد الأوروبي، وتتصدر الهجرة غير النظامية ومحاربة الاجرام الدولي والإرهاب عناصر التعاون بين البلدين منذ استقلال المغرب سنة 1956 إلى اليوم. ووقعت إسبانيا مع المغرب العديد من الاتفاقيات في هذا المجال، أهمها اتفاقية الصداقة، حسن الجوار والتعاون سنة 1991 مع الحكومة الاشتراكية الثانية في إسبانيا برئاسة فيليبي غونثاليص، واستمر هذا التعاون بوتيرة متفاوتة حتى في مراحل التوتر بين البلدين، بما في ذلك أزمة جزيرة ليلى مع حكومة اليميني خوصي ماريا أثنار. وأثبت المغرب دائما عن قدرات استثنائية في مجال محاربة الاجرام الدولي والإرهاب، وكان لأجهزة الاستخبارات المغربية والأجهزة الأمنية دور كبير في رصد العديد من الخلايا الإرهابية في إسبانيا ومجموعة من دول الاتحاد الأوروبي، كما أسفر التعاون الأمني بين البلدين عن تفكيك مجموعة من عصابات التهريب الدولي للمخدرات.
عرفت هذه العلاقات قفزة نوعية مع حكومة بيدرو صانشيص الحالية، خصوصا بعد إعلان مدريد عن موقفها من النزاع المفتعل في الصحراء المغربية وتصريح رئيس الحكومة الاسبانية في رسالة موجهة إلى العاهل المغربي من طرف رئيس الحكومة الاسبانية يوم 18 مارس 2022 عن دعمه لمشروع الحكم الذاتي المقترح من طرف المغرب كحل وحيد وممكن وواقعي لهذا النزاع.
تأتي الزيارة التي قام بها وزير الداخلية الاسباني في حكومة بيدرو صانشيص الثانية فرناندو غراندي مارلاسكا يوم الجمعة 19 يناير الماضي إلى الرباط لتعزيز هذا التعاون الأمني وتطويره، وهي الزيارة الثالثة عشرة لوزير الداخلية الاسباني منذ تشكيل حكومة صانشيص الائتلافية الأولى سنة 2018. كما تأتي هذه الزيارة في ظرفية خاصة تتميز بتنامي وصول المهاجرين غير النظاميين إلى التراب الاسباني خلال سنة 2023، وبالخصوص إلى جزر الكانارياس، وكذلك احتدام الجدل السياسي الداخلي في إسبانيا حول الهجرة والمهاجرين ، والتخوف من تداعيات حرب غزة واحتمالات اندلاع عمليات إرهابية في دول الاتحاد الأوروبي الداعمة لإسرائيل. هذا ما يفسر حجم الوفد المرافق للوزير الاسباني الذي شمل المديرة العامة للعلاقات الدولية والهجرة والعميد المفتش العام للهجرة والحدود، ورئيس قيادة الحدود والشرطة البحرية والحرس المدني.
تأتي هذه الزيارة في وقت عرفت فيه الحدود الاسبانية وصول متزايد لعدد المهاجرين غير النظاميين من الأفارقة، وصل في نهاية سنة 2023 إلى 56.852 مهاجر، 70% منهم تم ضبطهم في شواطئ كنارياس. وتراهن إسبانيا على المزيد من التنسيق مع المغرب كشريك استراتيجي وتعزيز التعاون الأمني بين البلدين بعد توقيعها لاتفاقيات تعاون ثنائية في مجال الهجرة والأمن مع السينغال وموريطانيا وزامبيا.
تراهن الدبلوماسية الاسبانية كذلك إلى تعزيز التعاون الأمني بين البلدين وكذلك تنويعه ونقله إلى مجالات يفرضها تطور التكنولوجيا الرقمية في العالم ، وفي هذا السياق تأتي زيارة وزير الداخلية الاسباني لتوسيع مجال التعاون ونقله إلى مجالات جديدة ومثيرة للقلق في علاقتها بالإجرام الدولي والإرهاب، وتناول الطرفين في هذه الزيارة موضوع تحسين وتطوير التعاون في مجال الرقمنة والأمن السيبيري أو ما يسمى بالدبلوماسية الرقمية إلى جانب الدبلوماسية الثقافية ودبلوماسية العمل المدني والتعاون والتنمية.ووصف وزير الداخلية الإسباني، فيرناندو غراندي مارلاسكا خلال زيارته يوم الجمعة، التعاون بين المغرب وإسبانيا في مجال مكافحة الإرهاب والهجرة غير النظامية والتعاون الأمني، أفضل نموذج للتعاون معروف بين أوروبا وإفريقيا، في ظل ضغط الهجرة المتزايد والتهديدات الإرهابية المتزايدة والمحتملة جراء التوترات التي يعرفها الشرق الأوسط.
وأبرز الوزير الإسباني في ندوة صحفية عقب الاجتماع، بعض نماذج من المجهودات التي يبذلها المغرب في مكافحة الهجرة السرية، حيث أشار إلى أن تدفقات المهاجرين غير النظاميين على سبتة ومليلية على سبيل المثال تراجع بنسبة 41 بالمائة في سنة 2023 مقارنة بالسنة الفارطة. كما تحدث الوزيرمارلاسكا في ذات الاجتماع عن المجهودات الثنائية التي تبذلها مدريد والرباط في مكافحة الإرهاب، حيث أشار بأن التعاون الثنائي بين البلدين في هذا المجال هو أكثر فعالية، سواء في التصدي او المتابعة، مشيرا إلى أن المغرب وإسبانيا شاركا العام الماضي في 14 عملية لمكافحة الإرهاب وقد أسفرت عن اعتقال أكثر من 80 شخصًا.
من مكاسب الدبلوماسية المغربية الجديدة في علاقتها بإسبانيا، أن عجلة العلاقات المغربية الاسبانية عرفت قفزة نوعية وسترتقي إلى مستويات تفوق نظيرتها الفرنسية المغربية، وستأخد مسارا يتميز لأول مرة بالنِدِّية والتعاون المتكافئ، وتقديري أننا أمام تعزيز مسلسل من المصالحة والتعاون ليس فقط على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، بل كذلك على المستوى الثقافي الذي شكّل جزءا مهما من المفاوضات التي كانت موضوع لقاء القمة بالرباط في السنة الفارطة، والذي تمخض عن 19 اتفاقية ثنائية بين الحكومتين تتعلق بكل مجالات العلاقة بين البلدين، بداية بالتعاون الأمني ونهاية بدعم التعاون الثقافي والأكاديمي.
في الختام لا بد من الإشارة إلى بعض التحديات المتعلقة بالأداء الدبلوماسي الاسباني، وبالخصوص المتعلق بالتعامل غير اللائق في بعض القنصليات الاسبانية مع المواطنين المغاربة أثناء تقديم طلبات الفيزا، تعامل غير لائق، وأحيانا مُهين يطال حتى النخب المغربية التي يُعَوَّل على دورها في تمتين هذه العلاقات وتطورها، وأذكر بالخصوص القنصلية العامة لإسبانيا في تطوان. ولنا عودة لهذا الموضوع لا حقا وبتفصيل.