أثناء المفاوضات البريطانية الصينية بشأن استعادة الصين لسيادتها على الهوكونغ سنة 1997 بعد قرنين تقريبا من السيادة البريطانية، طرح صحافي إسباني على وزير الخارجية البريطاني حينها دوغلاس هورد Douglas Hurd السؤال التالي: ” متى ستُعيد بريطانيا جبل طارق لإسبانيا كما أعادت هونكونغ للصين ؟ ” وأجابه الوزير بابتسامة ماكرة: ” حين تكون إسبانيا هي الصين”. وفي مناسبات أخرى كان الجواب التقليدي لوزراء خارجية بريطانيا المتعاقبين منذ 30 سنة على نفس السؤال بما يلي: ” متى أراد سكان الجبل ذلك”
فقدت إسبانيا سيادتها الفعلية على جبل طارق سنة 1704، وبموجب اتفاقية بين المملكتين سنة 1713، واستمرت منذ ذلك الحين تحاول استرداد سيادتها على الجبل بكل الطرق والوسائل دون طائل، الضغط الذي كانت تمارسه إسبانيا لاسترداد جبل طارق كان يزيد من تشبث سكان الجبل بالسيادة البريطانية وبالحكم الذاتي، وهذا ما أكدته نتائج الاستفتاءين اللذان تم تنظيمهما في جبل طارق (34ألف نسمة)سنة 1967 و 2002 بمصادقة أغلبية ساحقة من سكان الجبل على الاستمرار تحت السيادة البريطانية. وكل محاولات الديبلوماسية الاسبانية منذ الدكتاتورية وخلال الديموقراطية باءت بالفشل في فرض مفاوضات ثنائية بشأن الجبل بين البلدين، وهذا ما يجعل من موقف مفوضية الاتحاد الاوروبي بعدم إدراج الجبل في مفاوضات شروط البركسيت، وفك الارتباط بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، وتنازل هذا الأخير لإسبانيا للتفاوض بشأن الحدود مع جبل طارق وعلاقته المستقبلية بالاتحاد، وقبول بريطانيا بذلك لأول مرة وعلى مضض، انتصارا للدبلوماسية الإسبانية.
بعد “البريكسيت” البريطاني من الاتحاد الأوروبي ، استطاعت الديبلوماسية الاسبانية أن تنتزع من بريطانيا تنازلات بشأن جبل طارق المتنازع على سيادته بين المملكتين البريطانية والاسبانية. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي عجّل بعودة الطرفين إلى طاولة المفاوضات حول المعبر الحدودي بين إسبانيا وجبل طارق، ورغم محاولة بريطانيا ضم ملف الجبل البريطاني إلى مجموع ملفات التفاوض، وفك الارتباط مع الاتحاد الأوروبي، استطاعت إسبانيا أن تفرض مفاوضات ثنائية بين المملكتين حول تنظيم الارتباط مع الجبل، وكان شرطا فرضهُ الاتحاد الاوروبي على المفاوضين الانجليز بضغط إسباني. من جانب حكومة جبل طارق، هي الأخرى كانت متحمسة ولأول مرة لمفاوضات ثنائية، بأمل أن يحصل الجبل على وضع استثنائي ضمن اتفاقية شنغن المتعلقة بالحدود وحرية التنقل، وتلافي الخناق الذي يعنيه إقفال الحدود مع إسبانيا وباقي دول الاتحاد وتداعياته على اقتصاد جبل طارق.
خلّف الاتفاق المبدئي بين البلدين باستثناء مؤقت لجبل طارق من البريكسيت، ومواصلة المفاوضات مع مفوضية الاتحاد، ارتياحا لدى حكومة جبل طارق وحكومة الأندلس الجهوية ، وكذلك لذى الخارجية الاسبانية التي اعتبرته انتصارا لها وتعزيزا لمطلبها التاريخي بسيادة مشتركة على الجبل.
وضْع جبل طارق وعلاقته باتفاقية شينجن للحدود وحرية التنقل، لا يختلف في علاقته بالاتحاد الأوروبي عن وضع مدينة سبتة ومليلية
واعتبرت وسائل الإعلام الاسبانية توصل الوفدين البريطاني والاسباني في الدقيقة الأخيرة من المفاوضات إلى اتفاق بشأن حرية التنقل عبر ميناء ومطار الجبل وإلغاء جوازات السفر للدخول إليهما، ومنع اعتبار الحدود بين إسبانيا ومنطقة جبل طارق الواقعة في الطرف الجنوبي من شبه الجزيرة الإيبيرية حدودا خارجية للإتحاد الأوروبي انتصارا لإسبانيا ودبلوماسيتها، كما صرحت وزيرة الخارجية الاسبانية أن مسؤولية إسبانيا في الإشراف على بنود اتفاق شينجن الجديد، الذي يلغي جوازات السفر للدخول إلى ميناء ومطار جبل طارق، يجعل من جبل طارق أكثر أوروبية مما كان عليه منذ 47 سنة حين التحقت المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي.
الموقف البريطاني لم يتغير اليوم من حيث المبدأ، لكن شروط خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتعارض البريكسيت البريطاني مع مصالح سكان الجبل ـ 99% من سكان جبل طارق صوتوا ضد الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت) ـ ومحيطه الأندلسي ساعد على تقارب موقف سكان الجبل وحكومته مع الموقف الاسباني، وكانت الخارجية الاسبانية ذكية في التقاط هذه المناسبة التي وإن لن تجعل من الجبل إسبانيّا، لكنها تجعل منه أوروبيّا ومنخرطا في الاتحاد الأوروبي ، وهذا في تقدير أغلب المحللين الاسبان خطوة في طريق عودته إلى السيادة الاسبانية، ولو في أفق مائة سنة القادمة.
وضْع جبل طارق وعلاقته باتفاقية شينجن للحدود وحرية التنقل، لا يختلف في علاقته بالاتحاد الأوروبي عن وضع مدينة سبتة ومليلية ـ ولو أن المغرب ليس عضوا في الاتحاد الأوروبي، لكن تربطه بهذا الأخير اتفاقية تعاون متقدمةـ ، كما أن المطالب الاسبانية المتكررة بالسيادة على الجبل، وبالمفاوضات المباشرة بين المملكتين، واقتراح إسبانيا المتكرر للتفاوض حول مقترح السيادة المشتركة، لا يختلف كثيرا عن وضع المدينتين المغربيتين، وعن مطالب المغرب بالتفاوض واقتراح حلول تأخد بعين الاعتبار الوضع الحالي ومصالح سكان المدينتين، وسبق للملك الراحل الحسن الثاني أن اقترح على إسبانيا تشكيل خلية مشتركة لتدارس ملف المدينتين، رفضته إسبانيا على الفور.
الموقف الاسباني اتجاه المطالب المغربية ومن المفاوضات، لا يختلف كثيرا عن الموقف البريطاني من المطالب والمقترحات الاسبانية. هذا التشابه، وهذه العناصر المُشار إليها سابقا ، والموقع الاستراتيجي للجبل وللمدينتين في الإقليم، وعلاقتهما ببعض، يطرح بجدية سؤال مستقبل مفاوضات مغربية إسبانية بشأن سبتة ومليلية.. وتقديري أن الانزعاج والغضب الاسباني من تصريحات الحكومة المغربية عن المدينتين ومقارنتهما بالصحراء المغربية كان أساسا بدافع الحرج والخوف من استغلال المغرب لهذه التحولات في خريطة الاتحاد الأوروبي بعد مغادرة بريطانيا، وكذلك من تقارب وتعاون مرتقب بين بريطانيا والمغرب على حساب المصالح الاسبانية..
لاشك أن الدبلوماسية المغربية لها استراتيجية واضحة في ملف المدينتين، وتقديري أن المرحلة مناسبة لتطبيع التداول بشأنهما في علاقتها بإسبانيا، دون التفريط في هذه العلاقات ومتانتها، وأن يقتنص المغرب هذه الفرصة لدعم نتائج سياسته في ملف الصحراء وعدم التفريط في هدف استعادة المدينتين ولو في أفق مائة سنة القادمة..