مذهل أن يقف الناس على حقيقة مفارقة المظهر للسلوك، للشخص الذي يدافع عنهم في المحكمة، ويلتمس لهم الصفح والسلامة، ومثير جدا أن يمارس الطبيب التهديد بالقتل في الطرقات، وهو الذي يصر على منح المرض جرعات الأمل في الحياة إلى آخر شهقة. وغير مفهوم بالمرة، أن يتحدث الأستاذ لتلاميذه عن قيمة التسامح، في تخفيض عدد ضحايا الشوارع نتيجة فوضى السير، وبمجرد ما يقلع بسيارته من موقف المؤسسة، يصب وابلا من الشتائم ، على أول طفل يتعثر في عبور الطريق.
إنه مشهد حقيقي، يتكرر أمامنا يوميا، بعيدا عن استوديوهات هوليود. مشهد ذلك السائق-إلا من رحم ربي وهم كثيرون- الذي يحاول في كل مرة، أن يثبت للمارة، أن فرامل سيارته الفارهة من نوع ABS، وأن مقودها “دراولينغ”، وأن لوحتها تكنولوجيا معقدة وذكية، وأنها مصفحة وإن داست الكلاب، وصدمت غيرها من سيارات المتقادمة كل ساعة.
ويرجع سبب هذه النزعة الحيوانية، التي تتملك بعضا من السائقين “شرف الله قدركم” ، إلى شركات إنتاج السيارات التي تختار الأسد، والنسر، والحمار، والفهد الأسود، علامات تجارية لها، بل وحتى في الإشهار التلفزي تصر هذه الشركات، على استعمال هذه الكائنات البريئة، لتثبت للزبائن، متانة الصنع، وقوة المحرك، ودقة الخدمات، وسرعة السيارة…
وسرعان ما تنتقل أرواح هذه الحيوانات المصلوبة على مقدمة هياكل السيارات لتسكن السائق، فتراه يتحول إلى ذئب يتربص بجوانب الطرقات وقرب الثانويات والجامعات، أو إلى نسر كاسر لأعمدة البلدية ولعلامات التشوير، أو يحول سيارته إلى حمار يرفض الحركة وسط الطريق، بينما هو يشتري رغائف “البركة” أو “عجائن باسم الله” أو “بيتزة رام الله” أو “بنيني الصداقة”..
وطبيعي أن يحس السائق بالنشوة، وتفارق روحه جسده، وهو يعتلي آلة معقدة الصنع، يضغط على أزرارها السحرية بثقة مفرطة، و يتحكم في كل خدماتها بالسليقة، دون دارسة معمقة، لهذه التكنولوجيا الذكية ولهذا الاختراع، أو حتى من غير أن تطأ قدمه مدخل المدرسة . غريب أمر هذا العالم .لا يتساوى بعض الذين يعلمون وكثير من الذين يعلمون إلا في ركوب ما فره من الحديد؟؟..
لكن الأجهل والأسفه، والأتفه هو الذي يفقد آدميته، بمجرد أن يركب الآلة. فيجعل الناس إزاء سلوكاته، يندمون على زمن سفينة الصحراء، ويحنون إلى زمن سيادة الدواب التي لا طالما حملناها ما لا تطاق.
صحيح أن السيارة ” دابة العصر” وإن شئت قلت “حذاء العصر”، إلا أن عدد من السائقين، عندما يقودون، يرغبون في إزاحة الناس من الشوارع، أو على الأقل يرغمونهم على الوقوف على جنبات الطريق، ولم لا على التصفيق لهم، وهم ذاهبون إلى عملهم . ويودون أن تلغى إشارات “قف” أو “ممنوع” أو “خفف من السرعة” من قانون السير، وأن يعطل الضوء الأحمر..ولا بأس عندهم أن تنتشر الشرطة..
صراحة إن هذه السلوكات الصادرة عن السائقين تنبع من سلطة البداوة، ومردها دون تحامل، إلى كون المسافة الزمنية الفاصلة بين سفينة الصحراء و”الهامير” أو “الدابة والفيراري” في بعض الأمكنة، لم تراع القدرات الحقيقية لعقليات بعض المجتمعات،التي لم تستوعب هذا التحول الضوئي في نمط الحياة والإنتاج، وتصر البداوة على أن “أناها” لن يرتاح” إلا عندما يستفز الآخر أو يثير انتباهه “بكلاكسون” غير منقطع ومزعج، أو برشة ماء من بركة نتنة، أو على الأقل بشتيمة من وراء زجاج معتم وذلك أضعف الأفعال..ورثناها حديثا على من قايظوا السيارات الذكية بحبات خرذل أو إن شئت قلت خرذولة.

652