ككل أنماط الريع ، لا يحيد قطاع الطاكسي عن التلازم والتواؤم بين الامتياز وغياب القانون ، فشرط وجود وبقاء نظام الامتياز والريع هو غياب القانون ونفيه ، وهي الحالة المثالية التي يعمل الريع على الاستفادة منها إلى أقصى حد ليزداد تغولا، ولتكريس قانونه ـ أي قانون الريع القائم على مبدأي “العقاب والمكافأة ” الصادرة عن حالة نفسية مزاجية ـ ، يسعى المنتفعون من الريع دائما إلى التصدي لكل الدعوات المطالبة بإعلاء القانون وسيادته، أو تكريس مفاهيم الحق والمواطنة وتكافؤ الفرص، وهي دعوات ترى فيها الفئات المستفيدة من الريع، تهديدا لمصالحها الاقتصادية ولسيطرتها السياسية، وبالتالي تعمد إلى إدامة نظامها وشبكات مصالحها وتعزيزها عبر ضرب كل نزوع نحو التقنين أو التنظيم .
إن لص الأسواق يغتنم كل فرصة للمشاجرة بين التجار، والتي تخلق حالة الفوضى في السوق، فهي اللحظة المناسبة ليمارس عملية السرقة والسطو النظيف، دون أن يثير انتباه أحد، وبنفس القدر وبنفس منطق الاستفادة من وضعية الفوضى الاجتماعية وغياب الضوابط القانونية، يستفيد الريع من حالة غياب القانون ليمارس عملية النهب النظيف، لكل الثروة الوطنية وممارسة الاغتناء الغير المشروع .
إن سيادة القانون ، مبدأ دستوري وحقوقي ، وتطلع شعبي يستند إلى الحق في الحماية ضد الوضعيات التعسفية والحالات المهينة لكرامة المواطن الفرد، وفق قوانين مكتوبة صادرة طبق الإجراءات الدستورية، ومفعلة لعقد اجتماعي بين الحاكم والمحكوم، ومحدد لمسافة الحقوق والواجبات . في الوقت ذاته الذي يعتبر فيه ذو الامتياز والمستفيدون من الريع، أن القانون ذو صفة وأحكام مثالية لا تراعي الواقع، وإصدارها أو تنزيلها قد يخلق فتنة في المجتمع، بما يهدد الاستقرار، ويبدو واضحا أن هذا الدفاع لا يصدر إلا عن محاولة لتأبيد الانتفاع ولإبقاء منظومة العلاقات الظالمة في قطاعات الريع، ونخص بالذكر هنا قطاع الطاكسي، ويغيب عن إدراكهم الصفة الاجتماعية والطبيعية للقانون، كما يجدر التنبيه أن الفتنة المحتملة لإصدار القوانين هي أقل ضررا من الفتنة الناتجة عن بقاء الظلم والإقصاء والاستعباد، فإذا كانت الأولى تهدد مصالح فئة قليلة مستفيدة من الريع، فإن انتفاء القانون يهدد كيان وبنيان النظام الاجتماعي برمته .
ولقد ظلت كل نضالات السائقين مند عقود، تتمحور حول مطلب أساسي هو تقنين المهنة وتنظيمها، وشكل هذا المطلب شعارا يكثف مجمل المطالب المهنية والاجتماعية، لكنهم لم يكلفوا أنفسهم بالمبادرة إلى وضع قانونهم وشكل التنظيم الذي يطمحون إليه، والحقيقة أن عراقيل كثيرة تعيق تحقيق هذا الهدف، بدء من انتشار ثقافة الريع واعتباره قدرا لا مفر منه ، مرورا بغياب الكفاءات المفكرة داخل القطاع، وسيطرة القوى المتنفذة داخل النقابات على تحركات السائقين، وسيادة النظرة الأمنية من طرف الأجهزة الحكومية التي اعتبرت القطاع “قطاعا استيراتيجيا ” عملت بكل الوسائل على بلقنته وتعميق تشرذمه، وخلق تمثيليات متعددة ساهمت في إذكاء الصراع بين نخبه وممثليه على المصالح والامتيازات ، وبالتالي أسهمت في تجدر أنماط الريع بأشكال متجددة، فاسحة المجال لبروز ريع نقابي وجمعوي، ومعمقة من سلوك التقرب إلى السلطة ومنابع الريع وسط النخبة النقابية والجمعوية، ما وسم العلاقات الداخلية بطابع الصراع بين تلك النقابات والجمعيات نفسها في سبيل كسب رضا السلطة، ونيل حظوتها، عوض التكتل في وجه السلطة وحمايتها للمنتفعين من الامتياز والريع ، ويضاف كل هذا إلى عدم تجانس القطاع نفسه من حيث تعدد الأطراف فيه وتضارب مصالحهم ، فوجود المنتفعين من المأذونيات والمستغلين لها والسائقين الممارسين، خلق نوعا من التشويش، أعاق طرح مطلب جامع للفئات الثلاث، وعمق من حالة التشرذم واليأس من أي توجه نحو الإقلاع والنهوض بالقطاع .
إن إصدار قانون منظم للمهنة ، ليس من مهمة الوزارات الوصية، بل هي مهمة السائقين الأساسية، فإذا كنا نعرف جيدا ما لانريده ، فإن الخلاف قابع في الجواب عن سؤال”ماذا نريد؟” ، وإن حسم وإنتاج هذا الجواب، لن يتم إلا عبر خلق نقاش هادئ بين كل الأطراف داخل القطاع، وإنتاج آلية قانونية تحمي مصالح الجميع ضمن سياقات التحول نحو قطاع مدني حداثي، إن هذه المهمة ليست مستحيلة، بل إنها موجودة بالفعل، هنا والآن ، فمبادرة سائقي الدار البيضاء إلى إصدار مشروع قانون” يحدد قواعد العمل، ويؤسس للمراقبة التقنية والمحاسبة المهنية ” تبدو بالمقارنة مع السياقات السابقة ذكرها ، خطوة جد متقدمة، وتنبئ بتحول نوعي في شكل الممارسة النقابية بقطاع سيارات الأجرة، تقطع مع تفشي منطق الشكوى والعجز، وتتجاوزها إلى تكريس قيم المبادرة والإقتراح، وتوحيد كل الفئات حول مطلب جوهري واحد ، وخلق أرضية ملموسة لإنجاز هدف ملموس ومحدد ومكتمل الصياغة، في شكل قانون مقترح .
وبدون الدخول في مضمون قانون سائقي الدار البيضاء، وهو مشروع القانون الذي يأخذ حيزا من 50 صفحة ، استوقفني فيه الديباجة المصاغة بدقة، والتي تشير إلى المرجعيات المتحكمة في إصداره، وما تحمله من رسائل نوعية إلى كل الفرقاء والمهتمين والأطراف السياسية والنقابية والحكومية ،والمجتمع بصفة عامة ، تقول الديباجة :
تجسيدا لمبدأ الحق في الاقتراح
واستنادا إلى المبادئ العليا التي نص عليها دستور المملكة، وخاصة المتعلقة بترسيخ ثقافة المشاركة في تدبير الشأن العام .
ومساهمة منا في الجهد الوطني للحد من الاختلالات التي تمس الحكامة الاقتصادية الجيدة .
وتطويقا لوضعيات الاحتكار والامتياز في قطاع سيارات الأجرة .
وترسيخا لمبادئ دولة الحق والقانون .
وإعلاء لمفردات العدالة الاجتماعية وتعميما لها .
ومن أجل بلورة قطاع أكثر تنظيما، ولإدماجه وإخضاعه لقوة القانون وسيادته
وفي سياق التفاعل مع المبادرات الوجيهة والنيات الصادقة للرفع من مستوى قطاع سيارات الأجرة، وتمكينه من الانخراط في إعادة هيكلت ، وخلق شروط المنافسة الشريفة بين مكوناته .
ومن أجل دعم قيام قطاع قائم على الكفاءة المهنية، واحترام مبادئ السياقة المهنية السليمة، ومراعاة شروط البيئة النظيفة .
ومن أجل دعم المبادرات التنموية المستدامة، وفتح آفاق الاستثمار أمام مختلف الفاعلين المهنيين في إطار قانوني سليم، ومحيط اجتماعي يميزه السلم والتنافس والكفاءة .
ومن أجل خلق سيارة أجرة تخضع للمبادئ الدولية التي تتحدد في القرب، المرونة، احترام البيئة ، الفخامة والأمان .
فإننا نتقدم أمام الجهات المسؤولة ………”
والأكيد جدا ، أن هذه المبادرة تعكس التطور النوعي الذي يشهده القطاع على مستوى إنتاج الكفاءات، وإنتاج الحلول لمختلف مشاكله ضمن رؤية شمولية للتحولات الاجتماعية وتفاعلا معها، ما قد ينتج مستقبلا تحولا في النظرة المجتمعية لنضالات السائقين، وتجاوزا ذاتيا لوضعية التهميش، وللنظرة الدونية التي تتعاطى بها مختلف الفئات الاجتماعية مع نضالات السائقين، فإذا كان المجتمع يصبو إلى دولة الحق والقانون، فإن السائقين في مقدمة المتطلعين والعاملين والمناضلين في سبيل تحقيق هذا الهذف وليس العكس، وإذا كان المجتمع يطمح في قيام نظام وتنظيم اجتماعي محكم متماسك ومتراص ومتناسق، فإن السائقين أيضا وبنفس القدر يعملون على ذلك، وليست الفوضى ديدنهم ولا سلوكهم أثناء الممارسة المهنية، وأثناء الممارسة النضالية .