مقال إلى حميد المهداوي الصحافي الحر المعتقل بسبب مواقفه.
رغم الإنزال الأمني القوي للدولة المغربية في مدينة الحسيمة شمال البلاد، نزلت ساكنة المدينة للتظاهر يوم 20 يوليو الجاري، وتحول ذلك اليوم إلى جرح في ذاكرة الريفيين، لاستعمال الدولة العنف رغم تزامن هذا اليوم مع الذكرى 96 لمعركة أنوال الخالدة، التي كبّد فيها المغاربة الجيش الإسباني أكبر هزيمة عسكرية في تاريخه. ومن ضمن ما ميز مسيرة 20 يوليو هو اعتقال الصحافي حميد المهداوي مدير الجريدة الرقمية «بديل»، اعتقال يعيد طرح العلاقة المتشنجة بين السلطة والصحافة المستقلة في المغرب، ومن يمتلك الرؤية السديدة للمستقبل.
جاء اعتقال مدير «بديل» في ظروف غامضة، بعد الدور الذي لعبه في التعريف والدفاع عن الحراك الشعبي في الريف، هذا الحراك الممتد منذ ثمانية أشهر ويقترب من الشهر التاسع دون أفق للحل، رغم بساطة المطالب الاجتماعية للساكنة وهي، التعليم والشغل والصحة واحترام كرامة الناس، لكن الجواب كان اعتقال المئات وكأن البلاد تعيش حالة استثناء.
وقد اعتادت الدولة المغربية شن هجمات شديدة ضد الصحافة المستقلة والجمعيات الحقوقية واتهامها بقاموس من الاتهامات منها، التشويش على الانتقال الديمقراطي، والتعامل والتخابر لتقويض النظام بهدف إقامة الثورة. وإذا اقتصرنا على العقدين الأخيرين، منذ وصول الملك محمد السادس إلى السلطة حتى الآن، سنجد علاقة متوترة بين الصحافة المستقلة والسلطة، وهي العلاقة نفسها بين الجمعيات الحقوقية والسلطة. ومن خلال استعراض وتحليل مقالات الصحافة المستقلة، طيلة عقدين من الزمن في المغرب، سنجد أن هذه الصحافة لعبت دور المنبه للسلطات لتفادي التدهور التدريجي للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فيه. وهكذا، سنجد الصحافة المستقلة قد نبهت ومنذ سنوات إلى:
أولا، إشكالية تدهور القطاعات الاستراتيجية مثل التعليم والصحة بسبب غياب رؤية استراتيجية.
ثانيا، التحذير من الاختلالات الاقتصادية التي تشهدها البلاد، والتي من نتائجها الفوارق الطبقية الخطيرة التي أخذت في التبلور منذ أواسط العقد الماضي، وبلغت مستويات خطيرة ابتداء من سنة 2015 وتهدد المجتمع المغربي بالانفجار السياسي والاجتماعي.
ثالثا، التحذير من الفساد بأنه تفاقم وتحول إلى أكبر عائق يعيق كل تطور سليم للبلاد، بل يحكم عليها بالتخلف البنيوي.
رابعا، التحذير من غلبة الهاجس الأمني، ومحاولة الدولة ترويض الأحزاب السياسية وإفراغها من صلابتها، وجعلها أشبه بملحق لوزارة الداخلية.
خامسا، نبهت الصحافة المستقلة إلى ظاهرة خطيرة وهي، تفضيل الولاءات على الكفاءات، وهي ظاهرة تقود الدول إلى الانهيار في جميع المجالات.
وكانت الصحافة التي تحذر من هذه الآفات وتطالب الحاكمين بتأمل هذه المعطيات السلبية، وكيف سيكون المغرب خلال السنوات المقبلة، كانت تتعرض لأبشع حملات الترهيب، من الاتهامات المجانية الى إيجاد سبل إقفال هذه المنابر المزعجة وتشريد صحافييها. ونجحت الدولة المغربية في إنهاء تجربة الصحافة المستقلة، لكن الأخيرة وجدت امتدادا لها نسبيا في الصحافة الرقمية، من خلال منابر متميزة من ضمنها منبر «بديل» للمهداوي.
وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على خطاب التنبيه الذي تبنته الصحافة المستقلة، كيف أصبح المغرب الآن؟ لنترك خطاب المعارضة جانبا، ويمكن إجمال التقييم في التقرير الذي أصدره منذ أسابيع قليلة المجلس الأعلى للحسابات، الذي يشرف عليه شخص لا يمكن التشكيك في ولائه للدولة المغربية، وهو إدريس جطو الوزير الأول الأسبق، الذي عينه الملك محمد السادس في المنصب. واعتمد هذا المسؤول على معطيات حسابية دقيقة، وهو تكنوقراطي لا علاقة له بالانتماء الحزبي باستثناء ولائه للدولة. وسطر تقرير إدريس جطو أن المغرب «قريب من الإفلاس».
والتقرير الأخير هو خلاصة التقارير الفرعية أو الجزئية الذي يصدرها منذ ثلاث سنوات حول تدهور مختلف القطاعات الحيوية في المغرب. والنتيجة التي توصل لها تقرير إدريس جطو خطيرة بكل ما تحمله الكلمة من دلالة الخطورة، ومن تجلياتها الحراك الشعبي في الريف من أجل مطالب بسيطة، على رأسها مستشفى لعلاج السرطان.
وللتذكير، هذه النتيجة الكارثية ليست جديدة، فقد صدرت عن ملك البلاد محمد السادس في خطابات سابقة، وأبرزها عندما تساءل حول الإدارة المغربية التي تعتبر عماد البلاد، هل هي من العالم الخامس؟ في الوقت ذاته، عندما تعجب منذ ثلاث سنوات في خطاب شهير عن الفوارق الاجتماعية وتساءل أين هي الثروة؟ سؤال ينتظر المغاربة الجواب عنه منذ ثلاث سنوات.
والآن نتساءل: من المسؤول عن وصول المغرب الى حافة الإفلاس، هل الصحافة المستقلة والجمعيات الحقوقية وبعض الهيئات السياسية التي عجزت الدولة على ترويضها؟ أم الدولة نفسها؟ الصحافة المستقلة والجمعيات الحقوقية لم تشرف على تسيير أي قطاع من قطاعات الدولة، سواء كان حيويا واستراتيجيا أو ثانويا، فقد اكتفى الفاعلون بالتنبيه والتحذير والتوجيه.
في المقابل، نجد أن الدولة عبر مختلف مسؤوليها هي التي تولت الإشراف والتسيير واتخاذ القرار. وعليه، هي المسؤولة عن الواقع الكارثي الذي توجد عليه البلاد في وقتنا الراهن، من انهيار مختلف القطاعات، خاصة التعليم والصحة، عماد نهضة كل دولة، علاوة على ارتفاع المديونية بشكل لم تشهده البلاد، 84% من الناتج القومي الخام، بل رهان الميزانية السنوية على المساعدات الأجنبية، الأوروبية والخليجية.
الصحافة المستقلة والجمعيات الحقوقية والهيئات السياسية المستقلة غير مسؤولة عن «الافلاس» الذي يتحدث عنه الوزير الأول السابق إدريس جطو في تقريره، بل إن المسؤولين لهم أسماء ومناصب وعناوين، والأدهى أنهم يتشدقون ويوزعون صكوك الوطنية.
فهل الوطنية هي إيصال البلاد الى الهاوية وجعلها ضعيفة أمام الجيران؟ هل يدرك الحاكمون ما معنى تحويل البلاد بسبب سياستهم غير المناسبة إلى «كيان شبه مفلس» أمام جيران، شمالا وشرقا، يصنفونهم أعداء؟