اليوم أحد من آخر أيام شهر أغسطس ، مدريد فارغة تقريبا من سكانها، الجو ربيعي على غير عادته في العاصمة الاسبانية، استيقظ سهيل يشكو كعادته من بعض الصداع في رأسه، أخد هاتفه النقال وأسرع بالخروج متوجها نحو حديقة الريتيرو القريبة من بيته، عرج كعادته على كيوسك (محل) بيع الجرائد مقتنيا جريدة الباييس التي كان مدمنا على قراءتها. حيَّته بائعة الجرائد السيدة أنطونيا بحفاوة وهي تناوله الجريدة وبادرته مازحةـ كيف حالك مورينو؟ لعلك تستمتع بمدريد في فصل الصيف ههههه
ابتسم سهيل وأجابها قبل أن يواصل طريقه:
ـ متعة مدريد في الصيف لا تضاهى سيدة أنطونيا، مدريد تحتفي بعشاقها صيفا..
توقف في طريقه إلى حديقة الريتيرو في مقهى بالوما(الحمامة) على زاوية شارع ألكالا الكبير، كان مقهاه المفضل لتناول فطوره كل أحد، قهوة بالحليب وقطعة من أكلة الطورطيا الإسبانية. أخد مكانه المعهود في زاوية من المقهى يتصفح جريدة الباييس، توقف عند صفحات الملحق الأسبوعي يقرأ تقريرا عن الأفارقة الذين حاولوا العبور إلى مدينة مليلية، وعن تفاصيل تدخل القوات المغربية والاسبانية بعنف ترك 23 قتيلا من الأفارقة الأبرياء ومئات الجرحى، وعن تبريرات السلطات المغربية والاسبانية لهذه المجزرة، وعن تصريحات تشير إلى أيادي خارجية وراء هذا العبور المنظم.. كان سهيل يبتسم بغيض كلما قرأ مثل هذه التبريرات، ويتساءل كيف يمكن تبرير قتل شباب عُزّل، قطعوا آلاف الكلومترات والصحاري هربا من الموت جوعا أو بسبب الحروب، هل تنص القوانين الدولية والوطنية على أن الهروب من الجوع والعبور غير القانوني للحدود جريمة، كيف تتحول الضحايا إلى جناة ومجرمين. يكاد سهيل أن يكمل قراءة التقرير، حين وقفت ناطاليا النادلة السمراء تحيِّيه بابتسامة وترحيب، ظل يتأمل في منعرجات جسدها اللاتيني وهي تضع فطوره على المائدة، وكعادته خاطبها:
ـ كيف حال الجميلة ناطاليا ؟
لماذا هذا الامتحان من الرب؟ أنت تعرف ياخواكين أنني مؤمنة بقضاء الرب وإرادته، لكنني لا أتصور الحياة بدون دينا
ناطاليا شابة كولومبية من مدينة كالي، كانت سببا في إدمانه على تناول فطوره في مقهى بالوما كل يوم أحد..
احمرّت وجنتاها وابتسمت كعادتها بغنج وهي ترد:
ـ شكرا كارينيو(عزيزي)
سجلت طلباته على هاتفها النقال ثم استدارت بسرعة وظل يتابعها بنظرات لا تخلو من الشهوة، كان معجبا حتى الثمالة بجسمها اليافع الطري ومنعرجات ما فوق ساقيها المحزومتين بسروال جين. كان حزينا غاضبا بسبب موضوع المهاجرين الأفارقة، ومنتشيا برائحة عطور نطاليا حين سمع حديثا في مائدة قريبة من مائدته يحجبها عن نظراته عمودا ضخما يتوسط المقهى، من الأصوات عرف أنهما رجل وامرأة، حاول أن يعود بخياله لمنعرجات جسد ناطاليا حين سمع المرأة تحكي بحزن لمرافقها أن حالة دينا Dina ساءت بعد العملية الجراحية، سمعها تقول لمرافقها الذي نادته باسم خواكين:
ـ قضينا ليلة بيضاء لم نذق فيها طعم النوم يا خواكين، ملامح الألم كانت بادية دينا منذ أسبوع تقريبا وساءت حالتها منذ يومين، وأصرَّت أختي أن نأخذها للمصحة، بعد ساعات من الفحص والأشعة أخبرونا أنها تعاني من ورم في رأسها، ويجب استأصاله في الحين، وبعد نصف ساعة كانت دينا في غرفة العمليات. بعد العملية الجراحية الناجحة ، أرسلت المصحة عينة من الورم لتحليله، وجاءت النتائج مفجعة، ورم سرطاني خبيث، وليس من حل سوى إخضاعها بعد التعافي لحصص الشيميو..
تعددت الأسباب والموت واحد
شهقت السيدة وسمع سهيل صوت خواكين يناديها بكارمن ويواسيها:
ـ لا تبكي عزيزتي كارمن، فعلا فاجعة تدمي القلب، لكن لا زال هناك أمل، ويبدو أنها تتحمل حصص الشيميو بشكل جيد، ألا ترين أنها تقاوم، وأن حالها يتحسن يوم عن يوم..
لم تتوقف كارمن عن البكاء، وخواكين يواسيها، وجد سهيل نفسه متماهيا مع الحكاية، لم يستطع مقاومة فضوله وأصاغ السمع من جديد ليتابع تفاصيل الحكاية، انتابه شعور بالتضامن والحزن لما أصاب دينا، وأثاره نحيب وبكاء كارمن، يبدو أنها أمها، كان صوتها يتقطع وهي تردد:
ـ لماذا؟ لماذا هذا الامتحان من الرب؟ أنت تعرف ياخواكين أنني مؤمنة بقضاء الرب وإرادته، لكنني لا أتصور الحياة بدون دينا، ولا أتحمل أن أراها تتعذب.
تألم سهيل لحال المرأة ولفاجعتها، وعاد به خياله إلى صور الأفارقة الذين قضوا نحبهم في معبر مدينة مليلية الحدودي، شباب في مقتبل العمر لم يرتكبوا جرما سوى محاولة العبور نحو ما يعتبرونه ضفة الأمان والنجاة ، حتى مشاهد الألم والفواجع غير عادلة في أسبابها، ارتشف ما تبقى من قهوته ولسان حاله يقول:
” تعددت الأسباب والموت واحد”
نادى على نطاليا يطالبها بالحساب حين سمع السيدة تنادي على دينا ، وتشير لمرافقها أنها حركت أصابعها، وأنها رغم العملية الجراحية تبدو منتشية، سمعها تخاطب دينا بحنان:
ـ كيف حالك كارينيو (عزيزتي)؟ كيف حال دينتي الجميلة.
دا كلب الست يا ابني وانت تطلع ابن مين يا سماعين ..
كاد يقفز سهيل من كرسيه، لم يصدق أن المسكينة دينا ترافق أمها، كيف لم يسمع صوتها ولا أنينها، لعلها في حالة نقاهة ورافقتها للمقهى للتنفيس، لم يستطع سهيل مقاومة فضوله وتظاهر بالرغبة في الذهاب للمرحاض ليتعرف على دينا، هذه المسكينة التي أثارت عطفه، ومصابها الذي أحزنه، تخيلها شابة في مقتبل العمر. وقف مسرعا متجها نحو المرحاض، وما أن تجاوز العمود الذي كان يفصل بينه وبين مائدة كارمن وخواكين حتى تجمد في مكان، كانت دهشة سهيل بادية على وجهه،اختلطت عنده مشاعر الغضب برغبة في الضحك وإحساس فضيع بالغبن، ظل لثوان يحملق في دينا وهي موقعة على أرض المقهى بجانب كارمن ،كانت تحرك أذنيها وذيلها.. دينا هذه كلبة ، أحس برغبة في الصراخ ” دينا كلبة يا عالم”، نعم كلبة محترمة تتمتع بحقوقها كاملة وزيادة، دينا كلبة أوروبية حضيت بكل هذا الحب والاهتمام ومصاريف باهضة للعلاج، هذه دينا الكلبة الأوروبية وليس أمير السوداني القادم من إقليم دارفور،أمير الذي قضى نحبه وهويحاول العبور إلى بلاد دينا، دينا المسالمة الوديعة وليس أمير السوداني ورفاقه من المجرمين الذين حاولوا الاعتداء على جنة دينا وإنسانية كارمن وخواكين..
أحسَّ سهيل بنظرات الاستغراب البادية على وجه كارمن وخواكين، كان الارتباك باديا عليه، وخاطب السيدة بابتسامة ماكرة
ـ بالشفاء إن شاء الله للمصونة المحترمة دينا..
استدار سهيل مسرعا يبحث عن ناطاليا، دفع الحساب وغادر يواصل طريقه نحو حديقة الريتيرو.
واصل سهيل سيره يفكر في دينا وفي الموتى الأفارقة، وحضرته حينها مقاطع من شعر الزجال المصري أحمد فؤاد نجم وغناء الفنان شيخ إمام عن قصة فقير مصري مع كلب سيدة من أغنياء مصر أثناء تجوله بجانب قصرها في حي الزمالك ، وانطلق سهيل يردد مقطع من الأغنية غير آبه بنظرات المارة
” دا كلب الست يا ابني وانت تطلع ابن مين يا سماعين ..
هيص يا كلب الست هيص، بكرة يعملو للكلاب وزارة وياخدوك عليها رئيس”
هيص يا دينا هيص
هيص يا دينا والموت للإنسان الرخيص..
116