Web Analytics
مقالات الرأي

الانتقال بين المربعات منهجية انقسامية لا اندماجية

    قارن رفاق أرضية اليسار الوحدوي بين أرضية الأغلبية وأرضية اليسار المواطن والمناصفة بصدد الاندماج. يفهم القارئ أن الأرضية الأولى اعتبرت المؤتمر حدد خارطة الطريق للاندماج، بينما تتلكأ الأرضية الثانية في تطبيق الخارطة تلك. 

    ثم يثيرون تجاهل المؤتمر الوطني كمؤسسة من مؤسسات الحزب. صحيح أن المؤتمر الوطني ليس فقط مؤسسة من مؤسسات الحزب بل هي أعلى مؤسسة حزبية. هي السقف الذي يشتغل تحت خلاصاته أعضاء الحزب بالاحرى قياداته. 

    ونتساءل: هل مر المؤتمر الوطني الرابع في أفضل الظروف؟ طبيعة المؤتمرات تجعلها كالعواصف الهوجاء. تصل نعم الى اليابسة، لكن الكثير ممن يعيشون المؤتمرات يخرجون من رحلاتها بأعطاب نفسية وحسابات سياسية سلبية وخيبات ومرارة لا تنسى. 

    الذين يتحدثون عن أرضية الاغلبية يعلمون أنهم أوصوا لجنة تنظيم المؤتمر بجعل التصويت على الارضيات تصويتا مخجلا لا يحترم سرية التصويت. والذين يشتكون اليوم من الانحراف عن تطبيق الارضية الفائزة، يعلمون أنهم مارسوا الانزال والتعبئة المحمومة ابان المؤتمر كتقنية ميكيافيللية معمول بها في نقاباتنا وجمعياتنا الحقوقية لاستدامة الهيمنة، إنزال بسببه اختلطت عليهم الأمور وأساؤوا بموجبه إلى أجود الأطر من بينهم هم. ويعلمون أن الانزال الظرفي اذا لم يتبع بالممارسة الفعالة والمنتجة، فهو لا يستطيع تعويض الهزال الفعلي المزمن. خصوصا اذا غلبت نشوة الانتصار على “المنتصرين”. 

    بينما استقبل أصحاب التيار الاقلية- المشتكى اليوم من سيطرته في التنفيذ- نتائج المؤتمر بروح رياضية ايجابية، وشمروا على سواعد الاشتغال. 

    ولماذا استقبلوا خلاصات المؤتمر بروح إيجابية؟ لأن المؤتمر عرف لحظات صعبة قبيل انعقاده. وجاءت الصعوبات من داخل تحالف الأغلبية. بحيث انسحب الرفاق أصدقاء السي محمد مجاهد من لائحة الأغلبية وأسقطوها عمليا، أياما قليلة قبيل المؤتمر. ساعتها، صرح مسؤولو تيار الأقلية مباشرة لمسؤولي الأغلبية أنهم يتضامنون معهم، كي يساعدوهم على استرجاع نفسية الهدوء ويجدوا سعة من ضيقهم وحرجهم ويستطيعوا معاودة التفاوض مع المنسحبين لترميم الارضية الساقطة، حتى تسترجع أهليتها القانونية في الأجل المحتوم بالأسماء الكافية قانونيا. السي محمد الساسي المعروف بدماثة الاخلاق والهدوء كان في عجلة من أمره وطرح سؤال على منسق الأقلية: ما هي الخلاصات التي ستخرجون بها؟ ساعتها كان التيار في اجتماع بالمقر المركزي. فكان جواب المنسق: جئنا عندكم لنطمئنكم ونتضامن معكم بعد سحب أسماء بعض الرفاق من لائحتكم ونتمنى لكم العودة الى التعاقد مع الرفاق المنسحبين لندخل المؤتمر جميعا في شروط مسطرية قانونية. أما التساؤل عن الخلاصات – قال المنسق- التي سوف يخرج بها التيار من اجتماعه، لست مخولا للادلاء بذلك وفي جميع الاحوال اجتماع التيار سيد نفسه. 

    من حق السي محمد الساسي أن يتخوف من التيار الاقلية لأنه مكون ساعتها من الشباب ومن النساء الذين يعيشون أجواء القرن الواحد والعشرين، أي سياسة ما بعد حركة 20 فبراير. ولأن تركة الحركة الوطنية تطمئن للزعامات والأسماء “المشهورة” وذوي اليسر المادي. لكن التيار الأقلية بمواصفاته تلك بقدر الحركية والنفسيات المزدهرة بقدر الحرص على المصالح العليا للحزب. فالأعضاء الجدد لا تكون لديهم ضغائن الماضي. علما أن الأعضاء القدامى مفترض فيهم الحكمة والدربة الصادقة.  

اليوم وقد ضاق رفاق السي محمد الساسي بتيار الأقلية، هو يعلم أن تيار الأقلية سبق له أن أنصت للأعضاء الحزبيين بهدوء، وتابع صراعات فرقاء “الأغلبية”، فتوصل تيار الأقلية من خلال عمله الجماعي إلى حقيقة “الأغلبية المفككة” وسجل في أرضيته معادلة “أغلبية بالمساطر” و”أقلية بالعمل”. واليوم ها نحن نلمس رفقة الرأي العام افتراق الأغلبية وتشتتها، لأنها في الأصل مفككة. 

 أما لماذا تصرالأقلية على التريث بصدد الاندماج؟ فلأن نتائج المؤتمر، خرجت بأغلبية معيبة. والأغلبية التي لم تستطع هي نفسها أن تحافظ على تماسكها، كيف يمكن لقواعد الحزب أن يثقوا في قدرتها على حسن تدبير الوصول الى الاندماج؟ 

فعلى الأقل تفكك الاغلبية اليوم الواضح للعيان من خلال تشكيل ورقة التيار الجديد الخارج من الأغلبية، يدفع قواعد الحزب دفعا الى تذكر حكمة أجدادهم المغاربة “لي تلف، يشد الأرض”. ويشد الأرض تعني التوقف وتدبر أمر التلفة التي وجدت الأغلبية نفسها فيها، بدل الهرولة نحو الاندماج. الى درجة نتخيل رفاقنا اصحاب تيار اليسار الوحدوي يلهجون وهم نيام: وحدوه وحدوه… يكادون من خلال ترديد كلمة الاندماج في أرضيتهم يصرخون أنهم مصابون بأزمة ضمير تجاه انشقاق ما إلى درجة تدفعهم اليوم إلى الاندماج بأي ثمن وباش ما كان. علما أن المقارنة –ضمن مؤسسات المجتمع- بين العائلة وبين الصداقة، كم صديق حميم تجده أخا لم تلده الأم، وكم أخوة بيولوجية تتسع الهوة فيما بينها حد العداوة المزمنة. مثل الذي ابتلي بزيارة كل الحانات في ليلة واحدة، وعندما هيأت له الوالدة ظروف الحانة كي تطمئن عليه قربها، جلس قليلا ثم نهض خارجا، ولما استغربت الوالدة؟ أجابها: أريد الذهاب الى الحانة الثانية والثالثة، ثم أعود. لعل الموسم موسم العودة إلى حضن الأم. 

أما التشكي من مبدأ العودة الى القواعد لدى تيار الاقلية، فيسار السبعينات ومناضلو الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، اشتهر بيهم اسم القاعديين كنار على علم بالضبط للتبرؤ من نخب الحركة الوطنية التي اشتهرت بالكولسة الفوقية وبجعل القواعد مجرد حطب يحرق في المعارك والخصومات. فالتريث منهجية لتجنب حوادث السير المتكررة. والرجوع الى القواعد ضمانة ذاتية للاشتراكي الموحد كي يذهب الى الاندماج- ان كان قدره ذهابا- واثق الخطوات يمشي ملكا ولا يقفز نحو “الوحدة” بخطى الارنب المتلاعب. نفضل بطء السلحفاة. لأن الأمر يهم مشروع مجتمعي لا يجب أن نضيع بوصلته في الطريق بخفة الارنب المتلاعب.

ولا يجب أن يُسمَعَ عنا أننا نسير في طريق السياسة الحزبية بثنائية الانشقاق مرة لندعو تاليا نحو وحدة وهمية ثم ننشق ثم ندعي أننا وحدويون. تلك لغة خشب تعب المغاربة من سماعها. على أصحابها أن يتوبوا الى الله الواحد الأحد. عندما ذكر الأحباء في أرضيتهم أنهم بصدد عرض سياسي جديد قصد منح المغرب حزبا جديدا، لحظتها بان العربون كما يقول المغاربة.

أولا: اليسار ليس وسيطا في الحياة السياسية. فالشعب مغاربة. والنظام السياسي مغاربة. فلن نزايد على المغاربة في الحذلقة المدعية إنتاج “حزب جديد”. لن نزايد لا على الحاكمين ولا على المحكومين. ولن ندخل جوقة إلهاء الشعب باللعب الجديدة. اليسار طرف سياسي. والسياسة صراع مصالح. والديمقراطية منظومة قواعد للتعقل في أمور توزيع مصالح السلطة ومصالح الثروة وفوائد المعرفة. 

 ثانيا: الفاعل السياسي ليس خبيرا يدخل مكتبه لتدبيج العروض السياسية الجديدة. لسنا في سوق السياسة. نحن في معترك السياسة. ومعترك السياسة يفترض خلق قدرة في لحظتين: لحظة القدرة للتأثير عن بعد، هي القدرة النضالية الاعتراضية. ولحظة القدرة للتأثير عن قرب، هي القدرة التفاوضية مع حمل ملف المطالب والأولويات واحتمالات الحد الادنى والحد الأقصى. 

ثالثا: يتحدثون عن ربط الاندماج بتغيير موازين القوى. المبتدئ في السياسة يصيبه الضحك عند سماع هذه المعادلة. من قرأ رواية كانديد لفولتير سيتخيل بانغلوس يتكلم ومن يراجع السينما المصرية سيستحضر أدوار اسماعيل ياسين. 

رابعا: يصف انشتاين في الفيزياء ما يعرف بالتأثير عن بعد. ويربط التأثير عن بعد أوطوماتيكيا بثقل الكتلة الوازنة. وينتقل من التأثير عن بعد إلى الجاذبية. في الحياة السياسية، من يعرف من المغاربة رموز الحزب الاشتراكي الموحد غير نبيلة منيب وعمر بلافريج؟ هنا سيلقطني أحبائي أصحاب اليسار الوحدوي في حالة تلبس. سيذكرون أن المشاكل بدأت بين نبيلة وعمر. سبق لي قبل سنة ونصف أن صرحت في فيديو شمال بوست لمناشدة نبيلة وعمر بالعودة الى خصالهما الجميلة. ولم يضرني عدم التجاوب. واليوم يذكر أصحاب اليسار الوحدوي أن قرار عمر بلافريج قوبل بالبرودة. لنتوقف عند قرار عمر بلافريج. لنفرض جدلا أن نبيلة البادئة بما وصل إليه عمر من يأس داخل الاشتراكي الموحد، لكن قرأنا من جانب الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الاتحادي أن عمر بلافريج ذاهب مع رفاق آخرين إلى الاندماج بلا “جماعة نبيلة منيب”. فمن يا ترى زاد في يأس عمر كي يقرر نهائيا عدم الترشح في الانتخابات المقبلة (2021) وخدمة المغرب من خارج العمل الحزبي. 

خامسا: الخلاصة في هذه القضية تبدأ بالعودة الى “التعامل ببرودة” مع قرار عمر بلافريج. فلو كان المشكل محدود في الاشتراكي الموحد لكان عمر أكمل مسيرته بعيدا عن “جماعة نبيلة منيب” ولوجدَ بل وجدّدَ أمله في السياسة من خلال “العرض السياسي الجديد”. لكنه، وإن لم يكن هو معنيا بالخلاصة التالية حتى لا نقوّله ما لم يقل، لكن الأمر لا يتعلق بالبرودة الخاصة بقرار عمر بلافريج. إنما الذين يجربون الانشقاق والوحدة بلا تعب، ربما يضطرون الى هذه المعاودة لعلاج الروماتيزم وليس فقط برودة طارئة لحظية. 

سادسا: يذكر انشتاين التأثير بدرجة الحرارة في الحالتين الارتفاع والانخفاض. ومن الخطاب الى التنظيم الى العلاقات الى الاعتراض الى التفاوض ليست الرتابة المؤدّبة هي التي تصنع الموقف الحكيم. وليس الموقف والخطوة التالية هي التي تجعلنا نتفادى اهدار الزمن السياسي كما يدعي رفاقنا في اليسار الوحدوي. فقد سبق للحزب الاشتراكي الموحد أن قرر التنسيق الوحدوي مع حزبي المؤتمر وحزب الطليعة الذي شارك لأول مرة في الانتخابات بضع سنين من قبل. وعندما قرر الراحل الرائع احمد بنجلون الترشح، لم تحضر الحكمة ولا التريث من جانب المكتب السياسي ساعتها، ونافسنا حزب الطليعة في شخص رمزه آنذاك، ونافسناه وخسرنا وخسر زعيم الطليعة. كان منا خطأ فادحا. وتعاملنا ببرودة مع الخطأ. 

سابعا: لكل النقط السادسة، ولِمَا قبلها ربما لتيار الأقلية تيار اليسار المواطن والمناصفة خصلة التدبر الهادئ بلا مزايدات. وبالتالي بقي منذ المؤتمر أقلية بالمساطر أغلبية بالفعالية والمردودية. علما أن التجند لمحاربته وقع منذ انتهاء المؤتمر الوطني الرابع. وتابع التيار الإنصات لما يجري، وخاض مبادرات وانتقل قياديوه الممثلين في المكتب السياسي الى كل المناطق، رفقة نبيلة منيب وغير نبيلة منيب، وهي زعيمة الأغلبية في جميع الأحوال. تيار الأقلية هذا يحترم مؤسسات الحزب. ويشتغل وفق برنامج الأغلبية، بروح رياضية. لأن الاشتغال بالتيارات ليس سوى منهجية “الاتساع في القلب”. أما من يضيق عليه المربع الأول، بالتأكيد سيضيق عليه المربع الثاني والثالث الى ما لا نهاية.   

 

زر الذهاب إلى الأعلى