أمام كثرة المظاهر وتوالي الأحداث المؤلمة التي نعيشها في الآونة الأخيرة، والتي تكرس المنحى النكوصي لمحركات البناء الديمقراطي والحداثي تحت ضغط جرافات الفساد الإداري والاقتصادي والسياسي، أصبح جزء مهم من المواطنين ينخرطون بشكل غير مقصود، من خلال ما توفره شبكات التواصل الاجتماعي، في إطار رأي عام وطني قيد التشكل. ومما يسترعي الانتباه بخصوص هذا الرأي العام “الفيسبوكي بالخصوص” هو انسياقه وراء مجريات الأحداث بشكل عاطفي وسطحي وأحيانا بشكل شعبوي يخدم مصالح اتجاهات معينة تستطيع ضبط وتوجيه إيقاعات جيوشها الالكترونية، إما عن طريق اختلاق الإشاعة والأخبار الزائفة، ، أو تحريف وقائع، أو استغلال وتسريب معطيات رسمية، أو تمييع النقاش وتحويره… وسرعان ما تخبو وتضمحل حملات التضامن أو المطالبة بالتحقيق أو التنديد أو غيرها – في وقت قياسي – بمجرد ظهور سحابة أخرى سيحجبها ما يليها من سحاب وهكذا
وطبيعي جدا أن يكون الفاعل السياسي والمدني والمثقف، كجزء من المواطنين المرتبطين بقضايا الشأن العام، أكثر انجذابا ومتابعة لمختلف الوقائع والأحداث. لكن المؤسف هو أن يتحول جزء مهم من المناضلين إلى “مناضلين حصريين في الفضاء الأزرق” يكتفون بترديد عبارات مستهلكة من قبيل “كلنا فلان”، “كلنا فلانة”، “تضامني المطلق”، “إدانة وشجب”….وغيرها من العبارات التي لا ولن تؤثر في الواقع شيئا، بقدر ما تشكل تنفيسا عن الذات وممارسة لنوع من “القيادة والريادة” في الجهر بالمواقف بكل جرأة أمام حشد كبير من الأنصار يقعون خلف شاشة الجهاز، منهم من يجمجم ومنهم من يعلق وكثير منهم لايأبه..
إن هذه الصورة تعكس لنا واقعا لم يعد مطمئنا، يتمثل في انتقالنا من حلبة “الفعل” إلى مدرجات “رد الفعل” لنكتفي بالتصفيق، الصفير أو التعليق، دون أن يكون لنا تأثير مباشر في الواقع/النتيجة.
وفي ظل هذه الصورة الجديدة، تبقى مهمة المناضل اليساري اليوم، وهي أكثر جسامة من ذي قبل، ليس فقط بسبب الانكسارات أوالاستنزاف والتضييق الممنهج واستمرار واقع التحكم والتوجيه، بل كذلك – وهذا هو الأساس – بالنظر لتشعب المهام والواجهات النضالية في واقع منزلق ثؤثث أركانه ردة ثقافية تتغذى من تدهور مستمر للقيم في بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية معتلة. تبقى إذن مهمة المناضلين الشرفاء، ثنائية الأبعاد، من جهة هي مهمة الدفع في اتجاه صناعة التغيير الديمقراطي والبناء الحداثي للدولة والمجتمع، ومن جهة ثانية هي مهمة مقاومة كل أشكال التراجع والردة سواء على مستوى الدولة أو المجتمع. و هي كذلك مهمة لا بد أن تتبنى لزوما كل الوسائل الحديثة للتواصل مع المواطنين دون أن إغفال للنضال الحقيقي المتمثل في الاتصال المباشر و الارتباط المستمر بالمواطنين.
إن الاضطلاع بهاته المهام، في ظل سرعة تداول المعلومات وتطور المفاهيم وتغير أنماط العيش والتفكير والتمثلات، يتوقف على مدى استيعاب اليسار للمعطيات الخاصة بكل لحظة تاريخية وانتصاره للتعامل معها بالواقعية اللازمة، واستثمار ذكائنا الجماعي في بلورة “فعل سياسي وثقافي متميز” قادر على احتضان فئات عريضة من المواطنات والمواطنين.
فبفعل تقصير اليسار، أصبحت بروفايلات “وزن الريشة” تتسيد المشهد السياسي في بلادنا، ولولا تقصير اليسار لما أضحى الإجهاز على المكتسبات الاجتماعية والحقوقية أمرا مستساغا وبهذه السهولة، و لولا تقصير اليسار لما أصبحت احتجاجات المواطنين وإضرابات الطبقة العاملة وكأنها جولات وأيام نزهة، لولا تقصير اليسار لما أصبحنا مهددين في حرية الملبس وربما غدا في المأكل والمشرب…، لولا تقصير اليسار لكان المغرب في وضع أفضل…
فاليسار اليوم مطالب اليوم بإعادة تملك زمام المبادرة السياسية والتفكير الاستراتيجي والاستباقي، و بالعودة السريعة إلى مجال الفعل الثقافي والرياضي عبر إحياء الأنشطة الفنية والإبداعية من تشكيل وأدب ومسرح وموسيقى ومسابقات رياضية…لأن معركة الحداثة والتنوير تقوم أساسا على فتح المجال لتفجير الطاقات الإبداعية، وهي ليست مجالا مقتصرا على التأصيل الفكري والنظري بقدر ما هي ممارسة يومية منسجمة وملتزمة بقيمها. كما يتعين على اليسار اليوم أن يعيد النظر في بعض جوانب الممارسة السياسية، والاتجاه إلى بناء وتحديث هذه الممارسة وفق أسس علمية تجعلها قادرة على ترجمة الشعارات المؤطرة للخط السياسي وتقديم إجابات دقيقة لمختلف القضايا والإشكاليات التي يعاني منها المجتمع. فعلى سبيل المثال، لم يعد اليوم مقبولا أن ننظم ندوات ولقاءات سياسية مكثفة زمانيا ومجاليا بشعارات عامة ومستنسخة من قبيل “الوضع السياسي الراهن ومهام اليسار”، “الوضع السياسي الراهن والحركة اليسارية”، “اليسار المغربي ومهام المرحلة”، “مغرب ما بعد 2011″، “دستور ما بعد 20 فبراير”… وما إلى ذلك من العناوين التي لم تعد تسترعي اهتمام المواطنين. و يتعين بدلا من ذلك الاتجاه إلى لقاءات سياسية أو فكرية تخلص في نهايتها إلى توصيات وخلاصات تشكل عصب الالتـقاء مع هموم المواطنين و تقديم الإجابات الشافية لمعاناتهم وفق الرؤية السياسية للحزب/اليسار: النمو الاقتصادي؟ التعليم؟ الصحة؟ التشغيل؟ التنمية المجالية؟ تدبير وإدارة التجمعات السكنية الكبرى؟ تنمية العالم القروي؟ الإعلام العمومي؟ السكن؟ البيئة؟ البنيات التحتية؟ البحث العلمي؟ الحقوق الاجتماعية؟ الأقطاب الاقتصادية؟ السياحة؟ الرياضة؟ ….
اليسار اليوم مطالب بإعادة بناء الذات، مطالب بشق طريق الوحدة الوعرة، مطالب بتوفير شروط الدمقرطة والتحديث، مطالب بتحصين المكتسبات وصيانة الحريات، مطالب باحتضان آمال الجماهير العريضة، وماذلك على مناضلاتنا ومناضلينا بعزيز. في انتظار أن تكتمل في بلادنا إحدى أهم أركان الممارسة الديمقراطية، وهي التعددية السياسية الحقيقية التي تخدم فعليا العملية الديمقراطية، بنشوء أحزاب ليبرالية وأخرى محافظة وأحزاب وسط ووو…، لا تعددية “الشكل والخشيبات” ،لأن ما لدينا اليوم لا يغدو أن يكون عبارة تجمعات بشرية متجمعة حول خط “النفعية والانتهازية والمصلحة الخاصة” بألوان مختلفة وتتغذى من دوائر المصالح والنفوذ، لاهي ليبرالية ولا وسطية ولامحافظة…
568