“أنا يا أخي… آمنت بالشعب المُضيَّع والمُكبَّل..
فحملت رشاشي، لتحمل بَعدنا الأجيال مِنجل..
وجعلت من جُرحي والدِّما للسهل والوديان جدول”.
(من الأناشيد الأولى لحركة فتح)
توطئة:
تعرفت على هذا الاسم قبل حوالي عشرين سنة، لكني لم أجد طريقا للوصول إلى معرفة سيرته العطرة إلا بعد مجهودات مُضنية بذلتها حتى أصل إلى المصادر المباشرة لاستخلاص معطيات عن هذا البطل الاستثنائي الذي يختزل في مسيرته آمال أجيال من الشباب وأشواقها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إننا أمام قصة مثيرة للاهتمام تلك التي تحكيها تجربة هذا المناضل المغربي الشاب الذي التحق بصفوف الثورة الفلسطينية (في كل من سوريا ولبنان) بعد الاجتياح الصهيوني للبنان سنة 1982 حيث تلقى دورات تدريب عسكرية مكثفة هناك، قبل اشتغاله في بلدان كثيرة طبيبا في إحدى المنظمات الإنسانية الدولية، لينتهي به المطاف شهيدا في صفوف الثورة السلفادورية التي كانت واحدة من أشرس الجبهات في مواجهة اليانكي الأمريكي الذي حاول تعويض هزيمته النكراء في فيتنام منتصف سبعينيات القرن الماضي، بتكثيف العدوان على شعوب أمريكا الوسطى والجنوبية متطلعا لكي يجعل منها حديقته الخلفية. إنها قصة الطبيب الشاب الدكتور لسان الدين بوخبزة التي انطلقت منذ ميلاده بتطوان وانتهت في إحدى ضواحي عاصمة السلفادور مطلع سنة 1987 وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره.
الأسرة والنشأة:
كان ميلاد الشهيد لسان الدين يوم 13 شتنبر 1956، ليكون الابن البكر في أسرة من أربعة أبناء (لسان الدين، إجلال، خليل ورفيق)، حيث كان أبوه أحد خريجي جامعة القرويين الذين تولوا مهنة القضاء ضمن الأفواج الأولى لبلد يبحث عن بناء مؤسساته بعيدا عن الهيمنة الاستعمارية، ليرسم واحدة من السير النظيفة في هذه المهنة التي قدم فيها نموذجا للنزاهة ونظافة اليد، حتى تقاعده عضوا في المجلس الأعلى (محكمة النقض حاليا). في حين كانت أمّه ربة بيت متعلمة وهي حالة قليلة حينها في ظل أجواء كانت تعاني فيها المرأة من تهميش وتجهيل كبيرين.
التحق الطفل لسان الدين أولا بالمدرسة الابتدائية بتطوان، حيث كان يتلمس خطواته الأولى في التعليم لحظة رحيل واحد من مُلهميه الكبار، يتعلق الأمر برائد حرب التحرير الشعبية الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي. وبعد حركة تنقل واكبت مكان عمل الأب بين تازة والرباط مرورا بشفشاون والناضور (قاضيا ومُدرسا في المعهد الأعلى للقضاء)، استقر المُقام بالأسرة في مدينة القصر الكبير حيث أكمل لسان الدين تعليمه الابتدائي هناك بالمدرسة المركزية (أصبحت تسمى ابن خلدون فيما بعد)، “إذ انتبه الأساتذة لذكاء الطفل لسان، فقرروا أن ينتقل مباشرة للفصل الموالي بحكم ارتفاع مستواه مما جعله يربح سنة دراسية كاملة” يقول الأستاذ عبد السلام بوخبزة متذكرا سيرة ولده.
كل ذلك في أجواء طغت عليها النضالات والأنشطة الثقافية والسياسية والنقابية، حيث كان القصر الكبير حينها واحدا من المواقع التي تغلي بالنضال السياسي والنشاط الثقافي المواكب. يتحدث أحد مُجايلي الشهيد لسان الدين، عن حالة حركة كانت تعرفها المدرسة الابتدائية التي درس فيها الشهيد حينها (المدرسة المركزية)، إذ رغم أن سن التلاميذ كان صغيرا لكن ذاكرتهم لا تنسى كيف كان الأستاذ المهدي الريسوني يأتي بجهاز الراديو معه إلى داخل القسم ويأخذ جزء من الوقت لكي يتابع أخبار نكسة يونيو 1967، وهو متحمس ومنفعل مع أحداث الوطن العربي الذي كان يعرف مدا قوميا وتحرريا كبيرا.
وفي أجواء القمع الشديد الذي كان يعرفه المغرب حينها مع المحاكمات السياسية التي كانت تستهدف مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عرفت القصر الكبير حدثا ثقافيا كبيرا تمثل في تأسيس “جمعية شعلة الفكر” التي كان أول نشاط لها ندوة كبرى تحت عنوان: “إحياء ذكرى أبو القاسم الشابي شاعر وحدة المغرب العربي” وحضرها جمهور كبير يتقدمهم تلامذة الثانوية المحمدية ومعهد التعليم الأصيل.
ثم جاء اندلاع انتفاضة 23 مارس 1965 ليخرج تلاميذ الثانوية المحمدية ومعهد وادي المخازن للتعليم الأصيل تضامنا مع النقابة الوطنية للتلاميذ في الدار البيضاء التي تعرض فيها التلاميذ لعمليات قتل فظيعة واعتقالات ممنهجة، مما أدى إلى هجوم قوات الأمن على المؤسستين وإحراق جزء كبير منهما وتكسير ما فيهما من تجهيزات… في ظل هذه الأجواءانتقل الشهيد لسان الدين للثانوية المحمدية الشهيرة لإتمام تعليمه الإعدادي.
وبمناسبة تلك الأحداث يحكي الأستاذ عبد القادر الحضري (نائب رئيس مؤسسة محمد عابد الجابري للفكر والثقافة حاليا، وكان حينها مسؤولا عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في المدينة) واحدة من القصص الكثيرة عن نزاهة القاضي عبد السلام بوخبزة الذي وصفه بالفقيه والعالم المطلع؛ حيث اعتقلت قوات الأمن محمد الهواري المناضل في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (الأستاذ حينها في الثانوية المحمدية ويشتغل حاليا محاميا في هيئة طنجة)، وتم تقديمه مع ملف ثقيل للمحاكمة ليأمر الأستاذ عبد السلام بوخبزة بالإفراج عنه في أول جلسة مؤكدا على براءته.
وبعد انتقال الأب من القصر الكبير إلى طنجة أكمل الشهيد لسان الدين دراسته في إعدادية ابن بطوطة، وبعدها حصل على الباكالوريا في ثانوية جابر بن حيان في تطوان، الثانوية التي كان أول من درس فيها الفلسفة بعد تعريبها والتخلي عن أساتذتها الإسبان، هو الأستاذ أحمد المرابط بعد عودته من القاهرة عقب رحيل الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي، وقد كان واحدا من الشباب المقربين من دائرته.
وبعد حصوله على شهادة الباكالوريا بتفوق، لم يتردد الشهيد لسان الدين في الالتحاق بكلية الطب بالرباط، تحقيقا لحلم إنساني كان يراوده، حيث سيبدأ مسارا جديدا هناك.
تستحضر الحاجة “فامة الطْنِيبَر” أم لسان الدين ذكرياتها مع ابنها الشهيد قائلة: “كان رحمه الله ذو طبع جميل، يمتلك حسا إنسانيا عاليا، وعطفا على كل الناس وفي مقدمتهم الفقراء والمحرومون. ما زلت أتذكر كيف كان يصحب معه ألبسة متنوعة وقطعا من الشوكولاته والحلوى، ليسلمها للمرضى من نزلاء المستشفيات، أو لبعض مرافقيهم من الأطفال”.
هل كان يحدثكم عن نشاطاته للا فامة؟ أخاطب الحاجة متسائلا، فتجيبني أنه لم يكن يخبرنا بأي شيء. وهو الأمر نفسه الذي تؤكده لي شقيقته إجلال قائلة: “حين التحق لسان الدين بكلية الطب بالرباط أصبح احتكاكه بالأسرة قليلا، بحكم انتقاله للسكن مع زملائه الطلبة ومغادرته بيت الأسرة. وكانت الأسرة تعرف بعض توجهاته واهتماماته لحظة مناقشته مع والده حول بعض الأفكار والقضايا التي كانت مطروحة حينها على الساحة الفكرية والسياسية.. حيث أن لسان الدين كان معروفا بكثرة المطالعة”.
لكن والدته ما زالت تستذكر بعض قفشاتها معه، حين كانت تسأله عن شَعره الكثيف، وعدم القيام بحلقه وترتيبه، وقد كان موضة عند الكثيرين من أبناء جيله. فكان يجيبها أن لا وقت لديه للذهاب إلى الحلاق، ولا يمكن لأحد غيرها الوصول إليه، لذا كانت تقوم بترتيبه له أحيانا في البيت.
“كان ابني خفيف الظل، هادئ الطبع، صاحب قلب مرهف بالحنان مقارنة بإخوته الآخرين. مثلما كان كثير التفكير والتأمل.. لا تهمه المظاهر، بقدر ما كانت تشغله آلام الناس وحاجاتهم. لم يكن يعيش من أجل نفسه، لقد كان باختصار يفكر في الآخرين كثيرا”، تستطرد الحاجة فامة (تصغير لفاطمة) وهي تتذكر ابنها الشهيد.
“لقد كان شخصية فريدة؛ كان ابني وأخي في نفس الوقت. إنني أذكره كثيرا، لذا أفتح رسائله، أقلّبها بين يدي، لكي أشمَّ فيها رائحته، حتى تتبلل بدموع اشتياقي له”.
تقول ذلك وعَبرات من الدمع تخنق صوتها الهادئ.
المرحلة الطلابية وتبلور الوعي:
كانت مرحلة الحياة الجامعية مرحلة تطور نوعي في الرؤية الفكرية والسياسية للشاب لسان الدين القادم إلى العاصمة الرباط من مدينة عريقة في الشمال هي تطوان. حيث كانت الأجواء العامة في البلاد تعرف أزمة حادة؛ انقلابان عسكريان خلخلا بنية الحُكم، وانتفاضة مسلحة واجهها النظام بقسوة شديدة، تلتها إعدامات بالجملة لخيرة مناضلي التنظيم السري التابع للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كان يقوده المجاهد محمد الفقيه البصري؛ الشهداء عمر دهكون، محمود بنونة ورفاقهما الذين أعدموا ذات عيد أضحى في مشهد دموي مروع. أما المشهد الطلابي فلم يكن بعيدا عن تلك الأجواء؛ اعتقال رئيس المؤتمر الخامس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب مع مجموعة من المؤتمرين والمناضلين خاصة من “الجبهة الموحدة للطلبة التقدميين”.
“لم يكن عند الشهيد أي انتماء تنظيمي أو حزبي، لم تكن له أي علاقة تنظيمية لا مع تنظيم “إلى الأمام” ولا تنظيم “23 مارس”، نشاطه كان فقط داخل إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب”، يؤكد رفيق دربه الدكتور نور الدين دحان.
إذ بعد اعتقال قيادة “الاتحاد الوطني لطلبة المغرب” التي أفرزها مؤتمره الوطني ال 15، كانت قد بدأت تجربة التنظيم القاعدي في التبلور، بعد نجاح تجربة إسقاط معركة “الإصلاح الجامعي” المرتبطة بقرار وزير التعليم العالي حينها بفرض “تعاضديات إدارية” لتمثيل الطلبة في الموسم 75/76 حيث لعبت تجربة المجالس القاعدية السرية التي أطرت جل معارك تلك المرحلة، إلى جانب بعض الجمعيات الطلابية داخل المعاهد والمدارس التي لم تتعرض للحظر. وبعد نجاح تلك التجربة بدأت في التطور استعدادا لعقد المؤتمر الوطني ال 16 على أساس برنامج نضالي مبني على مكتسبات المؤتمر السابق، مع إبداع هيكلة وصفت بالهيكلة “الديموقراطية القاعدية”، تكون قادرة على استيعاب استراتيجية القمع الذي شنته أجهزة الدولة على المنظمة في مؤتمرها السابق. خاصة بعد رفع الحظر عن المنظمة يوم 9 نونبر 1978 بسبب الأزمة التي كان يعرفها النظام ومحاولة إنجاح المسلسل الانتخابي.
كان الشهيد لسان الدين حينها من أبرز المناضلين الذين ساهموا في بناء تجربة الطلبة القاعديين؛ حيث حصلت حركة داخل أوطم هي “الحركة القاعدية” باعتبارها شكلا من أشكال التنظيم الجديد للحركة الطلابية بهدف تفادي قدرة النظام على اعتقال قيادات الحركة مثلما فعل مع قيادة المؤتمر ال 15. “هكذا مثلا في تجربة كلية الطب بالرباط كان هناك 256 طالبا في هذا الموقع فقط، وكان لسان الدين من المناضلين في الخلف، ولم يسبق له أن أخذ الكلمة، لكنه كان رجل تنظيم وتنظير لعدد كبير من المبادرات”، يؤكد الدكتور دحان.
لقد كان للشهيد بوخبزة مساهمة كبيرة في تلك المرحلة التي عرفت تصاعدا في النضال الطلابي ومطالبه السياسية الداعية إلى إصلاحات ديموقراطية حقيقية تنهي ملف الاعتقال السياسي بشكل كامل (يوم الطالب المعتقل يوم 24 يناير)، مثلما ارتبطت بالدعوة للمساندة الفعلية للثورة الفلسطينية عبر الإضراب الشهير ليوم 26 مارس احتجاجا على تطبيع العلاقات بين النظام المصري وكيان الإرهاب الصهيوني بعد اتفاقية الاستسلام في كامب ديفيد حينها.
ومثلما كان الشهيد متفوقا في نضاله وتواضعه، حيث كان يتحرك بعيدا عن أضواء الذاتية الحارقة، احتفظ بتفوقه الدراسي يراكم نجاحه السنة تلو الأخرى. تماما مثلما احتفظ بعمقه الإنساني في الاهتمام بالفئات الشعبية الفقيرة والمحتاجة، رفعا لوعيها ومساعدة لها على النهوض. حتى أن تدريب نهاية التكوين في الكلية لم يكن منفصلا عن هذه الهموم؛ لذا قرر أن يكون تدريبه العيادي في مدينة العرائش التي كان يتصور أنه يستطيع أن يقدم فيها ما لا يمكن تقديمه في مدن كبرى مثل البيضاء والرباط.
يحكي رفيقه الدكتور نور الدين كيف أن الشهيد لسان الدين “كان كثير الارتباط بالبحر والبحارة، لذا قرر أن يكون تدريبه بالعرائش ما دام أنه يستطيع أن يقدم شيئا. لذا رسم في ستة أشهر من مُقامه هناك ما لم يرسمه الأطباء فيها لسنوات؛ كان يعطي نموذجا في الاشتغال بعمله الدؤوب ليل نهار؛ مساهما في معالجة المرضى نهارا ومعتكفا ليلا لقراءة الكتب التي كان يتكلم عما تحمله من قيم، ليس بهدف تعبوي ولكن تجسيدا لعمله النبيل، لأنه كان شديد الحرص على عدم الخلط بين الأمور”. ليُسقط في تلك التجربة ما كان يحمله الناس من صور نمطية عن الطبيب، باعتباره كائنا متعاليا وبعيدا عن الناس، فكان يجلس في المقاهي والمطاعم الشعبية ويتواصل مع الناس بروح مرحة لم يعهدوها في أقرانه من قبل، مما أكسبه محبة الناس وثقتهم بلا حدود.
الرحلة في اتجاه أوروبا:
بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الطب العام، وبعد فترة انتظار ليست بالطويلة، شد الرحال في اتجاه أوروبا لاستكمال دراساته المتخصصة، ولفتح آفاق أخرى أمام تطلعاته الفكرية والإنسانية.
كانت البداية بسويسرا، ثم فرنسا التي قضى فيهما المدة الأطول أثناء وجوده في أوروبا، حيث اشتغل طبيبا في مجموعة من المستشفيات هناك. لكن حركته شملت أقطارا أوروبية كثيرة مثل إسبانيا، بلجيكا، هولندا واليونان… غير أن الحدث الأبرز في هذه الرحلة لقاؤه بمواطنة سويسرية كانت نشيطة في مجال الدفاع عن السلام، وانخراطه في منظمة إنسانية دولية هي منظمة أطباء العالم، ثم قضاؤه تجربة في صفوف الثورة الفلسطينية في سوريا ولبنان.
– 1) اللقاء مع ساندرا: لم يكن لقاء لسان الدين مع ساندرا لقاء مع إنسان عادي، بل كان بالنسبة إليه التقاء مع إنسان بمواصفات خاصة؛ كانت ساندرا أوستيت OSTET) (SANDRA وهي من أب إيطالي وأم سويسرية، شابة مفعمة بالحيوية والحركة، ومناضلة نشيطة في مجال الدفاع عن السلام ومناهضة الحروب. لتجمعهما علاقة رائعة، حيث أنها لعبت دورا رئيسيا في حياته، مثلما لعب دورا رئيسيا في حياتها.
وهكذا ساهمت ساندرا في إدخال لسان الدين إلى منتديات الأنشطة المرتبطة بالنضال الأممي في نصرة الشعوب التي تعاني ويلات الاستعمار والتدخل الامبريالي خاصة في أمريكا الوسطى والجنوبية. مما سمح له بتجسيد رؤيته التي شكلها عبر مطالعاته الكثيرة طيلة مرحلته الطلابية.
ورغم حبهما الشديد وعلاقتهما الإنسانية الراقية، فقد اختار مغادرة سويسرا للمساهمة في تحقيق حلمه… وسنة واحدة بعد سفره، أصيبت ساندرا بالسرطان، لترسل رسالة لصديقه نور الدين، الذي أوصلها بدوره إلى لسان الدين في السلفادور، لكن القدَر لم يمهل ساندرا إلا وقتا قليلا حتى غادرت هذا العالم. وإثر ذلك أبلغ نور الدين رفيقه بوفاتها، وقد أثر خبر الرحيل المفجع في لسان الدين بشكل كبير، جعلت مُحَيّاه يبدو حزينا، حتى أن رفاقه في السالفادور لاحظوا ذلك. كان ذلك قبل سنة من استشهاد لسان الدين هناك.
– 2) انخراطه في “منظمة أطباء العالم”:
لم يكن الشهيد لسان الدين صاحب رؤية ثورية لتغيير العالم فحسب، بل كان حامل رسالة إنسانية يتطلع من خلالها إلى تخفيف الآلام عن المضطهدين والمحتاجين. لذا كان بحثه عن إطار لتجسيد هذه الرؤية الإنسانية واحدا من هواجسه المواكبة لحركته. وهو الإطار الذي سيجده في منظمة طبية ذات رسالة إنسانية كانت قد تأسست للتو في فرنسا تحت مسمى “منظمة أطباء العالم” (Médecins du monde)، التي كانت منظمة ذات نفَس تقدمي يحمل رسالة تحررية، ولم تكن ذات نفَس إنسانوي ضيق مثل “أطباء بلا حدود” التي كانت ذات نَفَس يميني، يرفض انخراط كل من لهم انتماء سياسي وترغب في مشاريع تصب في اتجاه معين..
هكذا تم بناء إطار بديل لمهنيي الصحة المتطوعين لتقديم المساعدة الإنسانية للسكان المعرضين للخطر في جميع أنحاء العالم. وكانت المنظمة قد تأسست من طرف مجموعة من الأطباء الذين خرج معظمهم عن منظمة “أطباء بلا حدود” بقيادة بيرنارد كوشنير (وزير الصحة والخارجية في أكثر من حكومة فرنسية فيما بعد، عقب تخليه عن الشعارات التقدمية التي حملها طيلة ثلاثة عقود). وكان سبب الانشقاق هو تخلي منظمة أطباء بلا حدود عن أحد أهم مبادئها المرتبط بالشهادة حول الفظائع التي يشاهدها أعضاؤها لجعلها معروفة أمام الرأي العام، إذ لا حياد في فضح الجرائم ومرتكبيها في الحروب والأزمات.
لذا وجد الشهيد لسان الدين ضالته في هذه التجربة التي يتحدث عنها في إحدى رسائله إلى أسرته قائلا: “وجدت فرصة ثمينة لأفعل ما كنت أتمناه، وهو أن أعمل في أقطار مختلفة من العالم. سأفعل ذلك مع منظمة طبية فرنسية ذات أهداف إنسانية (كالصليب الأحمر الدولي).. من الناحية الفكرية، يمكنني أن أستفيد كثيرا، لأن السفر ومعرفة شعوب وحضارات مختلفة دائما كانت أمنيتي، ولا يمكن إلا أن تزيد الفرد إغناء… ومن الناحية الإنسانية، يمكنني أن أستفيد لأنني سأربط علاقات مع أطباء ذوي تجربة طويلة في هذا الميدان، ويمكنني أن أفيد لأن الرحلات تكون في غالب الأحيان إلى الأماكن الأكثر احتياجا للمعونة الطبية..”
– 3) تجربته في صفوف الثورة الفلسطينية:
شكلت القضية الفلسطينية مركز وعي الشهيد منذ بواكيره الأولى، حيث كان يعتبر أن أبرز معركة ضد الامبريالية كانت تخاض على أرض الوطن العربي هناك في المشرق، خاصة بعد هزيمة المشروع الاستعماري الفرنسي في الجزائر، وسقوط المشروع الاستعماري الأمريكي في الهند الصينية عقب هزيمتها المنكرة في فيتنام، مما جعل الامبريالية الأمريكية تركز وجودها العدواني في منطقتين أساسيتين حينها؛ في المشرق العربي عبر دعم الكيان الصهيوني أداتها الوظيفية هناك، وفي أمريكا الوسطى والجنوبية التي تعتبرها قاعدتها الخلفية التي ينبغي تحصينها، خاصة بعد نجاح الثورة الكوبية على مرمى حجر من شواطئ مدينة ميامي الأمريكية. وهو الوعي الذي جعل شابا مثل لسان الدين المولود شهرا ونصف قبل العدوان الثلاثي على مصر أواخر أكتوبر 1956، الذي كان عدوانا من أجل تحطيم مصر وتثبيت تفوق المشروع الصهيوني أمام أي مشروع للتحرر العربي حينها. لذا كانت المساهمة في نشر هذا الوعي سواء أثناء مساهمته في إطار التجربة القاعدية لإعادة بناء الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، أو أثناء لقاءاته مع أفواج المناضلين الأمميين في اللقاءات التي حضرها في أقطار أوروبية مختلفة، كانت فلسطين حاضرة كقضية. وبحكم وجوده في الديار الأوروبية كانت الفرصة مواتية له للمشاركة في تجربة ميدانية هناك. إذ بعد حصول الغزو الصهيوني للبنان الذي أسقط عاصمة عربية ثانية هي بيروت، كان الشهيد ياسر عرفات قد وجه نداء لكل الشباب العربي ولكل المناضلين الأمميين للالتحاق بالجبهة دفاعا عن الثورة الفلسطينية، وهو النداء الذي خلّف حركة تضامن واسعة عبر العالم، جعل حركة التضامن مع فلسطين أكثر امتدادا.
في أجواء هذا السياق التحق الشهيد لسان الدين بقواعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سوريا ولبنان لتلقي دورات تدريب مكثفة أفادته كثيرا في مهماته الإنسانية والنضالية اللاحقة. لقد كانت الجبهة الشعبية حينها مركز ثقل تعاطف عربي وأممي واسع بحكم المشروع التحرري الذي طرحته، وبحكم فدائية عناصرها ونجاح ضرباتها الموجعة في مواجهة العدو، وبفضل رؤيتها العميقة للصراع العربي-الصهيوني باعتباره صراعا ضد كيان وظيفي هو الكيان الصهيوني، يتناوب في تقديم خدماته لمراكز القرار الإمبريالي المختلفة، لذا ينبغي مواجهته في إطار قومي وأممي يجعل تلك المعركة جزء من النضال الأممي الواسع ضد الامبريالية أينما حلت وارتحلت، وتوجيه الضربات لها في كل مواضع النضال لإضعافها وتخفيف الضغط على المواقع الأخرى.
كانت دورات الشهيد لسان الدين التدريبية في قاعدة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كانت في منطقة حوران جنوب سوريا، وبعدها في قواعد عسكرية مختلفة في لبنان في البقاع وصيدا وبيروت. يؤكد لي الرفيق أبو علي، أحد مسؤولي الجبهة الشعبية حينها في لبنان، على أن عدد الملتحقين من المناضلين العرب والأمميين كان بالمئات، وكنا نضطر لأسباب أمنية أن نحرق هوياتهم حتى لا تقع في أيدي العدو الصهيوني الذي سيوصلها حتما إلى أجهزة مخابرات الدول التي ينتمي إليها هؤلاء المتطوعون أو تعريضهم للاغتيال حتى من طرف الموساد الإسرائيلي بعد عودتهم من مهامهم.
تجربة سبقه إليها، مع فارق، الشهيد الحسين بن يحيى الطنجاوي ابن مدينته تطوان الذي لم يكن بيت أسرته يبعد عن بيته إلا بمئات الأمتار، حتى ارتقى شهيدا في إحدى العمليات الفدائية ضد جيش الاحتلال الصهيوني يوم 28/ 11 /1974، مما خلّف أثرا كبيرا في مدينة تطوان وعموم المغرب.
هناك في قلب الجبهة استوعب لسان الدين أكثر معنى المساهمة في إطار أممي واسع، لتوفير حماية للمقاومة عبر فتح جبهة واسعة في مواجهة الإمبريالية على الصعيد الأممي. ليعود إلى أوروبا مفعما بروح ثورية متجددة عاشها لأسابيع في قلب مدرسة ثورية عربية ذات أفق أممي واضح، بعد أن ترعرع في السابق داخل مدرسة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب التي تبلور في سياقها وعيه القومي بمن خلال شعار الاتحاد الرائد “فلسطين قضية وطنية”.
الرحلة إلى أمريكا الوسطى:
عاد الشهيد لسان الدين من لبنان إلى أوروبا طبيبا ممارسا لمهنته ومناضلا في أوساط الشباب الأممي ونشاطات التضامن مع الشعوب المضطهدة. وكانت حينها مدينة أمستردام واحدة من أهم المدن التي تقام فيها تلك الأنشطة. يحدثني الدكتور نور الدين دحان رفيق دربه في كلية الطب بالرباط، الذي غادر إلى هولندا لاستكمال دراساته التخصصية هناك، كيف أن بلدية أمستردام إبان تولي اليساري إدوارد فان تاين Ed van Thijn)) منصب عُمدتها بين سنوات 1982-1994، شكلت معقلا أساسيا للتضامن مع ثورات شعوب أمريكا الوسطى، وخاصة نيكاراغوا والسلفادور، حين كان الساندينيون يخوضون معركة مواجهة النفوذ الأمريكي هناك. حتى أنه في أحد المرات تمّ استقبال دانييل أورتيغا (رئيس نيكاراغوا الحالي) وتنظيم استقبال حافل له هناك قبل وصوله للسلطة سنة 1985. كما لعبت إحدى كنائس أمستردام ذات التوجه التقدمي (الثوري) أدوارا مهمة، حيث أنها كانت تقدم الدعم لنظيرتها الثورية في أمريكا الوسطى وخاصة في نيكاراغوا والسلفادور..
في هذه الأجواء قرر لسان الدين التوجه إلى أمريكا الوسطى بعد عودته من تجربته الثورية من المشرق العربي في إطار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
اتخذ لسان الدين قراره النهائي بالالتحاق بأمريكا الوسطى بعد أن نضج عنده تصور مفاده أن القوى الثورية هناك تخوض واحدة من أهم تجارب النضال الأممي في العالم، لذا آن أوان الانتقال إليها.
ودع حبيبته ساندرا في سويسرا وأخبر عائلته في رسالة بأنه مُقدِم على خوض تجربة إنسانية أخرى دون تفاصيل، في صيغة كانت تقتضيها ظروف العمل الثوري حينها.
وانطلاقا من تحليل الشهيد لسان الدين للأوضاع في جبهات الصراع مع الامبريالية، كان يعتبر أن المعركة الفاصلة معها كانت هناك في السلفادور (أمريكا والقوى اليمينية..)، حيث كان يعتقد أن هناك جبهتان فاصلتان في مواجهة الامبريالية بعد انتصار الشعب الفيتنامي؛ هما لبنان حيث تخوض المقاومة العربية (اللبنانية والفلسطينية بدعم أممي) معركة قوية مع المشروع التوسعي الصهيوني، والسلفادور حيث تجهد الامبريالية الأمريكية في السيطرة على منطقة أمريكا الوسطى بالحديد والنار مانعة قيام أي نظام تحرري جديد هناك يُسند الصمود الكوبي في الخاصرة الأمريكية. في تلك اللحظة كان اليانكي الأمريكي ما زال يتعامل مع أقطار أمريكا الوسطى بمنطق تعامل “شركة الفواكه المتحدة”، الشركة الأمريكية التي كانت تتاجر في الفواكه الاستوائية والموز في دول أمريكا الوسطى والجنوبية، مطلع القرن العشرين، وكانت تحكم معظم أمريكا الوسطى عبر التحالف مع حكام عسكريين مستبدين تتحكم فيهم كما تشاء، حتى أُطلق عليها لقب جمهوريات الموز. وهي التجارب التي يمكن تلمّس مظاهرها بدقة كبيرة، في رواية الكاتب الغواتيمالي ميغل أنخيل أستورياس “السيد الرئيس” التي فاز بها على جائزة نوبل للآداب سنة 1967.
تجربة السلفادور:
هكذا انتقل لسان الدين إلى السلفادور عن طريق نيكاراغوا، القاعدة الخلفية لثوار السلفادور حينها. كان ذلك سنة 1984 ملتحقا بالحزب الثوري لعمال أمريكا الوسطى: (el Partido Revolucionario de los Trabajadores Centroamericanos) (PRTC).
الذي أسسه الدكتور “فابيو كاستيلو فيغوروا”، أحد المكونات الأربعة لجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، الإطار الجبهوي الذي قاد الثورة هناك. وقد كان يطرح في مبادئه التحررية توحيد أمريكا الوسطى مع مضمون يساري يجمع بين تحرير أقطار أمريكا الوسطى من الأنظمة الفاشية التابعة للمخابرات الأمريكية وتحرير الكادحين فيها (عمالا وفلاحين) من القهر الطبقي الذي تمارسه عليهم الأقليات اليمينية الوظيفية المتنفذة في تلك الأقطار. وهو في طرحه لرؤية المعركة الواحدة في أمريكا الوسطى، كان قريبا من الطرح التحرري الذي اقترحه الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي في مكتب تحرير المغرب العربي في القاهرة لتحرير المنطقة وتوحيدها، مع فارق في تبني مضمون ماركسي حول العلاقة بالداخل بالنسبة لأطروحة فابيو كاستيلو.
ترقى الشاب القادم من المغرب بسرعة في صفوف جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني، حتى أصبح قياديا فيها، بسبب أخلاقه الثورية العالية. وقد كان الجميع هناك، مدنيين ومقاتلين، يعتبرونه بسبب ذلك، قائدا أقرب إلى القديس؛ إذ إضافة إلى تفانيه في مهماته الثورية، حيث تكلف بالمدرسة التكوينية داخل جبهة فارابوندو مارتي، فكان يمارس مهمته بحب وشغف كبيرين مع تواضع أكبر. وهي الميزة التي كانت لديه في المغرب، حيث كان من موقعه الخلفي البعيد عن التهافت للظهور يُلهم المناضلين بأخلاقيات كبيرة.
في البداية قدم خدماته الطبية ومحو الأمية للسكان المدنيين والمقاتلين. يقول خوسيه رفيقه في المركز، متحدثا عن “فرناندو” وهو الاسم الحركي الذي اتخذه لسان الدين هناك:
“كان الرفيق فرناندو طبيبًا ومعلمًا لمحو الأمية، وصديقًا رائعًا وصديقا للجميع… لقد كان مثل الأب الحامي لنا جميعا. لسوء الحظ، وقع في كمين للعدو على تلة غوازابا خلال عملية العدو المسماة بالعنقاء، ولكن ذكرياته لا تزال حية في كل من أتيحت لهم الفرصة لمقابلته أو محاربته حتى”.
كان فرناندو جزءًا من مستشفى تم تشكيله، كما قدم دروسا في محو الأمية والسياسة في المدرسة الأولى التي تم إنشاؤها في سان ميغيل مع مجموعة مجندة.
وفي وقت لاحق، أشرف على تأسيس مستشفى آخر في سان فيسنتي وآخر في غوازابا.
“لقد كان رجلاً عظيماً، وكان من دواعي الفخر لي أن أكون في مدرستين سياسيتين عسكريتين مع “فرناندو”: الأولى في 1984 بسان فيسينتي والثانية في غوازابا سنة 1985. ثم اختاروا مجموعة لتكون جزءًا من القوات الخاصة حيث ساهم تكويني على يديه في اختياري”، يقول رفيق آخر عاش معه عن قرب.
لقد كانت الحرب في السلفادور واحدة من أقذر الحروب التي شنتها أمريكا عبر “قبعاتها الخضر” وحلفائها المحليين في الجيش السلفادوري وفرق الموت المرتبطة به، وارتكبت مجازر شنيعة في حق المدنيين في إطار نظرية أطلقتها تحت مسمى “استنزاف البحر”، وتقصد بها تجفيف البحيرة من الماء حتى لا تستطيع الأسماك من العيش. ردا على نظرية طرحها الزعيم الصيني وأوصى فيها أن يكون المناضل الثوري مثل السمكة التي تتحرك في الماء، أي بين أبناء شعبه. ولذلك كانت هناك موجات عاتية من القصف الذي كان يستهدف مدنا وبلدات بأكملها حتى يتم تفريغها من المدنيين (مثل عملية الموزوت وعملية الفينيكس…).
إذ بعد انتصارات كبرى للقوى الثورية قامت قوات الجيش وفرق الموت الموجهة من المخابرات الأمريكية بشن حملة عسكرية دموية على مدينة غوازابا (التابعة لمحافظة العاصمة سان سالفادور) ومحيطها، بعد محاصرتها لأسابيع حيث لا ماء ولا غذاء ولا دواء لعشرات الآلاف من المدنيين الذين اضطروا لأكل حشائش الغابات. حينها كان الشهيد لسان الدين قائدا مسؤولا عن تلك المنطقة، “وكعادته لم يكن يلزم من هم تحت إمرته بالخروج والذهاب للاستطلاع، حتى يتسنى للمجموعة التي توجد معه من المدنيين والمقاتلين الحصول على ما يسد رمقهم، فخرج بنفسه للاستطلاع مع دورية صغيرة، حيث تم عزله وتصفيته”، تخبرني بأسى بالغ رفيقته مارغريتا المناضلة الأممية الباسكية التي كانت موجودة هناك. لقد كانت تتحدث وملامح الصدمة مطبوعة على محياها، رغم أن الحادثة قد حصلت قبل أكثر من 30 سنة.
وتضيف مارغريتا: “استشهاد الدكتور لسان خلّف حزنا وحسرة كبيرين في أوساط مناضلي جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني والمواطنين هناك، وكان خسارة كبيرة للثورة… لقد كان حريا به أن لا يخرج بنفسه للاستطلاع، هذا كان رأي الكثير من الرفاق حينها. لكن أخلاقه الثورية جعلته يخرج بنفسه مترفعا عن أن يصدر أوامره لأحد حتى يقوم بمهمة الاستطلاع”.
“ما أشبه استشهاده بظروف استشهاد القائد الأممي تشي غيفارا في بوليفيا؛ نفس الظروف تكررت بطريقة مأساوية في عملية تشبه إلى حد كبير ظروف اغتيال القائد غيفارا في كل تفاصيلها، في نفس الظروف القاهرة.. مثل هؤلاء لا ينبغي أن يُسمح لهم بالموت هكذا. إنهم بأخلاقهم الثورية والإنسانية أشبه بمن بلغ الكمال”، تؤكد مارغريتا، التي كانت تشتغل ممرضة، قبل الالتحاق بالجبهة في السلفادور…
إنها نفس الظروف التي استشهد فيها غيفارا في “وادي غورو” بعد محاصرة معسكراته من القوات البوليفية حينها، في عملية هزت العالم.
هكذا كان يوم 19 يناير 1987 يوما حزينا، ارتقى فيه لسان الدين شهيدا، حيث احتجزت القوات الحكومية جثمانه ودفنته في مكان خاضع لسيطرتها. وحين وصل خبر استشهاده لرفيقه نور الدين بلغه لشقيقه الدكتور خليل (طبيب العظام الذي توفي سنة 2012) حيث أخفى الخبر عن والديه حوالي ثلاث سنوات.
ولم يكن كافيا أن تعيش عائلة الشهيد محنة تلقي خبر استشهاده، بل إنها لم تسلم من يد الأجهزة المخزنية التي عملت على التحقيق مع والده حين تم العثور على جواز سفر لسان الدين في السلفادور، ليتم التواصل مع الأجهزة الأمنية المغربية عن طريق المخابرات الأمريكية مما عرضه لمضايقات مزعجة، دون أن يشفع له وقار منصبه ولا نظافة يده التي طالما كان يحكي الشهيد لسان الدين بافتخار، قصصا كثيرة عنها، حتى أن المعتقلين كانوا يتمنون أن تُعرض ملفاتهم على هذا القاضي بسبب نزاهته وصرامته ورفضه لمنطق التعليمات.
رؤيته الإنسانية والثورية ومصادر إلهامه:
كان للشهيد لسان الدين توجها مخضرما كما يؤكد صديقه ورفيق دربه نور الدين الذي واكبه منذ التحاقه بكلية الطب بالرباط: “في الحقيقة كان هناك نقاش جميل جدا، وهو أنه كان ضد أي شكل من أشكال السلطة، سواء تعلق الأمر بالنظام، الإيديولوجيا، أو أي حزب سياسي.. كان ضد السلطوية ولم يكن مع الفوضوية. كان ضد السلطوية بطريقة واعية، لكن هذا لا يعني أنه كان ضد أي تنظيم أو التزام”.
ويضيف الدكتور نور الدين: “هذا هو ما يفسر كيف أنه كان كثير القراءة حول السلطوية، خاصة مع ما لاحظه من صراعات بين التنظيمات وداخل كل تنظيم على حدة، حيث كانت لديه ملاحظات وانتقادات حينها على تنظيم “إلى الأمام” بالتحديد. لقد كان يعتبر طرق التنظيم الحزبي والجماهيري في الوطن العربي طرقا تقليدية أعادت إنتاج نفس المنظومة السلطوية للأنظمة الرجعية القائمة”.
قرأ الشهيد لسان الدين عن التجارب الثورية للزعيم محمد عبد الكريم الخطابي وجورج حبش والمنظمات الثورية العربية، مثلما قرأ عن التجارب الثورية مثل تجربة سيمون دي بوليفار في أمريكا الجنوبية وفارابون دومارتي في أمريكا الوسطى، كما قرأ عن تلك التجارب الأممية التي كانت تملأ الدنيا حركة حينها.
كان الشهيد كثير القراءة، حيث اطلع على كتابات برودون، باكونين، إيما غولدمان وألكسندر بيركمان وهم من أشهر منظري الاشتراكية اللاسلطوية. مثلما اطلع على أدبيات ماركس، روزا لوكسمبورغ، لينين، تروتسكي، ماو تسي تونغ وهوشي منه… مُحاولا قصد الإمكان تقريب الشقة بين النظرية والممارسة داخل الفعل الثوري، في مرحلة عرفت انتشارا كبيرا لنقد التجارب السلطوية من جهة، مع محاولة بناء تركيب خلاق يجمع بين النظرية والفعل الثوريين، انطلاقا من جهود لاستخلاص الخبرة التاريخية من خلال الثورات السابقة في أوروبا وأمريكا وأجزاء أخرى من المعمورة. والهدف دوما مواجهة القوى الغاشمة للرأسمالية وتحرير الإنسان من سطوتها القاتلة. حيث كانت أدبيات إرنست ماندل عن الأممية الرابعة وما خلفته ثورة ماي 1968 من ارتجاجات، مرجعيات خصبة ومتداولة حينها.
“كل ما أذكره من بين ما كان يقرؤه، كتبا عن المذاهب الثورية عامة، وكتابات عن الماركسية اللينينية وعن التيارات والتجارب اليسارية”، تؤكد شقيقته إجلال التي تشتغل إطارا في إحدى المؤسسات العمومية. ولأن اهتماماته كانت بالتجارب وبالفعل الثوري، فقد كان تأثره ببعض الشخصيات بارزا؛ في مقدمتها الزعيم عبد الكريم الخطابي قائد ثورة الريف، بطل معركة أنوال ورئيس لجنة تحرير المغرب العربي في القاهرة بعد ذلك. وطبعا القائد الثوري تشي غيفارا الذي أطلق شرارة ثورة عالمية وصلت أصداؤها إلى أركان الأرض المختلفة. وبسبب مركزية القضية الفلسطينية في تفكيره ومشروعه الثوري، كان القائد الثوري العربي جورج حبش مؤسس حركة القوميين العرب وبعدها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين واحدا ممن الذين اهتموا بتجربته وبأثرها العربي والأممي. وفي مستوى آخر كان تأثره برموز ثورية في أمريكا الوسطى والجنوبية لافتا، مثل الشهيد فارابوندو مارتي، سيمون دي بوليفار، فابيو كاستيلو فيغوروا، شفيق حنظل الزعيم التاريخي لجبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني المنحدر من عائلة فلسطينية هاجرت من بيت لحم إلى هناك.
ولأن الشهيد لسان الدين كان يمارس العمل الثوري بخلفية فكرية وثقافية عالية، احتلت الموسيقى جانبا من اهتماماته مثلما لعبت دورا في تشكيل وعيه.
وهكذا كان السياق الطلابي الذي يناضل داخله يعرف انتشارا لمجموعة من المبدعين العرب مثل الشيخ إمام، فيروز، مارسيل خليفة الذي بزغ نجمه حينها شابا يافعا مناضلا في الحزب الشيوعي اللبناني، حيث اشتهر بأدائه لقصائد محمود درويش وعز الدين المناصرة والشهيد خليل حاوي، ومجموعة العاشقين الفلسطينية المرتبطة بحركة فتح حينها، إضافة لمجموعة ناس الغيوان المغربية التي اشتهرت بالدفاع عن قضايا الفقراء والمهمشين، مثلما خصصت جزء من إبداعها الغنائي للقضايا القومية وفي مقدمتها فلسطين. “لقد كان تأثر لسان الدين بأغاني هؤلاء كبيرا وواضحا، ولم يكن البيت يخلو من أغاني هؤلاء جميعا” تقول والدته الحاجة فامة.
لكن الشهيد لسان الدين استفاد من معرفته باللغة الإسبانية لينفتح على إبداعات المغنين في أمريكا الناطقة بالإسبانية.
“لسان الدين كان يتحدث الإسبانية، وكان يفضل المجيء عندي للاستمتاع بأشهر أغاني أمريكا اللاتينية؛ ميرسيديس سوسا، فيوليتا بارا، فيكتور هارا، أتاهوالبا يوبانكوي، جوديث راييس هيرنانديز، ومجموعة”Quilapayún” الشيلية المعروفة”، يقول أحد أبناء مدينته تطوان الذي كان يدرس معه في الرباط.
وكل هؤلاء مغنون ملتزمون بقضايا شعوب أمريكا اللاتينية في مواجهة أنظمة الفساد والاستبداد التي تسلطت على رقاب شعوبها بدعم من اليانكي الأمريكي.
لكن الأغنية الأكثر إلهاما له كانت هي أغنية المغني “هيكتور روبيرتو شافيرو” المعروف فنيا باسم “أتاهوالبا يوبانكوي”، وهو مغني شعبي وعازف قيثار أرجنتيني (ت 1992) وكان ناشطا سياسيا في الحزب الشيوعي الأرجنتيني، (سبق له أن أقام حفلة في المغرب سنة 1964 أيام مجد الاتحاد الوطني لطلبة المغرب).
“هذا هو المغني/ الفيلسوف الذي ألهَمَنا، وهذه هي الأغنية/ القصيدة التي كانت وراء الكثير من الإلهام” يقول الدكتور نور الدين.
إنها أغنيته الشهيرة Coplas del payador perseguido””
وهي أغنية تعبر عن معاناة سكان أمريكا الأصليين من الاستعمار الإمبريالي الظالم. في بلاد غنية، لكن الجوع والأسى ينخرها حتى العظم؛ في ظروف كان فيها اضطهاد العمال والفلاحين السياسة الغالبة. لذا ينتقد هذا الوضع قائلا: صحيح أن العمل مهم للحياة، لكن الحياة أصبحت لا معنى لها في شروط القهر والمعاناة (كما يقول صاحب الأغنية). صحيح أن العمل هو أجمل شيء على وجه الأرض، ولكن العمل من أجل رب العمل يصبح كالمطر؛ هناك من يعمل بجهد الرعد، والآخر يجني جهد المطر…
وقد لعبت تلك الأغاني الثورية دورا أساسيا في تأطير الجماهير هناك، وهي مسألة مفهومة في سياق أجواء أمريكا اللاتينية التي لعب فيها الفن أدوارا أساسية في النضال، تلخصها مقولة الفنان الأرجنتيني الراحل فاكوندو كابرال: “يحترم الله الشعب الذي يعمل، لكنه يحب الشعب الذي يُغَني”.
شهداء عرب في أمريكا الوسطى:
لم يكن لسان الدين بوخبزة، الشهيد العربي الوحيد في ثورات أمريكا الوسطى، خاصة في نيكاراغوا والسلفادور؛ حيث يوجد في نيكاراغوا حي كامل اسمه “حي سليم شبلي” وهو أحد الثائرين في الجبهة الساندينية الذي استشهد خلال عملية نفذها للجبهة، فكرمته الثورة بتسمية الحي باسمه. مثلما يوجد شهيد آخر اسمه عمر حسّان استشهد على أيدي قوات الديكتاتور سوموزا.
أما في السلفادور فهناك، إضافة للدكتور لسان الدين، شهيدة عربية وحيدة هي “جانيت سمور حزبون”، كما أكد لي الأستاذ سمعان خوري رئيس النادي العربي بالسلفادور، مما يثبت أن الجزء الأكبر من الجالية الفلسطينية هناك كانت مع الثورة في مواجهة الفاشية اليمينية المتسلطة، حتى أنه توجد ساحة اسمها “فلسطين” في أحد الميادين العامة بالعاصمة سان سالفادور.
لكن الشهداء السابقين هم مواطنون هناك، من ذوي الأصول العربية. أما ميزة الشهيد لسان الدين فكانت ممثلة في كونه العربي الوحيد الذي جاء من بلاد بعيدة للمشاركة في معركة أممية ضد الامبريالية ليرتقي شهيدا هناك، قبل أن يلتحق به مناضل مغربي آخر استُشهد بعده، وتلك قصة أخرى تستحق أن تُروى.
على سبيل الختم:
كانت التجربة الثورية للشهيد لسان الدين بوخبزة متميزة وفريدة؛ ذلك أنه بالرغم من وجود تجارب أخرى انتقل بموجبها ثوار مغاربة أو عرب، إلى جبهات القتال في فلسطين (نماذج الشهداء الذين ارتقوا هناك، أو المقاتلين الذين عادوا للمغرب)، أو إلى إفريقيا مثل حالة مومن الديوري الذي كلفه الشهيد بنبركة بتنسيق مهام تشي غيفارا الثورية في إفريقيا. أو رحلة الشهيد حسين التريكي المناضل الوطني التونسي الذي كلفه الزعيم الخطابي بالانتقال إلى الأرجنتين لخدمة قضية تحرير المغرب العربي الكبير حينها من الاستعمار الفرنسي والدفاع عن القضية الفلسطينية معا، ليعود شهيدا بعد أن اغتالته الموساد هناك وهو فوق التسعين من عمره. وقبلهم جميعا رحلة المناضل الهاشمي الطود إلى القاهرة حيث سيكتب له مسار آخر بعد التقائه بالأمير الخطابي.
لكن تميز مسيرة الشهيد بوخبزة كانت على مستويات عدة؛ منها أنه جمع في النضال بين أطراف دوائره الثلاث، وطنيا وقوميا وأمميا. كما أنه جسد نموذجا نادرا في الجمع بين ثقافة نظرية ثورية وفعل ثوري مطابق لها على الأرض، حتى ختم مساره بالاستشهاد ليرسم صورة الإنسان الكامل. صحيح أنه لم يرسل رسالة الوداع مثلما فعل القائد تشي غيفارا، لكنه سلك نفس الطريق وسار على نفس النهج، بعد أن مارس نفس المهنة الإنسانية (الطب)، ليصل لنفس النتيجة وفي نفس الظروف، مُجسدا مقولة غيفارا “لا يهمني أين ومتى سأموت، بقدر ما يهمني أن يبقى الثوار يملؤون العالم ضجيجا، كي لا ينام العالم بثقله على أجساد الفقراء والبائسين والمظلومين”.
كانوا يحملون حُلمهم على أكتافهم دون مقابل، لكن تضحياتهم لم تذهب هباء بالفعل؛ ففي السلفادور أو الأرجنتين أو عموم أمريكا اللاتينية تحيا الشعوب في ظل أنظمة ديموقراطية تحترم في معظمها كرامة الناس وتتوازن فيها السلطات والمؤسسات بعيدا عن الأنظمة السلطوية التي سامت شعوب المنطقة بالحديد والنار.
بالطبع ما زال اليانكي الأمريكي يلعب ألاعيبه، لكن وعي الشعوب هناك مرتفع ويقظتها عالية. في انتظار أن ينعم الوطن العربي كذلك بالعيش تحت ظلال تلك القيم التي تنتصر للإنسان، حيث المعركة ما زالت مفتوحة.
صحيح أن الشهيد لسان الدين لم يُكتب له أن يعيش ليرى، لكن إنسانيته المتعالية جعلته يعيش من أجل الناس ويستشهد من أجل تلك القيم النبيلة.
كان الشهيد لسان الدين عربي المنشأ والمنطلق، إنساني الهوى، أممي الرسالة، غايته أن تحيا الإنسانية بكرامة. إن نموذج الإنسان الكامل الذي جسده غيفارا، ولسان الدين وأمثالهما من الشهداء تعطي للإنسانية أملا وتصنع لها أفقا، مفاده أن لرسالة الحرية والدفاع عن الكرامة رجال يحملون هَمَّ حمايتها بتعاقب الأزمان وتوالي الأجيال وتبدلات الأحوال.
وأنا أبحث في مسالك سيرة بطل فذّ مثل الشهيد لسان الدين، لم أكن أتصور أنه كان ضمن شهداء عملية “العنقاء” التي قام بها جيش السلفادور وفرق الموت وثيقة الارتباط بالمخابرات الأمريكية. حيث رجعت بي الذاكرة إلى اللحظات التي كنت فيها تلميذا في مستوى الإعداديبالثانوية المحمدية (نفس المؤسسة التي درس فيها الشهيد لسان الدين مرحلة الإعدادي). إذ أن تغطية هيئة الإذاعة البريطانية وإذاعة ميدي 1 المغربية لتلك العمليات الدموية المعروفة باسم “فينيكس”، ما زالت تتردد في ذهني.
لِمثل لسان الدين وغيره من شهداء الحق والقضية، تُرفع القبعات وتُحنى الهامات وتُنشَد القصائد ويُذكى النضال في الشباب جيلا بعد جيل. لكن من الواجب علينا حفاظا على القيم التي ضحوا من أجلها، الاهتمام بمثل هؤلاء الأعلام بإبقاء أسمائهم واستحضار ذكراهم اسما لمؤسسة ثقافية أو جامعية أو طبية أو مدرجا في كلية الطب بالرباط حتى، استحضارا لرمز من رموز العمل الإنساني والثوري الذي شرّف كل الدارسين بتلك الكلية.
أما أضعف الإيمان بالنسبة لرفاقه ومحبيه فهو إطلاق مؤسسة مدنية باسمه، تُعنى بالقيم التي ناضل من أجلها واستُشهِد في سبيلها، واسترجاع رفاته الطاهر حتى يحتضنه وطنه الذي طالما احتضن الشهيد لسان الدين أحلامَ شعبه وتطلعاته نحو الحرية والكرامة في عالم لا ينام بثقله على أجساد الفقراء والكادحين والمحرومين.