Web Analytics
مقالات الرأي

ريان .. الملحمة النسائية

إنه ريان..شهيد الفاجعة، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

ونحن تتخطى أسبوعنا الثالث عن الحدث، وعن التفاعل معه بمدركاتنا الإنفعالية العاطفية نحو الموضوعية التقييمية، والذي جذب وحول بوصلة العالم الممتد واقعا وافتراضا، نحو مرتفع جبلي، شامخ جغرافيا، مقاوم تاريخيا، وهاش تنمويا .. إلى حيث تستكين قرية ” إغران ” بجماعة تمروت، التابعة لإقليم شفشاون شمال مملكتنا المغربية. وهي إحدى القبائل التي استوطنت سلسلة جبال الريف، في مجاله الغربي، والتي تلم سبعة وسبعين ( 77) قبيلة من قبائل جبالة.

إن الحادثة / الحدث؛ الذي كتب فصول ملحمة إنسانية، جاوزت الحدودة الجغرافية، النزاعات السياسية، والصراعات الإقتصادية .. وشدت واستعرت نحوها السباقات الإعلامية، المحطات الإخبارية والمواقع الرقمية، من كل حدب وصوب، ومن كل ملة وطائفة، في مجمع وحدوي بين مختلف المكونات والفرقاء، حيث قادة ومدبري السياسات العمومية والترابية، في تفاعل وتعاون مباشر مع مرتفقيها ومستهدفيها. في لوحة إنسانية شكلت وصاغت عقدا إجتماعيا تاريخيا، قل نظيره وتكراره.

الكل مسؤول عن مساحة تموقعه، ودوره فيكتابة وإخراج فصول والتزامات هذا التعاقد ، بما في ذلك من قام، في ساعة ضجر، اضطراب عواطف، وخفوت آمال، بالشغب والإحتجاج من طول الإنتظار وخيبة التوقع.

تجمهر الجميع، في وفاق وتوافق إنساني. رغم مما شكله ذلك من عنصر الخذلان والتشويش على عملية الإنقاذ وفريقها، إلا أن ذلك الجمع الشعبي الكبير، أوجد عاملا أساسا ( حيا ومباشرا) في تركيب الملحمة، عبر القيام بدور المراقب المختبر، لبرامج وآليات سياساتنا الترابية، في تدبير الأزمات، تصريف الطوارئ وحل النوازل . خاصة ونحن في السنة ما قبل الأخيرة من تنزيل البرنامج الحكومي لتقليص الفوارق المجالية والإجتماعية بالوسط القروي، الممتد ما بين (2017 _ 2023) ، و الذي شارف على نهايته والمنطقة ما تزال تعاني من هشاشة إجتماعية تصل إلى 7,7 % ، بمعدل فقر 1,5% في صفوف ساكنتها .

إن صك الحدث ملحمة إنسانية، رغم الحضور التقليدي الباهت للمرأة ( النحيب ، الطبخ ، التجمهر ..) في مقابل غيابها اللافت عن فعلية الأطوار الوظيفية الحيوية ..مرده لسيادة الإعتبارات السوسيوثقافية المحلية من جهة، ومن جهة ثانية ما يشوب النظم المؤسساتية العامة، من تكريس السيطرة العمودية للرجل / المعيار ، كائن الولاء والإمتياز في مقابل المرأة / الإستثناء، كائنة الخنوع والإنصياع. الواقع الذي طغى على تنفيذ الملحمة، وعرف اضطرابات وانزياحات، خاصة على مستوى الأجهزة والتنظيمات العمومية، التي أبانت عن محدودية خبراتها الميدانية وعتادها اللوجستيكي والتقني، مما اضطرها إلى الإستعانة بسواعد ومهارات المواطنين من خارج مؤسسات تدبير الشأن العام .

انخرط الجميع، ونحن نلاحقهم عبر شاشاتنا الذكية، في مسرح الحدث، سواء في عملية إنقاذ براءة طفل، ضحية سياساتنا الترابية، التي عجزت وتهاونت في إخراج قبيلة ” إغران “؛ الغناء بتضاريسها، الفواحة بتاريخها والشاهدة على مجدها الوطني، كحال معظم القبائل والمداشر المغربية، من هشاشة إجتماعية ومجالية ، وما تنتجه من علل واختلالات سوسيواجتماعية واقتصادية، معيقة ومكلفة لأي مخطط ديمقراطي وتنموي لبلادنا .

وما حادث ” ريان ” ، إلا حلقة في عقد الفواجع المكرورة بتوالي الأزمنة، وتباين الأمكنة، والتي ميزها الإنتشار والتعاطف الكوني. في غياب المرأة / الإستثناء، عن الواجهة وعن مسرح الوقائع والبطولات، متمثلة لأدوار كومبرسية تمييزية ( الضيافة والرعاية ..). مسجلين بذلك على مرآى ومسمع المحفل الدولي، موعدا آخرا للإجهاز على حق المرأة في المشاركة وصناعة الحدث التاريخي، في تأكيد أنها دون مجال تدبير الأزمات الجسام، والطوارئ العظام. بما في ذلك التغطيات والمتابعات الإعلامية والصحفية الجادة والمهنية، والتي تسيدها الرجل بامتياز أيضا.

ملحمية الحدث، ليس فقط بما حققه من عجائبية وغرائبية، ملأت الدنيا وشغلت الناس، بل بالجحود والتنكر للتاريخ الأنثروبولوجي للمنطقة، الذي يوثق لرمزية و قوة المرأة الجبلية، لدرجة أن سميت أعلى قمة بسلسلة جبال الريف ، مسرح الفاجعة، باسمها ” تدغين” ” Tadghin ” ، وهي سيدة الأسطورة التي خلدت للقوة والمجد التاريخي للمرأة، في رمزية طبيعية لقدرتها واقتدارها، سبقا لأي ترافع أو تدافع معاصر، لرفع التمييز ضدها ..

المرأة المغربية التي أنجبت ” ريان ” وثكلته ونحن معها، لا تعدم المخاطرة والمغامرة عن الرجل ، موقظ الظمير البشري وصانع هذه الملحمة. واستبعادها في تدبير هذه الأزمة، يعيدنا وبقوة إلى التذكير بأن قضية مقاربة النوع الإجتماعي/الجندر” Gender”، في تدبير السياسات العمومية، باعتبارها مؤسسسات ونظم يعول عليها مأسسة، ونمذجة آليات إحقاق المساواة ومقاربة النوع الإجتماعي وتكافؤ الفرص، ورفع كل أشكال التمييز والحيف عن المرأة. يعد قضية هيكلية / عرضانية، لا ترفية / تكميلية. ومشاركتها مدعاة ضرورة في ظرفيات الطوارئ قبل غيرها. وما بعض الإختلالات التي كانت من مسببات الحادث، أو تلك التي شابت واعترضت العملية الإجرائية للحدث، إلا نتيجة وامتداد للاتوازن المجتمع المغربي، وتداعيات الفوارق التمييزية بين الجنسين. وأي أسرة، مجتمع ، مؤسسة عمومية / ترابية، لا تتبنى فعلية المقاربة، بانخراط المرأة في صناعة القرار واتخاذه، فهي تمارس عرقلة وتراجعا في تشييد مسار الديمقراطية التنموية لبلادنا.

ويكفينا إقرارا على ما سبق ؛ تشريفا وعبرة، العناية المولوية لجلالة الملك محمد السادس نصره الله، نصيرا وحاميا للمرأة، من خلال مراسيم تقديمه المواساة والعزاء في الشهيد، حيث أكد للعالم أجمع سمو اهتمامه وتكريمه للمرأة / الأم، حيث شرفها تشريفا خاصا بمكالمته، وتوجها رمزا للملحمة، ومقصدا مولويا / استثنائيا نحو رعاياه، سواء من حيث المساحة الزمنية التي منحها جلالته، موكلا لها سيادة تحمل مهام شؤونها وشؤون أسرتها والنيابة عنها وعن العالم أجمع. فتخصيص أم الشهيد، باستقبال تعزيته الكريمة، في حيزها الأساسي والغائي، له دلالات ورمزية سامية وسيادية لجلالته ؛ بأن المرأة المغربية ، هي الملحمة ( الأسرة ، الوطن ، الكون .. ) وهي من قامت مقام الجميع، تكليفا وتشريفا مولويا تاريخيا .

 

زر الذهاب إلى الأعلى