عندما حان وقت انكشاف الامبراطورية الشريفة كقوة عسكرية من الماضي، كانت فرنسا تستعد لتعيد الكرة لمجابهة التنمر البريطاني. ولكن، في نفس الوقت، بعيدا عمّ قد يستفز انجلترا، أي مصر وطريق الهند.
كانت فرنسا الشعب، تنتفض ضد البرجوازية الصناعية، عبر ثورة الأيام الثلاثة المجيدة La Révolution des Trois Glorieuses، أما الحزب الاستعماري الذي يبحث عن الأسواق وعن الموارد الطبيعية، فوجد في الجزائر، الحل لمعادلة التنافس مع أنجلترا، بعد البؤس الدفين الذي بقي في نفس الجنيرالات الفرنسيين أصدقاء نابليون بونابرت الذي انتهت أيام مجده، ليس فقط باستعادة العمل بتجارة العبيد لتمويل حروبه، بل أسيرا منفيا بالشكل الذي أرادته له القوة البريطانية، دون أن يتفاوض اليمين الفرنسي مع الانجليز لفك أسر الامبراطور السابق.
كان الهجوم على الجزائر العاصمة بداية الصيف (14 يونيه) لاستباق ثورة الفرنسيين ضد نظام الحكم في بلادهم. لكن الشعب لم يغتر بالمجد الاستعماري في الخارج ونفذ ثورته بعد شهر. ما لا يقوله لنا مؤرخونا أن فرقة عسكرية بعثها السلطان لطرد العسكر الفرنسي من عاصمة القطر الشقيق. ونجحت في ذلك.
ولأن الطبقة السياسية الفرنسية ميّالة إلى المجد الخارجي لاسترجاع ماء الوجه أمام أنجلترا، بدأت في تعبئة الرأي العام الفرنسي ضد المغاربيين جميعا. فأخذ المبادر عميد كلية إيكس (Desmichels) الواقعة على الساحل المتوسطي الفرنسي، ليعيد إلى الأذهان قرنان من حكم المغاربيين على الجنوب الفرنسي. ومرة أخرى لم يلقن لنا الكتاب المدرسي الحديث سوى درس هزيمة عبد الرحمن الغافقي في بواتيي (733م) ولم يشرح لنا حتى كون بواتيي على خط باريس تقع شمال ما بعد بوردو وهي على مسافة ما بعد 75 في المائة من اجمالي المسافة ما بين باريس العاصمة وجبال البرانس جنوبا. لم يقل لنا الكتاب المدرسي أن شارل المطرقة لم يستطع بعد بواتيي تحرير مدينة ناربون التي بقيت امارة تابعة للمغاربيين في قرطبة. ولم يقل لنا أن جيش المغاربيين لم يتراجع، بل فقط اتجه شرقا وغزا الجنوب الفرنسي المتوسطي. ليستمر فوق الاراضي الفرنسية والايطالية والسويسرية قرنان من الزمن (ق9 وق10). ولأن النظرة المشرقية غلبت على وعينا التاريخي، لم نعلم أن شرلمان كان أميّا بينما كان خليفة قرطبة يتقن خمس لغات. ليشهد أسير فرنسي في عهد المولى اسماعيل في القرن 17 أنك اذا كنت تتقن الاسبانية والعربية داخل المغرب فسوف تتمكن من الحديث مع المغاربة فيلبون طلبات ويبذلون ما في وسعهم لتخفيف معاناتك كأسير. ثم ليشهد مبعوث لويس الرابع عشر (Roland Ferjus)الى السلطان الفيلالي (مولاي رشيد) أن أهل الريف هم الذين ضمنوا للعلويين الصاعدين حسم توحيد البلد وتسهيل المامورية على الامير الصحراوي لدخول فاس.
المعلومات حول إمارات المغاربيين على النصف الجنوبي من فرنسا، طيلة القرنين التاسع والعاشر، لم يهتم بها أستاذ التاريخ وعميد الجامعة في بروفنس خلال القرن 19 (Desmichels)، بل كان للكتيب الذي نشره سنة 1831، صدى، فأعاد الكاتب رينو(J. T. Reinaud ) بعد خمس سنوات (1836) تأليف كتاب مفصل (380 صفحة) تحت عنوان بالغ الدلالة: غزوات السارازان في فرنسا والسافوا والبيمونت وسويسرا خلال القرنين التاسع والعاشر.
مرة أخرى، الذين كتبوا تاريخ المغرب، واعتبروا معركة وادي المخازن التي ساهمت في بناء مؤسسات الدولة، كما لو كانت خدمة عسكرية لفائدة الأتراك لا غير، بدل النظر في تأثير مغرب ما قبل المعركة (اغتيال السلطان محمد الشيخ : 1557من طرف الاتراك) وبعد المعركة (التوجه نحو الساحل: 1591).
وحتى لو احتفظ المغرب بالتوازن بين اسبانيا والترك، داخل أوربا، دعمت المعركة حركة الاصلاح الديني موضوعيا. بحيث، لم تعرف اسبانيا القرن16، انتفاضة بقايا الموريسكيين في غرناطة، بل رغم شراسة محاكم التفتيش، تسربت أفكار الاصلاح البروتستانتي إلى حاشية الملك فيليب الثاني. وها هو الطبيب الذي كان زعيم الاصلاح مارتن لوثر يتهكم منه وينعته بالمراكشي، فالطبيب الاسباني ميغيل سرفه (Miguel Servet)، ينشئ اتجاها جديدا داخل حركة الاصلاح المسيحي فينادي أن لا إصلاح في المسيحية ان لم تنبذ البدعة الرومانية التثليث التي ليست أكثر من قناع كنسي للوثنية الرومانية. ولها (بالمناسبة طبعا) ما يقابلها كتثليث في الديانة الوثنية العربية قبل البعثة (الغرانيق العلا: اللات والعزى ومناة). لقد بدأ الجيش المغربي يستعمل البارود بتحالف وتجارة السلاح مع المحور البروتستانتي، خصوصا الاراضي المنخفضة (هولندة) مستعمرات تحت السيطرة الكاثوليكية الاسبانية. ومن انهزم في وادي المخازن غير الكاثوليك حتى لو اتخذت اسبانيا مسافة “الحياد” بدعوى طيش الملك البرتغالي بادعاء صغر سنه (24سنة). وهو لم يكن غريبا على ملك اسبانيا بل حفيد كارلوس كينطو وابن اخت الملك فيليب الثاني.
لقد أعلن الهولنديون بيان بدأ حرب التحرير عن اسبانيا الكاثوليكية. ومن هذه الزاوية ساهم المغرب في تهيئة الظروف لنقل الاصلاح الديني داخل اوربا إلى مرحلة الصراح السياسي بين الدول تحت يافطة الحروب المذهبية التي بدأها الجيل الموالي بين الكاثوليك والبروتستانت بما عرف حرب الثلاثين سنة والتي ستفضي الى نشأة الدولة القومية في اوربا.
لقد ألّف العروي كتيبا حول للمقارنة بين ابن خلدون وماكيافيل، ولكنه لم يعبأ خلال محاولة التركيب سوى بالدورة الخلدونية المفرغة. هو نفسه يؤكد أن كل عشر سنوات يرى الجيل الموالي ضرورة قراءة جديدة لنفس معطيات التاريخ. لا يمكن اتهام العروي بالتقصير والتوقف عند نقطة معينة وكفى. لكن النخب التي توجد اليوم لم تقتل أباها العروي.
بالمناسبة من المفترض قراءة كتاب “هكذا تكلم العروي”. لكن يحتاج المغاربة اليوم الى نيتشه مغربي ليعيد كتابة “أصل الأخلاق وفصلها” من الزاوية الانغلوسكسونية بدل التوقف عند كتاب نيتشه “هكذا تكلم زرادشت”.
لقد احتاج الفرنسيون وهم يستعدون لمواجهة التوسع الانجليزي ما بين الهند والخليج ومصر. فاستبدلوا القائد العسكري بونابرت نابليون بالمهندس ديليسيبس لحفر القناة والوقوف شريكا لانجلترا، بدل البكاء على أطلال هزيمة واترلوو. وفي الشمال افريقي، ولكي يهزموا الامبراطورية الشريفة، تبارت النخبة وعادت لتقرأ كتب ابن حوقل لتؤكد للفرنسيين ان هذا المؤرخ العربي زار مناطق فرنسية وهي تحت حكم الامازيغ والعرب في كل من ناربون وبروفانس ومصب نهر الرون وسطروا كم مرة هوجمت مرسيليا وكيف وصل جيش الاندلس الى سويسرا وتحصن بقلعة هناك عشرات السنين، بل وكيف كانت سفن المسيحيين لا تنجو من قبضة جيش الاندلس حتى في الممر البحري بين سردينيا وايطاليا. أما وقد أسقطت هيبة الامبراطورية الشريفة في هجمتي ايسلي والصويرة، فقد ألف أحد ضباطها قصيدة شعرية بالفرنسية يصف فيها نبي دين المغاربة بما يندى له الجبين.
بعد ذلك، جاء ميشو بيلير بداية القرن العشرين ليسكن القصر الكبير ويتزوج من احدى بناتها ويلبس الجلباب، بل ويبعث بعد ذلك بعشرين سنة باسم المغرب مثقفا عضوا بالمجمع العلمي العربي بالشام. ومصدر هذا الكلام أحد الاسماء الكبيرة في ميدان النهضة محمد كرد علي.
طبعا تحزم بعلماء الجيولوجيا وغير الجيولوجيا مثل لوي جانتي الذي سميت مدينة اليوسفية باسمه قبل الاستقلال. وذات يوم، في عز الشباب، كنت في مهمة رفقة الراحل ابراهيم الحوراني، عن نادي العين الذكية، للاتصال بالمخرج الرائع سعد الشرايبي لتسلم أحد الافلام من خزانة الجامعة الوطنية للاندية السينمائية فأشير علينا بالتوجه نحو شارع لاموريسيير، حيث نتسلم الفيلم بالدار البيضاء.
وذات يوم سمعنا في الاخبار تكريم الزعيم السابق للكوت ديفوار هوفويت بوانيي بتسمية احد شوارع البيضاء الكبيرة باسمه. كان ذلك على حساب أحد أبطال المقاومة في الاطلس، بينما بقي اسم لاموريسيير وهو احد جينيرالات فرنسا الذين احتلوا الجزائر، بل وضموا اراضي مغربية لم تكن تحت السيادة الجزائرية يوما. والدليل ان ليوطي كتب كتاب (Vers le Maroc 1903-1906) يرتبط بتقدم فرنسا عسكريا من التراب الجزائري نحو التراب المغربي يصف فيه التقدم من عين الصفرة (التراب الجزائري) نحو بشار (التراب المغربي باعتراف ليوطي).
يقول جورج قرم :”في اعتقادنا أن التشابك بين الداخل والخارج هو الذي يميّز دينامية الفشل والانحطاط ويفسّرها، إضافة الى عوامل اقتصادية عملاقة ، قليلا ما يتمّ أخذها في الحسبان بكّلِ أوجُهِهَا. أعني تأثير النفط على المجتمعات العربية” (كتاب انفجار المشرق العربي: من حرب السويس 1956 الى احتلال العراق 2003)
إن الاستعمار لم يخلق من الجزائر وحدها بلدا شاسعا، بسبب النفط، بل لننظر كيف دخل مؤسس الدولة السعودية الثالثة الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن مدعوما من أمير الكويت سنة 1900، وهو لا يسيطر حتى على منطقة الرياض في نجد، لتصبح السعودية بحجم الجزائر لنفس السبب/النفط،
لا يحز في النفس أن نجد أنفسنا فيما نحن فيه من تقزيم التراب الوطني من طرف الاستعمار الذي سعى الى توفير المساحة السطحية السيادية الملائمة للفرشة الباطنية النفطية فائدة الجزائر، بل ما يحز في النفس أن يحمّل العروي محمد الخامس ويسار الحركة الوطنية مسؤولية الموقف النبيل تجاه الشعب الجزائري ابان الاحتلال.
تلك حكاية الامبراطورية مع الاستعمار ومع النفط وتبعا لذلك رسم الخرائط. والمثقفون اذا لم يحترموا الاموات قد لا يتحكمون حتى في سلالاتهم. فالدبلوماسي فيردينان دوليسيبس الفرنسي الذي حظي بعضوية الاكاديمية الفرنسية تقديرا لجهوده الدبلوماسية والمقاولاتية قدر عليه ان يحاكم احد ابنائه بول دوليسيبس بالخيانة العظمى بعد تعاونه مع النازية في الحرب العالمية الثانية.