Web Analytics
مقالات الرأي

الدبلوماسية الثقافية ونموذج سفارة المغرب في باناما   

 عبدالحميد البجوقي - باناما

أقلعت الطائرة من مدريد على الساعة الحادية عشرة وخمسين دقيقة، الطائرة من الحجم الكبير العابر للمحيطات، سرب المضيفات ينتقل بين الركاب كخلية نحل، ربان الطائرة يرحب بالركاب ويخبرنا بأن مدة الرحلة من مدريد إلى باناما 10 ساعات ونصف، وعن أحوال الطقس عند الوصول ودرجات الحرارة والرطوبة، ويتمنى للركاب رحلة ممتعة.

انتهيت من وجبة الغداء والتحفت بغطاء أحمر توزعه شركة الطيران على الركاب وأمسكت برفيق هذه الرحلة الطويلة، اخترت كتاب “Menudas Quijostorias” عن إسبانيا سيرفانطس، كتاب تسخر فيه الكاتبة والصحفية نييفيس كونكوسترينا Nieves Concostrina من سخرية سيرفانطيس ومن إسبانيا القرن 16 ومن الكنيسة، ومن النبلاء ومن طرد الموريسكيين..

وصلت الطائرة إلى مطار باناما الدولي على الساعة الرابعة والنصف مساء بالتوقيت المحلي، وجدت في استقبالي شاب مغربي موظف في السفارة المغربية بباناما بيده لافتة صغيرة تحمل إسمي، حيَّاني بحفاوة ورافقني لختم جواز سفري قبل التوجه إلى مرآب المطار حيث كان ينتظرنا سائق السفارة المغربية البانامي الذي استقبلني هو الآخر ببشاشة وترحاب، وحملني فورا إلى الفندق لآخد قسطا من الراحة قبل العشاء الذي نظمته سفيرة المملكة المغربية في إقامتها بالمناسبة.

مناسبة الزيارة، دعوة كريمة من السفارة المغربية لتأطير ندوة عن الادب الهسباني في المغرب ضمن فعاليات معرض الكتاب في دورته 22 بدولة بناما تحت شعار جميل ومعبر ومثير للتفكير  ” الهوية والأصل”، وبالمناسبة التعريف بمنجزي الروائي وتقديم  روايتي الأخيرة “عريس الموت”، وكذلك المشاركة في نشاطات أخرى نظمتها السيدة السفيرة موازية لمعرض الكتاب، ولقاءات صحفية وزيارة للمكتبة المغربية الموجودة بمقر البرلمان اللاتيني في بنما Parlantino.

وصلت إلى إقامة السفيرة على الساعة السابعة مساء، إقامة جميلة في الطابق الخامس عشر من عمارة ضخمة شاهقة مُطلة على المحيط الهادي، مشهد بانورامي رائع، مدخل فسيح ومرتب بعناية يزينه العلمين المغربي والبنمي ومُجسم لخريطة المغرب كاملة من طنجة إلى الكويرة، جناح الاستقبال والصالون الفسيح مرتب بشكل أنيق وبلمسة ديكور فنية بديعة تمزج بين البساطة والرقي وجمالية الترتيب والألوان، وعرفت أثناء حديثنا خلال العشاء أن السيدة السفيرة كانت مهندسة ديكور الاقامة وصاحبة اللمسة الفنية البديعة. 

استقبلتني السيدة السفيرة بحفاوة وترحيب وبلباس مغربي أنيق ووجه بشوش زادها جمالا، بادرتني بالسؤال عن الرحلة وتعبها وعن الإقامة في الفندق قبل أن تُذكِّرني بتفاصيل البرنامج واللقاءات الثقافية الموازية. السيدة السفيرة تهتم بكل التفاصيل، من راحة ضيوفها وشروط إقامتهم إلى برنامج الزيارة ومحطاتها، وتُشرف شخصيا على ترتيب ومراقبة تنفيذ أدق تفاصيل البرنامج بصرامة على غير عادة من عرفتهم من المسؤولين، تجمع بين سلاسة ودفئ التواصل الشرقي مع صرامة غربية في التوقيت وتنفيذ المهام في أدق تفاصيها.. 

بشاشة معالي السفيرة بشرى بودشيش وترحيبها وبساطة تفاعلها وتواضعها يمتزج بهيبة ووقار وعبئ الحامل للمسؤولية، بريق عينيها يكشف عن  ذكاء وعمق التفكير وتراكم التجربة، تملك قدرة هائلة على التواصل، تُتْقِن الانصات بقدر ما تَنْفُذُ بسلاسة عبر تبادل أطراف الحديث إلى اكتشاف آراء ومواقف مُحاورها بأناقة ودبلوماسية رفيعة، تصدح في التعبير عن آرائها بجرأة وشجاعة بقدر ما تتلافى إحراج مُخاطَبِها وتوحي له بالثقة ودفئ إنساني رفيع يدعوان للاطمئنان. 

لحظات قليلة انتقلت بعدها السيدة السفيرة من بروطوكل الاستقبال إلى تفاصيل المشهد السياسي في باناما، وعن إكراهات العمل الديبلوماسي ومتاعبه وتعقيداته. تتحدث بثقة في النفس وبتعابير تنم عن إصرار وعزيمة في تحقيق أهداف مهمتها, تنتقي بدقة الكلمات والتعابير لشرح طبيعة مهامها، لكنها لا تفتأ تُذَكِّر أن دورها لا يتعدى تنفيذ توجيهات من رَسَمَ منذ ما يزيد عن عقدين من الزمن السياسة الخارجية المغربية، ومن اختارها لتطبيقها في بانما، وقبل ذلك في مهام أخرى، وعلامات الانتشاء بذلك بادية على ملامحها.

في اليوم الموالي كان موعدي مع السيدة السفيرة لتناول وجبة فطور مغربية دسمة تجمع بين البساطة والذوق الرفيع قبل أن ننطلق إلى مقر معرض الكتاب في وسط المدينة بمُركَّب ضخم وعصري يحمل إسم أطلابا ATLAPA، كانت زيارة تفقدية للمعرض وأروقته المتعددة ووضع اللمسات الأخيرة لمشاركة المغرب في فعاليات المعرض الدولي للكتاب ببنما.

بقليل من البروطوكول والكثير من التواضع تتجول السيدة السفيرة في أروقة المعرض، ولا تتوقف عن تبادل التحية مع المسؤولين والصحافيين وبعض المواطنين، كان باديا أنها علامة ديبلوماسية رفيعة في هذا البلد، وهي بلباقة تتواصل مع الجميع بالكثير من الاهتمام والانصات وتتوقف لأخد الصور دون ملل أو ضجر مع كل من طلب منها ذلك، ولا تتوقف عن تقديمي للجميع والتعريف بشخصي المتواضع ككاتب وروائي مغربي، وعن مشاركتي في الندوة التي تنظمها السفارة المغربية مساء نفس اليوم بفضاء معرض الكتاب.

كان موعد الندوة التي تنظمها السفارة المغربية على الساعة الخامسة مساء، وكنت متعبا بفعل الرحلة الطويلة وفارق 7 ساعات من الزمن بين مدريد وباناما، ارتشفت ما يكفي من القهوة وتوجهت إلى مقر المعرض الذي كان على بعد خطوات من الفندق، في باب القاعة المخصصة للندوة وجدتُ خلية من طاقم السفارة تُسابق الزمن لترتيب المكان وتزيينه بلافتة عن النشاط الثقافي وخريطة للمغرب وصورة لملك المغرب ولافتات أخرى تعريفية بالمغرب وبالمنجزات الكبرى، لكن المثير للإستغراب والاعجاب في نفس الآن أن السيدة السفيرة كانت تتقدم الطاقم بنفسها، لا تتوقف عن إعطاء التوجيهات واستقبال الضيوف والانتباه للأعطاب الممكنة، لا تفوتها التفاصيل الصغيرة والكبيرة، بما في ذلك قنينات الماء وتفاصيل أماكن أخد الصور وحجز الصف الأمامي من الكراسي للضيوف الرسميين. فعلا كان مشهدا مذهلا لم أتعود عليه في علاقاتي مع مسؤولين رفيعي المستوى من أغلب الجنسيات، تيقنتُ حينها أن سفيرة المغرب في بنما نموذج للدينامية والدبلوماسية العصرية، تجمع بشكل مُبهر بين التواضع وهيبة المسؤولية، لا تفوتها كل تفاصيل الإخراج الجيد دون التفريط في دورها الدبلوماسي الرفيع في الاستقبال والحديث مع المدعوين بكل مواقعهم وأصنافهم.

باستثناء عنوان محاضرتي، لم تسألني السفيرة عن مضامين المداخلة أو تفاصيلها، كنت متوجسا من أي محاولة للتوجيه غير المباشر، وكنت كما العادة مهيأ لرفض أي تدخل في حريتي واستقلاليتي بدبلوماسية، لكن بصرامة ووضوح، وهذا ما يعرفه كل من خبِرَني. الدفاع عن الوطن واجب كل المغاربة، لكن الدفاع عن الدولة وتوجهات الحكومة هذا من مهام مسؤوليها وليست مهمتي باستثناء ما يتعلق بالثوابت الوطنية.

انطلقت الندوة بحضور متنوع من سياسيين ومثقفين وأساتذة وطلبة تتقدمهم نائبة وزيرة الثقافة في حكومة بنما والكاتب العام لنفس الوزارة، افتتحت الندوة السيدة السفيرة بكلمة مقتضبة عن نشاط السفارة المغربية في بانما وسياسة الدولة المغربية الهادفة إلى تمتين علاقات التعاون بين المغرب وبنما، واهتمامها بالعلاقات الثقافية كرافعة للعمل الدبلوماسي والسياسي. وجاء بعدها دوري لتأطير الندوة في موضوع الأدب الهسباني في المغرب، موضوع دسم ومتشابك حاولت أن أقف فيه عند معطى أساسي يتعلق بمدى حضور هذا الأدب في المغرب، وهل هو حبيس الجامعات والدراسات المعمقة فقط ؟، أم أنه في متناول المهتمين والمتابعين لهذا الأدب وللعديد من الأدباء اللاتينيين في المشهد الثقافي المغربي. أمام ضيق الوقت اختصرت مداخلتي في مقدمة عن تطور علاقة المغرب بهذا الأدب، والتذكير بحضورأسماء لاتينية لامعة في المغرب، مثل الشاعر الشيلي بابلو نيرودا، والأرجنتيني بورخيص، والكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والتشيلية غابرييلا مسترال وغيرهم، وعن شغف المغاربة بهم ، وتحدثت عن دور القرب الجغرافي إلى حدود التماس مع إسبانيا في تعزيز هذا الحضور، حضور يكاد يصل إلى العامة من المواطنين المغاربة وبالخصوص في شمال المغرب، حضور ترك بصماته في الأدب المغربي ووفر له التميز عن الأدب العربي، حضور أدبي له انعكاسه في المسرح المغربي وفي الموسيقى وفي الفن والرسم التشكيلي وفنون أخرى، وهو في تقديري ليس حضورا حديث العهد أو مرتبط فقط ببداية الحضور الاسباني في المغرب في عهد الحماية الاسبانية لشمال المغرب والصحراء مع بداية القرن الماضي، بل حضور تعود جذوره إلى القرن السادس عشر مع اكتشاف أمريكا اللاتينية وطرد الموريسكيين من إسبانيا، وهو بذلك من روافد الهوية الثقافية للمتوسط وشمال إفريقيا.

في جو من التفاعل والاعجاب بالموضوع انتهى بنا النقاش إلى الحديث عن الهوية الثقافية المغربية وعلاقتها بإسبانيا وبالضفة الشمالية من المتوسط وبأمريكا الجنوبية، وكان رأيي أن هذه الهوية متوسطية وعابرة للقارات، هي في نهاية المطاف وكما يقول الكاتب الاسباني خوان غويتيصولو مزيج مختلط ومتعدد الثقافات، والثقافة الهسبانية بعلاقتها مع إسبانيا ساهمت في تشكيل الهوية الثقافية المتوسطية، هوية تشكلت من اختلاط العديد من الثقافات، من عربية وإفريقية وأمازيغية وإسبانية وأخرى، هوية متعددة تتغذى من مجموعة لا متناهية من المنابع والجداول، هوية تنتفض على كل ما هو تقليد مكرر وعقيم لنمودج “الهوية الأصلية”، مقابل هوية أصيلة بتطورها وتفاعلها مع المحيط ومع العالم. من هنا تقديري أن الحضور الهاسباني في المغرب قديم ورافد من روافد تشكل الهوية الثقافية المغربية المعاصرة. 

تحت ضغط زمن الحصة المخصصة للندوة وانطلاق نشاط ثقافي آخر في نفس القاعة ، وإكراهات أجندة الضيوف غادرنا القاعة، لكن دسامة الموضوع ورغبة بعض المشاركات والمشاركين في مواصلة النقاش انتهى بنا في حلقة دائرية وسط فضاء المعرض ذكرتني بحلقات النقاش في الساحات الجامعية في الثمانينيات من القرن الماضي، وانتقل بنا الحديث إلى تاريخ الأدب العالمي الذي وصفه أحد المتدخلين قبل مغادرة القاعة بأنه ليس أصيلا ولا وطنيا مسيجا بالحدود والجغرافيا، وأن محاولة نسخ هذا التاريخ أو تأصيله وتحنيطه تجعل منه في نهاية المطاف أدب عقيم. 

في تعقيب جميل ومفاجئ وقفت أستاذة لتاريخ الأدب اللاتيني في جامعة بانما عند الأدب العظيم الذي نشأ مع الراهب المرشد هيتا  إلى سيرفانتس، ومرورا بالأدب العربي الخالد الذي يمتد من المتنبي إلى ابن خلدون، وسطَّرت على تقديرها أن ذلك تجسيد لعالمية الفكر والادب المستند أساسا على التبادل والنفاذية والتعدد.

ذكرتني الأستاذة حينها بمقال للكاتب الاسباني خوان غويتيصولو صدر بجريدة الباييس سنة 1984 يقول فيها أن أعمال خوان رويز، رامون يول، سان خوان دي لا كروث، أو المتخصصين في أعمال ابن حزم، ابن قزمان، ابن عربي أو ابن حزم، لا تدع مجالا للشك أن إبداعاتهم السردية أو الشعرية ليست نقيَّة ولا خالصة، بل هي مختلطة ومتجانسة، وقد تم تخصيبها عبر علاقتهم واستفادتهم من التراث العالمي، ومن تعدد وثراء تعايش ثقافات مختلفة، حدودية وهجينة.

ضيق الوقت وحماس وتفاعل المشاركين والمشاركات في الندوة حال دون استكمال متعة الحديث في هذا الموضوع، وكان مسك الختام الفقرة الثانية من البرنامج  قدمتُ فيها رواية “عريس الموت” التي أثارت اهتمام المشاركين والمشاركات، بداية بالعنوان ونهاية بملخص تفاصيل أحداث الرواية وعلاقتها بالحرب الأهلية الاسبانية التي دفعت بمئات آلاف الاسبان للهجرة إلى دول أمريكا اللاتينية، وعن تيمة الحب في زمن الحرب، قصة حب بين “المورو” عبدالرحمن المقاتل في صفوف الجنرال فرانكو وأسيرته المقاتلة الشيوعية روصاريو، تيمة شبهتها طالبة بانامية في حديث ثنائي بعد اختتام الندوة بتيمة رواية غابرييل ماركيز في روايته” الحب في زمن الكوليرا”.

يُتبع..

زر الذهاب إلى الأعلى