لا يطمح هذا المقال تقديم إجابات في موضوع اللغة/ الإشكال الذي تتبعنا فصوله مؤخرا بين دائدين عن اللغة العربية و منتصرين للدارجة، نظرا لعدم أهلية صاحبه وعدم تمكنه من مضانها الدقيقة، فكل ما يطمحه المقال مشاركة في السؤال لموضوعة اللغة كما جاءت في تصور الدكتور عبد الله العروي في حواره بجريدة “الأحداث المغربية”، فالمتأمل لحوار الدكتور عبد الله العروي حول اللغة المبتغاة كأداة للتدريس بالمغرب، سيخلص إلى مجموعة من الاعتبارات الأساسية تحكمت في ردود الأستاذ العروي، وتحكمت في رص أجوبته، وهي اعتبارات معرفية لها مصوغها ضمن النسق المعرفي والمنهجي الذي يتصدر عنه الدكتور عبد الله العروي في تناوله لقضايانا ومشاكلنا، ورغم ما حققته ردوده من إجماع شبه كلي من طرف الأصوليين مرورا بالسلفيين إلى الحداثيين، فان مجموعة من الأسئلة بقيت معلقة دون جواب ، بل إن الإجماع هذا بذاته، ينبه إلا أن المشكل بقي معلقا، إن لم نقل مؤجلا كما سيتضح في سياق المقال. لذا سنحاول بداية أن نعيد استعراض مجمل آراء الدكتور العروي ومواقفه الواردة بحوار “الأحداث المغربية” على أن نناقش مضامينها في تسلسل المقال.
اللغة العربية /الوقت-الزمن كناية عن الاستمرارية في الحاضر
فعلى مستوى خدمة الدارجة و نصوصها حتى تصير قابلة للتدريس، يتساءل الأستاذ العروي: “كم سنحتاج من الوقت لنخدم هذه اللغة حتى تصير قائمة الذات و قادرة على أن تكون لغة التدريس و ثقافة؟ مائة عام على الأقل، حينها أين سيصل الآخرون في المشرق مقارنة بنا نحن الذين تفرغنا لخدمة الدارجة…”جريدة الأحداث”” و بالتالي فالمطلوب هو منح “هذه المدة الزمنية لبناء اللغة المعربة وخدمتها ليروا النتيجة دون إحداث قطيعة ثقافية مع ارث الثقافة العربية وما تزخر به من كنوز لا يمكن للدارجة أن تعوضها..”. والدارجة لا تستطيع تعويض العربية، لان العربية راكمت إمكانيات تعبيرية استطاعت أن تتمثل التعبير الإيحائي، فبعد أن يستعرض الأستاذ العروي نصا من رواية “اليتيم” مكتوب بالفصحى يقول: “لا يمكن كتابته بالدارجة لان فيه إيحاءات ، إيحاءات البندقية و همنغواي و توماس مان . هذه تراكم مائتي سنة، و تلاقح بين هذه الحضارة و اللغة العربية المكتوبة التي استطاعت أن تستوعب هذه المعطيات في عمقها و تعبر به بهذا الأسلوب ، بالتالي علينا أن ننتظر مائتي سنة أخرى حتى ننجح في فتح الدارجة على هذه المعطيات و نحقق فيها كل هذه التراكمات ، وعلينا أن ننتظر مائتي سنة حتى ننجح في التعبير بالإيحاءات . …”. ثم يعود الأستاذ العروي مباشرة إلى إكراه الزمن ليذكرنا بصيغة استفهامية حادة “هل نملك الزمان الكافي لتحقيق هذه النتيجة التي تستطيع العربية تحقيقها دون مشاكل. هل استوعب كل الدعاة إلى التعبير بالدارجة إلى هذه الحقائق هل فكروا فيها وفي مضيعة الوقت التي يستدعيها بناء الدارجة…”جريدة الأحداث””.
اللغة العربية: نمط تعبيري بقيمة كونية، كناية عن المستقبل
بين إكراه الوقت الذي يزاحمنا وبين ما راكمته اللغة العربية من إمكانيات تعبيرية أضحت معه قنطرتنا الوحيدة للولوج إلى سوق العالمية، أو بتعبير أوضح إلى الكونية، يحضر النموذج الايرلندي و الهولندي بكل تفاصيله، ثقافتان بأدباء و شعراء كبار لكن دون صدى كوني ” الثقافة الهولندية أنتجت شعراء و قصاصين وروائيين من الطراز الرفيع لكن لغتهم المحلية حالت دون شهرتهم على الصعيد العالمي. مبدعون كبار و لا احد يعرفهم خارج هولندا…”. وكذلك “جيمس جويس الذي عاش في محيط ايرلندي يعادي اللغة الانجليزية ويدافع عن اللغة الوطنية اللستية …..لكن ارتأى أن لا يؤدي ثمن الخطأ الذي ارتكبه أجداده الأبعدون الذين لم يطوروا لغتهم و لم يكتبوا بها…”. فالعربية على نقيض ذلك طوق نجاتنا، بوابتنا نحو الكونية، والجسر الذي من خلاله تعبر ثقافتنا إلى السوية الكونية للإنسانية عكس ما حصل للأدب الايرلندي و الهولندي الذي كان مآله الغمر والتحاشي واللا اكتراث، والدليل حاضر بديهي قائم هو المختار السوسي الذي كتب باللغة العربية فكان مصير أدبه ومؤلفاته غير مصير الهولنديين والايرلنديين، حيث يقول الأستاذ العروي مستفها “المختار السوسي ….تخيل معي لو انه كتب “المعسول” بالسوسية فمن كان سيقرأ ذلك الكتاب الذي مازال إلى اليوم يثير أسئلة قراءه من غير السوسيين؟…”.
اللغة العربية / الأصالة علاقة بالماضي، كناية عن الشخصية والماهوية
لكن نفس الإمكانيات التي تفتحها لنا اللغة العربية الراهنة كإمكانيات تعبيرية وأسلوبية قادرة على استحاثة مضامين كونية، فإنها كذلك صوان امتدادنا الحضاري، ف”إذا اعتمدنا الدارجة لغة مكتوبة سينقطع المغاربة عن الثقافة العربية وما أنتجته طيلة قرون من ارث ثقافي وأدبي وما زالت تنتجه…”، إذن فاللغة العربية إذا كانت بوابتنا نحو الكونية فهي في نفس الوقت ضمان أصالتنا التي ليست في آخر المطاف علاقات عرقية أو جغرافية بل هي انتماء ثقافي /حضاري ، لذا يرى الأستاذ العروي” أن الانتماء إلى المغرب لا يتعارض أصلا مع الانتماء ليس إلى المجموعة العربية أو الشعوب العربية وإنما ثقافة الجاحظ و بن خلدون وألف ليلة وليلة…” وهذا ما ستحرمنا منه الدارجة إن نحن لقناها لأطفالنا ف “إذا اكتفينا بتعليم الطفل الدارجة فستنقطع صلته انقطاعا كليا بتلك الحضارة وثقافتها” بل و بكل ما ساهم ” به المغاربة وأهل الأندلس في تلك الحضارة”.
خــلاصـة أولية
اللغة العربية الأداة التي تربط الحاضر بالماضي عبر مستمر حاضر، هو الأصالة. وتمثل تواصل الحاضر مع المستقبل عبر مستمر آت، هو الكونية.
عود على بدء: في التاريخانية
سيلاحظ القارئ أن عبد الله العروي يفصل الإشكالات المرتبطة باللغة عندنا عبر إساحتها على أربع مستويات تشكل عماد التاريخانية، فبين إكراه الزمن /الوقت و بين ضرورة انخراطنا في التاريخ الكوني أو اندراجنا ضمنه عبر مضامين تعبيرية قادرة على استدعاء أسلوبي كوني دون التفريط في رصيدنا الحضاري ، وبعد تجريد كل الإشكالات الثاوية في مضان الحوار، سنجد أنفسنا أمام استعادة حرفية للمفاهيم الأساس للمقالة التاريخانية . وهي:أولا الاستمرارية ” الوقت، الحاضر ” / ثانيا: الكونية “المستقبل” / ثالثا : الأصالة “حضارة – ثقافة”/ رابعا : التعبير “الفني والأدبي المطابق”
فبعد أربعة عقود و نيف لازال صاحب “الإيديولوجية العربية المعاصرة” وفيا لمقالته المؤسسة، فالتاريخيانية ظلت بالنسبة له منهجا متعددة الروافد لمقاربة إشكاليات مجتمعاتنا، مبتعدا دائما كما عهدناه عن التجريبية التي تعتمد الوصف التفصيلي، وعن الوضعانية التي تتحيز للتجرد المنهجي. كلا التحليلين أو المنهجين بالنسبة للاستاذ العروي ينفي التاريخ أو يراه من منظور واحد ، لذا تأتي معالجة الأستاذ العروي لإشكال اللغة ضمن مستوى التاريخ المقارن واجتماعيات الثقافة، دون السقوط في التبسيطات المجحفة أو المغالطات اللفظية التي تعجز عن رصد الإشكال كما هو مطروح في الواقع.
لكن قبل بداية مناقشة مضامين ما ورد في الحوار بجريدة “الأحداث المغربية”، لا باس أن نحدد المعنى الذي يعطيه الأستاذ العروي للواقع محط حضور الذات و الإشكال في مجمل تصوراته وكتاباته. فدرء لكل التباس قد يجرنا إليه مصطلح الواقع عند التحليل، يدعو الأستاذ العروي الناقد إلى أن يزن الإشكالات المطروحة في الواقع، لا بالنظر الى حاضر مجتمعه، هو فيحكم عليها على ضوء عقائده و مسلماته، بل باعتبار المستقبل المرتسم في أفق المجتمع المدروس، “ففي مجتمع يجتاز مرحلة طفرة كمجتمعنا، كل حكم عل الوضع القائم أو الماضي أو الفكر إيجابا أو سلبا قبولا أو رفضا إنما يكون باعتماد مؤشرات المستقبل”الايديولوجيا العربية المعاصرة”” والمستقبل هنا، هو التاريخ المنجز، المتحقق فعلا على سقف سيرورة الإنسانية، والمفوت في الهنا، أي في واقعنا، انه المستقبل الماضي. إذن فقياس تاريخنا المفوت يتم بناء على تاريخ منجز مكتمل في الهناك. ولمزيد من التوضيح فالتاريخانية تفترض عند التحليل و الرؤية “أن نقتطع من الواقع أجزاء لا نقابل بعضها ببعض ولا نقيسها على بنية واحدة مبطنة فيها -” إشكالية المختار السوسي وإشكالية جون جويس-مآل الهولندية و مآل الدعوة للدارجة “- بل نقيسها بأشكال منطقية تجلت مكتملة في حيز اجتماعي غير حيزنا، نعني الغرب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة “، هناك، حيث الزمان اكتمل فعله واتضح سقفه، ويصبح واقعنا مقاسا على فعل مكتمل و سقف منجز. فالاكتفاء بوصف الواقع ورصد تفاصيله لا يكفي بالنسبة للمجتمع ذي البنى المفوتة، لأنه مجتمع في حقيقة وجوده متجاوز عند التحليل فمرجع النظر بالنسبة للمجتمع المفوت يقع خارج ذلك المجتمع، في مجتمع آخر يعتبر أكثر تقدما، فتتعلق الأفكار بذلك المرجع وليس بما يوحي به المجتمع المتخلف. من خلال هذا الاستعراض المختصر لملامح النظر في واقعنا من قبل الإشكالية التاريخانية، وخلفياتها النظرية المؤطرة ينطلق الأستاذ عبد الله العروي في نقاش مسالة اللغة.