تقول حليمة الأربعينية “أستيقظ قبل أذان الفجر.. لا أتوضأ، ولكني كالتي تستعد للحج، والحج هنا مركز القوت اليومي، حيث الإحرام يتخذ شكلاً مائلاً ميل ظهر حليمة، وحليمة “بغلة” بباب له شعائر متعددة، الفرق أن مكة اسمها “سبتة”، والحسنات تنقلب سلعاً غير قانونية؛ لأن الثواب تقابله دريهمات معدودة.” كلام مجازي لكنه عين الحقيقة.
مرحباً بكم، في جمهورية ” الحمالات “، حيث الشرطة المغربية تتحول لشرطة شعبية تحرس الثورة.. ثورة الجياع الحالمين بتهريب “غطاء صنع بإسبانيا” أو “حليب الإفرنج” تسد عائدات تحميله الرمق أو تكاد.
تحكي قصةَ عُمْرٍ قضت أغلبه على أعتاب سبتة السليبة، بين ظلم الإسبان وظلم بني الجلدة، وعن يومها تقول حليمة: أستيقظ في حدود الرابعة صباحا لألحق بـ”زميلاتي” من الحمّالات، يومنا طويل يبدأ في حدود السادسة موعد إلغاء الإنسانية لنتحول لحمّالات في رحلات بين “الخزاين” والتراب المغربي، والخزاين هي محال ضخمة محاذية للمعبر الحدودي، تبيع كل شيء وأي شيء، نحمل أكياساً ملفوفة قد يصل وزن كل واحد منها إلى 60 أو 70 كيلوغراماً، و بصفة متكررة تتراوح بين 4 إلى 5 رحلات يومية، وليس التعب الجسماني هو الأسوأ، بل ذلك الوابل من السب والشتم، وربما الضرب أيضاً الذي نتعرض له ذهاباً وإياباً من طرف الشرطة المغربية أو الإسبانية على حد سواء رغم أن الإسبان أقل همجية من المغاربة”.
وتعيش مئات العائلات المغربية من عائدات التهريب بباب سبتة، آلاف المغاربة يعبرون يوميًّا لجانب الأرض المغربية المحتلة، قصد جلب سلع مهيأة مسبقاً من طرف تجار الجملة على الجانب الآخر، وبجانب هذه التجارة هناك تجارة من نوع آخر هي الإتاوة التي يؤديها كل حمّال وحمَّالة. حيث البقشيش و”القهيوة” (تعبير مغربي تقصد به الرشوة) التي تؤدَّى لرجال الشرطة والجمارك المغاربة سومتها هناك 5 دراهم عن كل رحلة وعن كل فرد.
وتعتبر “سبتة” من أقدم المستعمرات بالعالم، إلا أن الروايات تختلف حول طريقة دخول الإسبان وقبلهم البرتغال للمدينة، لكن الروايات تتشارك في أن البرتغال كانت سباقة سنة 1415م، قبل أن تُسَلَّم لإسبانيا سنة 1668م، لكن هناك نصوصاً أخرى تقول بأن “سبتة” و”مليلية” تم بيعهما “للمحتلين” كأي أرض تباع وتُشترى وهذا أمر لا دليل حوله.
ومنها أيضاً تساؤلات تقول كيف أن محمد بن عبدالكريم الخطابي، القائد المغربي العظيم، وأول من خلق أسلوب حرب العصابات، قبل أن يعلن جمهورية الريف (شمال المغرب) وهو أمر ينكره التاريخ الرسمي المغربي، بل حتى رفاته ما زالت الدولة المغربية تتوجس منه ويشكل لها رعباً كبيراً، وهو المدفون بمصر، كيف أنْ وصل لأبواب سبتة وتوقف.
ويحكي هشام، وهو شاب قارب الأربعين من العمر، كيف كان نشاط التهريب مُرْبِحاً في تسعينيات القرن الماضي ويقول: كان يومي ينتهي عند التاسعة صباحاً وبربح وفير أقله 500 درهم مغربي (دولار أميركي يعادل 9.5 درهم مغربي)، أما الآن فيمكن أن تقضي يوماً كاملاً بالمعبر ولا يتعدى دخلك دراهم معدودة، ومن الوارد جدًّا أن تعود خالي الوفاض، الناس هنا تموت تدريجيًّا وببطء والدولة تعلم كل شيء، لكنها لا تريد التحرك لتوفير حلول لكل هذه العائلات التي لم تعد تجني من التهريب شيئاً، بل هناك من غير النشاط إلى بيع الخبز على أرصفة المضيق والفنيدق (بلدات قريبة من سبتة)، وهناك من انتهت قصته بمأساة بعد أن تحول إلى المتاجرة في الممنوعات لانسداد كل الأبواب أمامه. ويتحدث البعض عن الكساد بعد الأزمة العالمية وكيف أن ميناء المتوسط أثر سلباً على حركية المعبر الحدودي وكذلك على الأنشطة المصاحبة له، ورغم أن مأساة النساء البغلات عرفت تغطية إعلاميه أكثر من مرة، إلا أن الأمر مستمر ويسوء أكثر.
وبعينين ذابلتين ووجه شاحب يحكي مرارة الزمن وقسوة الحياة، ودعتنا حليمة وهي تقول: “يا ابني نحن نموت هنا، وليس لنا إلا الدعاء لنا وعلى من يتحمل وزر المعاناة”.