Web Analytics
أخبار الشمال

ناصر الزفزافي .. عاشق مكسور الجناح وثائر عنيد في وجه “المخزن”

بورتريه يتضمن شهادات لناشطين وحقوقيين هم
خالد البكاري . خميس بوتكمانت .الياس الموساوي

لمْ تسْترح أرضُ الرّيف رغمَ غيابِه “الأبديّ” عنها. فرائحةُ البارودِ ما زالت تسكنُ دُروبَ الحارات القديمة، تَنْكأ الجرح ولا تبدّدهُ، تمدحُ ذكرى زمنٍ “برْبري” لا يزُول، زمنُ الاحتجاجات البعيدة، ساعة الضّجر اللانهائي.. عندما كانَ يملأ بترانيمهِ السّاحات والشّوارع، مُواجهاً قدراً عصيّاً بمزاجٍ “ريفي” صارمٍ، غير مكْترثٍ بما قد يأتي، فالرّجل كانَ يمْضي إلى قدرهِ بهدوءٍ وصفاءٍ مَهيب، باحثاً عن جذوة النار المقدّسة التي تحوّلت إلى رمادٍ.

من قبائل آيت ورياغل الريفية، تشكّلتْ لديهِ أولى علامات الفهم، في عالمٍ يتغذّى على تناقُضاتهِ الجميلة، مُفعمٍ بروحِ التمرّد والاندفاع القبلي الذي هزَّته غير ما مرَّة أوْجاع وملذّات التاريخ الغابر (…) ناصر الزفزافي، لمْ يكنْ ليخرُج عن هذا الإجْماع الذي تنثرهُ تضاريس الرّيف الوعْرة. هناكَ صرخ لأوّل مرة مُعلناً بداية قدومِ الرّبيع، وقادَ بحماسٍ مُلفتٍ احتجاجات دامت أشهرا، فصارَ ترنيمة للنصر القريب بعدما اهتزّت الأرض هزة خفيفة، فأقامت فيهِ الهلع والألم الذي خلّفهما وفاة محسن فكري.

انْغمسَ كليّاً في الاحتجاجات، وظهرَ لأول مرّة وجهاً لوجه أمامَ عامل إقليم الحسيمة، الذي أرْغمته صرخات المُحتجين، بُعيد وفاة محسن فكري، على النّزول إلى الشّارع فجراً، ومُجاورة الغاضبين من “المخزن”. وحتى قبل وفاة “سمّاك الحسيمة” كانَ الزّفزافي يواظب على نشْر فيديوهات وتدوينات تفضح واقع تدبير الشّأن العام المحلي الذي تعرفه الحسيمة.

من دَاخلِ بيْته الصّغير بالقُرب من حيّ المرسى وسطَ الحسيمة، كانَ ناصر الزفزافي (40 سنة) يطلُّ على مُتابعيه الذين كانوا بالآلاف. مذياعٌ قديمٌ، ومكتبٌ ترتاحُ فيه أحلام كاتب ودَّع الحياة وغاصَ في الأبديّة، وصور عبد الكريم الخطابي، “جدُّه” الذي اسْتلهمَ منه الأسلوب والفكرة وحبَّ الأرض…، من هنا تفجّرَ الغضبُ الجمْعي ضدّ السّلطة التي أهْملت المنطقة وشبابها، وصنعتْ قائداً أتى من الهامش “الرّيفي”.

الحنين إلى “جمهورية الخطابي”

كان يعيشُ حياته خارجَ رتابة الزّمن، يصنعُ من حَنينه إلى “جمهورية” الأجداد جمهوراً غفيراً من المتعاطفين، ينشدُ صمودهم الأبدي بسرْدِه بطولات الرّيف في مواجهة “المخزن”. هذه العودة الدّائمة إلى التاريخ ساهمتْ في تكوينِ شخصيته “الصلبة”، حيثُ غلبَ على خطابه الافْتراضي الاندفاع والمواجهة المفتوحة على كلّ السناريوهات، حتى وإنْ تعلّق الأمر بمخاطبة أعلى سلطة في البلاد.

“عرفتُ ناصر عندما نشرتْ إحْدى الصفحات الفايسبوكية خبرَ موتِه، وهو ما جعله يعود إلى تنشيط صفحته، بعدما كان قد أغلقها، بعد تدهور وضْعه الصّحي ليفنّد هذه الأخبار، وبعدَ أشهر قليلة اسْتُشهد محسن فكري”، يحْكي الحقوقي إلياس الموساوي بعض تفاصيل قصة صعود قائد ميداني ثارَ على “الاسْتبداد” ووجدَ نفسه يُواجه قدراً قاسياً وحيداً في زنْزانته.

العديد من المتتبعين لبروز شخصية الزفزافي في الحراك الشعبي الذي شهده الريف كانوا يعتقدون أن نقطة الضعف، التي ستواجه ناصر في قيادته الحركة الاحتجاجية، هي مستواه العلمي المتوسط، الذي لم يتجاوز مرحلة الإعدادي. “الكثير من المهتمين شكّكوا في الوهلة الأولى في خطاب ناصر عندما وصَفُوه بأنه يفتقر إلى المستوى والتجربة، اللذين سيمكنانه من الحديث باسم حركة احتجاجية بحجم حراك الريف”، يقول الموساوي.

ويحكي أحد المقربّين من الزفزافي أنّ “عدم ولوجه الجامعة كان النقطة التي جعلته يقود الحراك بتلك الطريقة، التي أدهشت وحيرت مختلف من اتبع طريقة مخاطبته للحشود، التي نصبته زعيما للحراك في ساحة الشهداء وسط الحسيمة. عدم لباس ناصر أي “جاكيت إيديولوجي”، عكس أسلافه من الطلبة الريفيين الذين ولجوا الساحة الجامعية، مكنه من أن يكون محل توافق وإجماع من قبل مختلف أطياف المجتمع”.

العاطل الثائر

عاطلاً عن العملِ ومتشبّعاً بتناقضات الزّمن الغابر، عاشَ الزفزافي، مثلَ باقي رفاقه من جيل السبعينيات والثمانينيات، حياة تعيسة ذاقَ فيها الويلات والأهوال والفجائع والحسرات، وحتى في أوْجِ الحراك كانَ الزفزافي يفكّر في المستقبل دون أن يهمّش دور التاريخ في صناعة “الأمْنِيَاتِ”، “ولوْ كان يُحسبُ على أحد التيارات الفكرية أو الحزبية لكان محل نفور من قبل العديد من الذين يعتنقون تيارا فكريا مختلفا للتيار الذي يتبعه الزفزافي، وما كان ليصل إلى هذه الرمزية التي هو عليها الآن”، يقول الموساوي.

هذه الإيجابية الرئيسية جعلت اليساري والإسلامي والأمازيغي يلتفُّون حول شخصية ناصر الحراكية المبهرة. هذا الإجماع انتقل إلى بعض الأماكن التي كانت حبيسة ممارسة بعض الأنشطة التجارية والحرفية مثل الأسواق والقرى النائية بفعل خطابه الذي يمزج بين البساطة والخلفية الدينية، التي جعلت أفكاره تنتشر كالنار في الهشيم وسط الفلاحين وكبار السن، الذين لم تطأ أقدامهم قبلا حجرات الدراسة.

ويوضح الموساوي أن “قاموس ناصر الذي يستحضر فيه المحطات التاريخية التي مر بها الريف جعلت خطابه ينتشر بشكل ملفت وسط الجالية المغربية الموزعة وراء البحار، وهو ما عجل بتشكيل الكثير من اللجان التي أكدت أنها لن تحيد عن فكر ونهج ناصر الوريث الجديد لفكر الخطابي الذي يلهم كل الأحرار في العالم”.

حبيبة الزفزافي التي خطفها السّرطان

هل كانت للزفزافي حبيبة أو خطيبة؟ يجيبُ مصدر مقرّب من أيقونة حراك الرّيفي “لم تكن حبيبته فحسب، بل كانت خطيبته وبعلم العائلتين، توفيت بعد إصابتها بداء السرطان سنة 2011، وقد أثر ذلك عليه كثيرا إلى درجة أنه كان كثير التّردد على المقبرة”.

وحسبِ الناشط خميس بوتقمانت، وهو أحد رفاق ناصر الزفزافي، فإنّ “زيارات قائد الحراك الكثيرة لقبر حبيبته لم تظل مستورة مخفية، بل لاحظها سكان المدشر القريب من مقبرة الشهداء بأجدير. ظنوا في البداية أنه نبّاش قبور، فاستطلعوا الأمر سرا وراقبوه ليكتشفوا ما لم يكن في الحسبان، رأوا رجلا يزيح عن قبر الغبار بزهور القبور، رأوا ناصر يجلس جنب القبر يحدث غائبة بالجسد وحاضرة بالروح في ذهنه”.

ويصفُ الناشط الرّيفي خبر رحيل الحبيبة بالصدمة الأولى لناصر الزفزافي، حبيبة كان يرى كل المستقبل جنبها وحاضرة فيه، وكان يراها حافزا للحياة ودافعا للمجابهة ومصارعة الزمن من أجلها، وتكون جنبه رفيقة درب وشريكة حياة، إلا أن القدر كان له رأي معاكس لانتظاراتهما، إذ خطف الموت حبيبته سنة 2011، وهنا ستبتدئ قصة أخرى، قصة الوفاء للحب رغم الرحيل الأبدي، قصة شوق، قصة عدم التصديق أنها رحلت.

“كانت حاضرة في ذهنه وحية في صدره، ذلك ما جعل ناصر يحدث قبرها ساعات ويحكي لها ما يخالجه. حبه لها جعله يتحدى قوة ومرارة الموت، وجعلها حية عنده، رغم حكم القدر”، يسترسلُ بوتقمانت في شهادته.

اللجوء إلى جزيرة النكور

كان الزفزافي يخبر مقرّبيه، حسب ما أسرّه أحد مرافقيه، أنه إذا تحققت المطالب واستقرت الأوضاع في الحسيمة، سيبحث عن فرصة عمل وعيش في أوروبا.

ويضيف مصدر هسبريس أنه “أثناء هربه من الشرطة اقترح عليه بعض الأشخاص الذهاب إلى جزيرة بادس أو السباحة إلى جزيرة النكور، وهما من الجزر المحتلة، وطلب الحماية واللجوء فيها.

“اغتيال” عمّه المعارض

فكرة طلب اللجوء السياسي إلى إسبانيا، وإن كانت ممكنة وسهل تحقيقها، إلا أنّ ناصر رفضها بشدّة، وقال لمرافقيه الذين كانوا معه في منطقة ساحلية “سيلحقني العار إلى الأبد إن فعلت ذلك”.

وهنا يكمن جزء من شخصية ناصر، التي وإن كانت تحمل نوعا من الإحباط تجاه الدولة، ليس فقط بسبب وضعه هو؛ بل بسبب “اغتيال” عمّه في طريق أكادير واتهم المخزن باغتياله في سنوات الرصاص، وكذلك بسبب وضع والده، الذي أفنى عمره في العمل ليُترك له فتات من الدراهم في التقاعد، إلا أنه لم يفكّر قط في مغادرة المغرب.

عاشق كرة الطائرة

بين كرة الطائرة وكرة اليد نقاط مشتركة، فكلتاهما تحتاجان إلى بنية جسمانية قوية وخفة في الحركة بشكلٍ تجعل محترفيها يطيرون في السّماء لتسجيل الأهداف، وتحقيق نقاط على حساب الخصم..

هكذا كانَ ناصر يمزجُ بين هوايته ولعب دور “القائد” الملهم المحلّق في الأعالي، مُسْتلهماً من شغبه الرّياضي الطفولي بعضاً من المرونة والخفة لتحقيق طموح منطقته في الانعتاق والحرية.

تراجيديا مؤلمة

من جانبه، يحكي الحقوقي خالد البكاري المقرب من عائلة الزفزافي، لهسبريس، قائلا: “كانت لي علاقات سابقة بعدد من نشطاء الحراك ومعتقليه، قبل حادثة استشهاد محسن فكري، ولم يكن ناصر الزفزافي ضمنهم، بل لم أكن أعرفه حتى شاهدت الفيديو الذي ظهر فيه يحاور عامل الحسيمة ووكيل الملك في اعتصام أعقب مقتل محسن فكري بتلك التراجيديا المؤلمة. شاهدت الفيديو على المباشر، وكتبت تدوينة مفادها: انتظروا هذا الشاب. وأتذكر أن ناصر الزفزافي ترك تعليقا على تدوينتي فيه شكر”.

وقال البكاري إن علاقته بالزفزافي ظلت غير مباشرة، “أتتبع لايفاته وتصريحاته، أتقاسمها على صفحتي، أكتب عنه، ثم سأتعرف بعد موجة الاعتقالات على عائلته التي نسجت مع كل أفرادها علاقات بعمق إنساني ونضالي ووطني كبير”.

وخلال المحاكمة، يضيفُ البكاري، “تجاذبت مع ناصر أحاديث سريعة، ثم استرسلت علاقتنا عبر الهاتف، فكان يخصني مشكورا بجزء من الوقت المسموح له بمهاتفة عائلته، كما سألتقيه في السجن حين سمحوا لي بزيارة معتقلي حراك الريف، نزولا عند رغبة صديقي ربيع الأبلق”.

عنيد وحازم

“ناصر تركيبة من كيمياء استثنائية، يتميز بعناد ممزوج بمرونة مفاجئة حين تقتضي اللحظة ذاك. إنه منصت جيد إلى التحولات، له ذكاء في التقاط التفاصيل، بعضهم يتصوره متشددا في مواقفه ومستبدا برأيه، لكن الحقيقة أنه ينصت جيدا إلى الرأي المخالف إذا تبين له أن فيه صدقا ورجاحة”، يقول البكاري، مضيفاً “خلف كاريزميّته التي توحي بالصلابة، هو صلبٌ حقيقة، تختفي شخصية وديعة تتأثر سريعا بآلام من يحيطون به، له تقدير خاص للمرأة وإيمان بأدوارها قولا وفعلا”.

أما بشأن نقطة ضعفه، فهي تأثره بآلام المحيطين به، وعناده إذا تم استفزازه في معركة كسر العظام، ففي قضية الكرامة لا يقبل أنصاف الحلول، ويمكن أن يذهب بعيدا في التحدي، غير مبال حتى بأنصاف الحلول.

ما يمكن أن تأخذه من ناصر باللين يستحيل أن تأخذه منه بالقوة، ومع ذلك فالرجل صاحب نكتة بامتياز ومحب للحياة رغم ما يعانيه، يضيف البكاري، قبل أن يختم شهادته قائلا: “أتمنى لصديقي أن يخرج سالما من محنته الصحية، وأن أعانقه قريبا بعيدا عن القضبان

زر الذهاب إلى الأعلى