نزل خبر مغادرة الملك خوان كارلوس لإسبانيا كالصاعقة على الرأي العام الإسباني. رغم انتشار أخبار تورطه في فضائح الفساد الأخلاقي والمالي خلال السنوات الأخيرة واضطراره للتنازل عن العرش لصالح إبنه فيليب السادس سنة 2014، لم يكن الرأي العام ينتظر خبرا بهذا الوقع، خبر مغادرة بطعم الهروب. الحدث أعاد للأذهان مغادرة جده ألفونصو 13 لإسبانيا هاربا إلى إيطاليا موسوليني بعد إعلان الجمهورية الثانية سنة 1931.
بالتأكيد لم يكن منتظرا أن يخرج ملك بوزن خوان كارلوس بهذه الطريقة التي لا تليق برجل كان له دورا محوريا في انتقال إسبانيا إلى الديمقراطية. هو فعلا خروج صغير ومُهين لملك كبير طبع المشهد السياسي الاسباني خلال ما يقرب من نصف قرن، كان يحظى خلالها بشعبية غير مسبوقة في تاريخ الملكيات الاسبانية.
تحت ضغط تناسل فضائح الملك خوان كارلوس المالية والأخلاقية، اضطر هذا الأخير سنة 2014 للتنازل عن العرش ـ رئاسة الدولةـ لصالح ابنه فيليبي السادس، وظل محتفظا بصفة الملك الأب، وهي صفة لا تسقط في كل الملكيات إلا بالموت.
وليس الملك خوان كارلوس أول من يتنازل عن العرش في الملكيات الأوروبية، سبقته ملكة هولندا التي تنازلت عن العرش لصالح إبنها، وملك بلجيكا وغيرهم. لكن الواقع أن تنازل الملك خوان كارلوس عن العرش يختلف من حيث الأسباب عن النمادج السابقة الذكر. خوان كارلوس تنازل مضطرا تحت ضغط تورطه وأفراد من أسرته في فضائح فساد مالي وأخلاقي كان آخرها استلامه عمولة من الملك السعودي مقابل توسطه في حصول شركة إسبانية على صفقة بناء خط القطار السريع بين مكة والمدينة. والتنازل كان بالتنسيق بين الحكومة والعائلة الملكية والمعارضة التي كان يقودها في حينه الحزب الاشتراكي الاسباني. وحتما لم يكن الملك خوان كارلوس كبش فداء بالنظر إلى تناسل الفضائح التي كان متورطا فيها، والصحيح أن المشهد السياسي الحالي ومستجدات الساحة السياسية من صعود اليسار الجمهوري ومشاركته في الحكومة وانفجار أزمة الانفصال في كاطالونيا، كلها أسباب تفسر التعجيل بإبعاده.
لم تكن الملكية تحظى في إسبانيا بشعبية كبيرة نظرا لتاريخها المتعثر منذ صعود عائلة البوربون إلى العرش، وعودتها كانت في ظروف داخلية ودولية أتاحت لها لعب دور مهم ومحوري في الانتقال إلى الديمقراطية إلى جانب شركائها من اليمين الإصلاحي واليسار الاشتراكي والشيوعي. كما كان للملك خوان كارلوس دورا مميزا في الحسم مع فلول الفرانكوية بعد الانقلاب الفاشل في 23 فبراير من سنة 1981 واصطفافه إلى جانب الشرعية الديمقراطية كقائد أعلى للقوات المسلحة. وحظي على إثرها الملك خوان كارلوس بشعبية غير مسبوقة في تاريخ ملوك البوربون ، ولم تقترن هذه الشعبية بالمؤسسة الملكية بقدر ما ارتبطت بشخص الملك خوان كارلوس، وأصبح الشعب الإسباني في أغلبه خوانكارلوسيا وليس بالضرورة ملكيا.
هذا الدور الذي لعبته الملكية في شخص خوان كارلوس أصبح مهددا بعد أن انتشرت أخبار تورطه في العديد من فضائح الفساد المالي والأخلاقي، ووافق ذلك انفجار أزمة الانفصال في كاطالونيا التي تحتاج إلى استقرار في أعلى هرم الدولة وإلى ملك قادر على لعب دور الحكم والوسيط والمُسهِّل لحل سياسي يُرضي كل الأطراف.
أمام هذا الوضع السياسي الداخلي وتعقيداته المتصاعدة لم يعد هناك مكان لملك تلاحقه الفضائح المالية والأخلاقية، ما عجّل بتنازله أولا ثم ما نشهده الآن من مغادرة لإسبانيا تبدو إرادية لكنها تأتي تحت ضغط فتح تحقيق قضائي في سويسرا عن توصله بعمولات من دول أجنبية، وتهديد هذه الفضائح للملكية وعودة النقاش عن الجمهورية وكذلك تهديد استقرار الدولة.
الخلاصة أن المغادرة الإختيارية تمت بالاتفاق مع الملك فيليبي السادس وموافقة الحكومة الاشتراكية.وهي عودة إلى منفى جاء منه صغيرا ليشرف على تربيته الديكتاتور فرانكو وتهيئة عودة الملكية في شخصه بالاتفاق مع الملك الأب خوان دي بوربون وريث الملك ألفوصو الثالث عشر الذي غادر إلى المنفى بعد سقوط الملكية وإعلان الجمهورية الثانية في 14 أبريل من سنة 1931. وكأن لعنة المنفى تلاحق الملوك البوربونيين.
عودة اليسار بقوة إلى المشهد السياسي الاسباني، ووصول حزب بوديموس إلى الحكومة الائتلافية الأولى في تاريخ الديمقراطية الاسبانية بقيادة الاشتراكيين، ومواقف حزب بوديموس وحليفه اليسار الموحد المعروفة بالدفاع عن عودة الجمهورية والدعوة إلى استفتاء شعبي للحسم في ذلك، كان له بدون شك قدر كبير من التأثير على قرارات الملك الحالي في محاولته للحسم مع الملك الأب والتخلص من تداعيات تورطه في فضائح الفساد، لكن علينا أن لا ننسى أن اليسار الاسباني بشقيه الاشتراكي والشيوعي كان له دورا محوريا في الدفاع عن ملكية خوان كارلوس، وعودة الديمقراطية والملكية بعد موت الدكتاتور.
ورغم بعض الخرجات الإعلامية لبعض قيادات بوديموس واليسار الموحد، يبقى الموقف الرسمي للحكومة داعما للملكية وللملك فيليبي السادس، وربما من حسن حظ الملكية الاسبانية أنها تعيش هذه الأزمة واليسار الاسباني مطوّق بالمسؤوليات الحكومية، وبإلزامية دفاعه عن الدولة بداية بأعلى هرم فيها، ولو أن الوضع كان عكس ذلك وتزامنت هذه الأزمة مع وجود اليسار في المعارضة واليمين في الحكومة لكانت مواقف اليسار أكثر شراسة وتهجما على الملكية.
كما أن هذه الأزمة توافق أزمة الانفصال في كاطالونيا وعودة اليمين الفرانكاوي إلى المشهد السياسي بقوة عبر حزب فوكس اليميني المتطرف، ما يجعل من معادلة استقرار الدولة والتحالف مع الملكية من أولويات اليسار الاسباني، ومناسبة للإستفادة من دروس التاريخ القريب الذي أدى إلى حرب أهلية شرسة لازالت آثارها بادية على نفسية العديد من الاسبان.
الخلاصة أن تأثير بوديموس في التخلص من شخص خوان كارلوس ـ وليس من الملكية ـ وارد، وأن هذه الأزمة مناسبة قد يستغلها اليسار لترتيب توافق جديد على انتقال ديموقراطي ثاني يساهم في حل أزمة الانفصال والذهاب نحو نظام فدرالي أو شبه فدرالي مقابل الحفاظ على الملكية وارد كذلك بقوة، وقد تخرج إسبانيا إذا أحسنت نخبتها من اليمين واليسار تدبير هذه الأزمة أكثر قوة مما كانت عليه. هذا ويجب أن نأخد بعين الاعتبر تداخل مصالح وتحالفات والتزامات داخلية واقليمية سيكون لها دور في تدبير انتقال هادئ وتوافق على تعديلات دستورية أصبحت بعد ما يزيد من 40 سنة من الديموقراطية ضرورية لحل العديد من الأزمات وثغرات النظام الجهوي الحالي.
توازنات كثيرة ومعقدة حكمت علاقة القصر الملكي الإسباني بالانتقال إلى الديمقراطية بعد وفاة الدكتاتور فرانكو، وكان للملك الشاب حينها ووريث فرانكو في الحكم دورا محوريا أعطى للملكية نفسا جديدا وشعبية ارتبطت بشخص الملك خوانكارلوس وليس بالملكية في حد داتها. استطاع الملك خوان كارلوس بدوره في تفكيك نظام فرانكو أن يصبح من أكثر الملوك شعبية في أوروبا، رغم أن هوى الاسبان ظلّ جمهوريا. كما كان سفيرا فوق العادة لإسبانيا مع الأنظمة الاشتراكية وأغلب الدول العربية على اختلاف أنظمتها، وكان له دور كبير في تدبير مجموعة من الملفات والأزمات مع هذه الدول، وتسهيل قنوات التواصل والمفاوضات بشأنها، وغالبا ما كانت الحكومات الاسبانية المتعاقبة تلجأ لعلاقاته لحل بعض الأزمات، وفي مقدمتها بعض المشاكل والتوترات التي عرفتها العلاقات المغربية الاسبانية سواء في عهد الملك المغربي الراحل أو الحالي.
الذي حصل في تقديري أن الوضع الخاص والرمزي لملك من حجم خوان كارلوس جعله لمدة طويلة خارج المُساءلة بالإضافة إلى الحصانة المطلقة التي يتمتع بها بنص الدستور الذي تم تعديله من أجل ذلك خلال حكومة ماريانو راخوي اليمينية بعد أن وصلتها تقارير مقلقة عن ملفات فساد قريبة الانفجار. خوان كارلوس في تقديري لم يكن ضحية علاقاته مع بعض الأنظمة العربية بقدر ما كان ضحية نفسه كما كان الرئيس الفرنسي ساركوزي في علاقته بالقدافي، أو جاك شيراك في علاقاته مع بعض الحكام..
لم يكن منتظرا أن ينتهي ملك بحجم خوان كارلوس بهذه الطريقة، أو ما عنْونتْهُ بعض الصحف ب”خروج صغير لملك كبير” والخطير أن هذه النهاية تأتي في وقت تعرف فيه إسبانيا أزمة سياسية من العيار الثقيل تتعلق أساسا بملف الانفصال في كاطالونيا، إرث ثقيل يتركه الملك الأب للملك فيليبي السادس، يضع الملكية الاسبانية في الميزان ويُعيد طرح سؤال الاستفتاء وحق الشعب الاسباني في اختيار النظام الذي يريد.
أسئلة كثيرة يطرحها الرأي العام الاسباني عن مستقبل الملك الأب، وعن مستقبل الملكية، وعن قدرة الملك فيليبي السادس على استعادة الشعبية التي مكنت الملكية من تحقيق استقرار سياسي لم تحققه الجمهوريتين.
ويبدو أن لعنة المنفى تلاحق ملوك البوربون بقدر ما تجعل من دورهم محوريا في تحقيق الاستقرار. ومن جديد يقدم الملك خوان كارلوس نفسه قربانا لإنقاد المؤسسة الملكية كما فعل أبوه الذي تنازل عن العرش لصالحه حفاظا على استمرار الملكية في عائلة البوربون بالتنسيق مع الجنرال فرانكو.
تحقيق ذلك يعني حتما أن عودته من المنفى الاختياري غير واردة في الأفق المنظور.