Web Analytics
غير مصنف

الثقافة الهوية والهوية الثقافة في تجربة الغجر من خلال رواية “عبسليمو النصراني”

الثقافة الهوية والهوية الثقافة في تجربة الغجر

من خلال رواية ” حكايات المنفى : عبسليمو النصراني”

 للروائي عبد الحميد البجوقي

 

صدرعن دار السليكي اخوان رواية جديدة للكاتب والروائي عبد الحميد البجوقي، تحت عنوان “حكايات المنفى : عبسليمو النصراني” والرواية استمرارا وجزء ثاني لروايته الأولى “عيون المنفى” التي لقيت ترحيبا تجاوبا ايجابيا من قبل جمهور القراء.

منذ البداية يبدو عبد الحميد البجوقي دقيقا في تعريف مجال اشتغاله الروائي، فبين أدب المهجر وادب المنفى ينبري الكاتب مدققا في كون أدب المهجر, حكاية عن هجرة جسدية يحكيه المكان وتتحكم فيه عملية الانتقال في المكان، لكن أدب المنفى أدب ” يحكي عن المنفى الثقافي والعرقي ”  إذ “أدب المنفى أدب في الانتماء والهوية “. هذا الحد التعريفي يصبح هو موضوع الرواية والخيط الناظم لأعمال عبد الحميد البجوقي الروائية, فبين رواية “عيون المنفى” ورواية ” حكايات المنفى” تحضر الهوية والانتماء، التيمة الأساسية في أبعادها المتعددة بل المتشظية، فرواية عبسليمو النصراني منذ صفحاتها الأولى تستدرجنا لإشكال الهوية وتغمسنا مباشرة في لعبة استدراج الى المسالة الامازيغية بالمغرب بين خديجة الامازيغية وخوصي الاسباني، المتأشكل هوياتيا بين أب مغربي وأم غجرية. ويمكن القول منذ البداية  ان رواية “حكايات المنفى : عبسليمو النصراني “ليست فقط ابعد عن أن تكون مجرد أدب، بل هي الى درجة ما متعالقة ومنشبكة في إشكال عام و جزء عضوي من استرجاع ثقافي لمقاربة موضوع الهوية كمشكل يتهدد الذات المغربية الجماعية، لذا تبدو الرواية من منظور ما، حذرة، يقظة ومتوثبة. فعبد الحميد البجوقي لا يؤسس لإشكاله الخاص حول الهوية بطريقة احتدامية، بل يتملكه روائيا اذ يضعه منذ البداية ضمن مسار حكائي هادئ، حيث تبتدئ أولى شرارات الحب بين خوصي “يوسف واريناس الامازيغية ” لكننا نكتشف ان الحكاية الاولى المؤسسة في رواية عبسليمو النصراني هذه ستتوارى بسرعة لتترك المجال لهويات أخرى للحديث عوضها، هي لعبة المقارنة بالمثال، والمثال هنا هم الغجر. ان هذا الاستدراج من الإشكال الهوية – الأرض بالمغرب، إلى إشكال هوياتي , الهوية – الثقافة عند الغجر باسبانيا  يبدو موفقا، ويحيل مباشرة الى استبناء وعي حدي لدى القارئ المغربي بمشاكل الهوية في حضورها المتعدد والمتباين، وبسطا نقيضا للهويات العزلوية المتشبثة بسرديات مختلقة ومتفاوتة التعارض،من خلال نموذج الغجر الذي لما يزل مجهولا او غير مكتنه لدى القارئ المغربي، رغم حضور الغجر في رواية “جيرترود” لحسن نجمي الا انه حضور غير منشبك او متعاضل ضمن إشكالية الهوية، أما في رواية عبد الحميد البجوقي فهو مركزي بل منفذ ذكي لفتح افاق جديدة ونفح الرؤية الهوياتية المغربية بمدى أرحب.  

فبعد ان يستعيد يوسف حكايات الغجر ومشاكل الهوية لديهم، تصرخ اريناس الامازيغية في آخر الرواية,  وهي الناشطة الامازيغية ” ان الاصل في الهوية هو الانسان ، وان الانتماء لا يرتبط بالارض وان الوطن لا تسيجه الحدود ولا اللغات ، ولا الديانات ” لذا تقرر رفقة حبيبها خوصي او يوسف ان تواصل معه ” صناعة معنى جديد للوطن “. قد تبدو هذه التقريرات ضغطا خارجيا من ذات الكاتب لتوضيب روايته في سياق قسري استخطاطي مسبق، الا ان القارئ المتأني للرواية يجد ان عبد الحميد البجوقي بقي خارج لعبة ضغط السياقات، فرواية عبسليمو النصراني رواية حيادية تعطي حق الكلام للجواني الاصلاني للحديث عن نفسه، دون حضور طاغي خارجي يثقفه ويحشره ويتم النطق عوضه وتتم السيطرة عليه وتمثيله وتركيبه واستعادته مسحا وصفيا، وهذا الاصرار من عبد الحميد البجوقي، اثرى الرواية بمادة غنائية واحالات للموسيقى والجسد وتطويقا وصفيا للامكنة والروائح وفق بنية سردية مفتوحة و مختلطة وغير قابلة للتصنيف الاجناسي السهل، ومزيجة على مستوى الواقع والخيال والمعقول والمتخيل والشعر الغنائي والامكنة و المواقع و المشهديات، مما ابعده عن الكليشيهات والاستيهام الخالص لمجتمع متخيل مستعاد ومسيطر عليه ثقافيا، بل دفع بنا مباشرة الى عالم الغجر بكل ما يستبطنه ويعلنه، ورمى بنا في لجته بكل الاحتمالات الممكنة بثراء في الشخصيات و تنوعها و تفاوت مستوياتها الثقافية والعمرية والفئوية.  فنجد نانوكا المعبر الطبيعي الساذج الخام عن تصور الغجر للهوية والوطن من خلال طبعها ومزاجها الحاد، ويحضر رايموندو الذي يصارع من اجل تأسيس معنى جديد للهوية لدى الغجر. و بالتالي فالكاتب حاول ان يكون على مسافة من التعريفات المتجادب بشأنها لدى الغجر ويقدم لنا نموذجين واحد طبيعي عامي ساذج متخيل تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها وتندغم فيه اهواء وتحيزات وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، وآخر عالم او حديث للوجود الغجري باسبانيا وهو مشكل من عالم متماسك ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بمتجلياته و خفاياه، تارة يتآلفا وتارة يتنافرا حد التناقض والتضاد. حيث تبدي نانوكا الشابة تفهما واضحا لشروحات ابن خالتها رايموندو حول الغجر وتاريخهم كما يبدي الجد تيبو ازدراء واضحا لافكار رايموندو الحديثة. لكن امام الواقع المعيش وضغط اليومي تعيش نانوكا مفارقات عدة بين تمثلات الهوية لدى الغجر ومتطلبات المواطنة الحديثة لذا تصرخ نانوكا على الشرطي امام باب المقهى “الارض ليست ارضكم ، هي ارض الجميع ، ونحن احرار في ان نغني وان نرقص حيث نشاء ” تتمرد الهوية الثقافية على لسان نانوكا في طبيعتها الساذجة على مفهوم الملكية الخاصة اذ تعتبر امتلاك شيء يخص الجميع خروجا عن الطبيعة،  فالارض ارض الجميع حتى حينما اخبرت لولا ام نانوكا ابنتها عن وجود عبد السلام المهاجر السري في الحي كان رد فعل نانوكا سؤال  اخر يعيد صياغة لعبة تعريف الهوية من جديد ” ما معنى سري مهاجر؟ ” يبدو سؤال نانوكا لامها غريبا لكنه الحقيقة التي تصدمنا بها نانوكا و يصدمنا بها عبد الحميد البجوقي، فسذاجة السؤال تعيد الانسان الى الاصل ، الاسئلة الاصلية اسئلة طبيعية تنسى في غمار الثقافة والتوافقات المعرفية الكبرى، لكنها حين تطرح من جديد تسفه كل المنجز الانساني.

 امام تفوق السردية القومية الاسبانية الرسمية المتوافق بشانها المحاكة في نسيج التعليم والتربية حيث يتعلم الاطفال كيف يحتفون بتراثهم بطريقة بغيضة على حساب تراثات الاخرين ويصبح  السرد الرسمي جوهرا لا يخضع للزمان او التاويل او يصبح التاريخ الوحيد الجدير بان يسرد، نشا وعي حدي لكنه شقي عند نانوكا فبين “حكاية الرهبان عن الموروس وعن عداوة الموروس للمسيح و المسيحيين ” وبين الحكايات الشفاهية ” سمعت ان المسلمين لا يحبون المسيحيين ” وبين كليشيهات مستعادة كل حين تتذكر نانوكا ” صور ومشاهد الموروس الكفار الغلاظ التي اعتادت على سماعها في الكنيسة وفي السنوات القليلة التي قضتها بالمدرسة ” هذه الكليشيهات هي عمليات اشد خشونة واشد ادواتية هدفها تعبئة الموافقة و الاقرار واجتثات الانشقاق وتسريع خضوع الفرد للمعايير المهيمنة في لحظتها و تشجيع حمية دينية تكاد تكون عمياء، فهادي نانوكا تقول لعبسليمو “لكنك لست مسيحيا، وحسب ما سمعت فان المسلمين لا يقبلون بتغيير دينهم “. ضمن هذا الافق تكتشف نانوكا المنظور الحاقد اللانساني المشبع بروح العنصرية والتفوقية المسلط على الغجر كذلك، فما هو حقيقة يمثل الامة و تاريخها في الوعي الجمعي الاسباني ، لا يخرج بمعنى ما عن ان يكون متخيلا. فالاختلاف كيفما كان نوعه يضع الاخر ويحشره في زاوية المتهم فالموروس متهمون في دينهم و الغجر متهمون في طريقة عيشهم، فقد قال رايموندو  وهو يشرح تاريخ الغجر لنانوكا و صديقاتها لقد اصبح الغجر بعد سيطرة الكنيسة “مهددين في وجودهم بسبب طريقتهم في الحياة” … ” الغجر مواطنون اسبان  يتميزون بثقافة وبهوية مختلفة ” والفكرة التي تختفي وراء هذا التاريخ الملقن و المستعاد في سرديات رسمية ، سننية ” اثودوكسية ” وقومية ومؤسساتية بطريقة سلطوية ينزع بشكل رئيسي الى ان يجمد نساخات للتاريخ مؤقتة ومعرضة للتنازع  فهاذي نانوكا تصرخ في وجه رائد الشرطة ” ما بكم ؟ انتم البيض تحتقروننا وتعتبرون كل غجري متهم ومجرم ولا تكفون عن ملاحقتنا ؟ عنصريون ، هذا حالكم و هذا انتم عنصريون و تعتقدون ان اسبانيا ملك لكم لوحدكم ” ان ما يمثل الامة و تاريخها في وعي الذات الجماعية الاسبانية، لا يخرج بهذا المعنى عن ان يكون متخيلا ، سردا رسميا لكنه سرد منقطع ويستحيل اكتماله حيث تنكسر خطوطه السردية وينفصم الى سرديتين متباينتين ضمن السردية الواحدة فلا غرو ان يميز الغجر انفسهم بالوسم السلبي للاخرين الاسبان بتسميتهم “بالبايوس” فستيبو الجد الحكيم في تهكماته يلخص هذا التنازع الهوياتي بالقول: ان الموروس “ربما لا يحبون المسيحيين البيض ” بايوس” كحالنا نحن الغجر لا نحب المسيحيين البيض، واغلبهم لا يحبوننا رغم اننا مسيحيون مثلهم “ تبدو اسبانيا من منظور الغجر مجموع مروكب  على خرائب حضور هوياتي متمعج ذو حساسية تامة لحقيقة التجربة التاريخية، لكن هذا المنظور ظل من ناحية السرد محاصرا هامشيا يعوضه عبد الحميد البجوقي وفي غياب سرد غجري عالم مؤسس ومكتوب بالسرد المبثوث في ثنايا الشعر والغناء لنتعرف من خلاله على منظور الغجر الرحب للعالم والذات و الاخر ، فكم كان موفقا عبد الحميد البجوقي حين أصر ان يضمن روايته كلمات الاغاني التي كان يتغنى بها او يستمع اليها ابطال روايته لننفذ من خلالها الى الروح الغجرية الهائمة بالحرية كما في اغنية لبريخانو : احرار كالهواء، أحرار كالريح ،كالنجوم في السماء ،كآباءنا واجدادانا، احرار كما كان موتانا” من هذا المدخل ومن باب الايمان به يفتح الغجر لهويتهم بابا مشرعا عن قبول الاخر و التعايش و الانصهار التام معه، لذا قالت احدى اشرس المدافعات عن الغجر, الام لولا لتيبو ان عبسليمو غجريا و تقترح تسميته ب” عبسليمو الخيطانو لانه مثلنا وطنه الترحال وعقيدته الحرية ” على عكس كل العقائد تبدو العقيدة المبنية على مبدا الحرية لدى الخيطانو او الغجري مدخلا لقبول الاخر والتعايش معه .

هل وصلت الرسالة ، هل تستطيع الناشطة  الامازيغية اريناس ان تقرر و تعتقد فعلا ” ان الاصل في الهوية هو الانسان ، وان الانتماء لا يرتبط بالارض وان الوطن لا تسيجه الحدود ولا اللغات ، ولا الديانات ” في انتظار الجزء الثالث من الرواية تبقى رواية عبسليمو النصراني رواية ضد الهوية الجامدة و سياسيات الهوية التي خبرها عن قرب عبد الحميد البجوقي في تجربة المنفى ، رواية عبسليمو النصراني رواية  مناوئة شرسة ضد الهويات المتصلبة التي تصنف نفسها نقيضا للاخر فهي ترسم الهوية ضمن افاق منشبكة متخالطة متمايزة الى درجة كبيرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى