صرح الحسين الوردي وزير الصحة، قبل نحو شهر من الآن، أنه «ليس هناك أي دراسة علمية تؤكد ارتفاع عدد الإصابات بالسرطان في الريف مقارنة مع مناطق أخرى في المغرب»، قبل أن يضيف أن «الكلام ليس نهائيا في الموضوع، ولا يعني نفي ما يروج عن كون الغازات السامة التي قصفت بها المنطقة من مسببات ارتفاع عدد المصابين بالسرطان»، كلام الوزير يحتمل أكثر من تأويل، فالوزير نفى وجود أدلة «مادية» علمية تثبت وجود علاقة سببية بين الغازات السامة وانتشار مرض السرطان في الريف، ورفع تحديا واضحا «من يتوفر عليها فليأتيني بها»، في المقابل لم يغلق الوردي الباب بشكل كلي أمام فرضية وجود هذه العلاقة السببية، بمعنى آخر الوزير لم يقدم جوابا، ووعد بالكشف قريبا عن نتائج دراسة في الموضوع.
المؤرخة الإسبانية الشهيرة، ماريا روزا دي مادرياغا، ذكرت في مؤلفاتها حول حرب الريف، وفي مقالاتها والندوات التي تشارك فيها، أن إسبانيا استخدمت الغازات السامة في حرب الريف، ووثائق كثيرة من الأرشيف العسكري الفرنسي، مراسلات قيادات الجيش الإسباني، ووزير الحربية البريطاني في تلك الفترة (حرب الريف)، كلها شواهد على استخدام إسبانيا للغازات السامة بهدف «الانتقام من الريفيين»، بعد سلسلة الهزائم المذلة التي عاناها الجيش الإسباني، والمثير أن ريفيا مغربيا، هو والد المارشال أمزيان، كان من أكثر المطالبين بتدمير الريفيين وإبادتهم بالغازات السامة، إضافة إلى الماريشال ذاته، الذي شارك في الحرب، وساهم بعد الاستقلال في قمع «انتفاضة 58/59» التي عاشها الريف والمعروفة «بعام الجبل»، وهذه كلها مؤشرات قوية على أن إسبانيا استخدمت ما يكفي من الغازات السامة، لتتسبب في سرطنة الخلايا البشرية، وبالتالي انتقال السرطان عبر المورثات الجينية عبر الأجيال، ليصل إلينا اليوم.
في هذا التحقيق، تنقل لكم «المساء»، كيف ينتقل السرطان وراثيا، من جيل إلى آخر، وكيف تبين النتائج المخبرية أن الغازات التي استخدمتها إسبانيا في حربها على المقاومة الريفية، بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي، تسبب السرطان.
هل تخشى الدولة من الحقيقة؟
هناك تفسيرات متفرقة بشأن هذا الموضوع، حسب ما توصلت إليه «المساء» من خلال لقاءات بباحثين في مجال البيولوجيا والعلوم الكيماوية، وفاعلين جمعويين وسياسيين أيضا، حيث يرى هؤلاء أن التوصل إلى نتائج حاسمة، قد تكشف انتقال السرطان وراثيا في هذه المناطق، نتيجة تعرض الأجيال السابقة، التي عاشت حرب الريف، لقصف مكثف بالأسلحة الكيماوية، سيتسبب في صدمة مفجعة لسكان هذه المناطق، كما أن نتائجه السياسية، ستكون مكلفة للغاية، وقد تؤدي إلى فتح جرح عميق، تحول مع مرور الوقت، إلى مجرد روايات تاريخية لا أحد يأبه لها، وتحولت إلى ما يشبه حكايات الجدات، لكن الحقيقة المرة، حسب باحثين متخصصين فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم لحساسية الموضوع، فإن فرضية (والفرضية هنا بالمعنى العلمي تكون مسنودة بأدلة علمية مختبرية)، وجود علاقة سببية بين الغازات الكيماوية، ومرض السرطان، فرضية أقوى مما يتصوره الكثيرون، حتى أن بعض الدراسات الأولية التي أنجزت بشكل غير مباشر في المنطقة، خلصت إلى نتائج تعزز هذه الفرضية، أولها حسب هؤلاء، غياب تصاريح بأسباب الوفاة في العديد من المستشفيات بالمنطقة، ما يعني أن الأرقام التي تكشف لا تعكس الحقيقة كاملة، ويتم التستر على حجم انتشار الداء المميت.
يقول واحد من الباحثين في البيولوجيا، من أبناء منطقة الريف، إن دراسة أجراها سنة 2007، خلصت إلى نتائج مثيرة، أولها، غياب تصاريح طبية دقيقة لأسباب وفاة غالبية الوفيات التي تحدث داخل المستشفيات العمومية، وأضاف الباحث ذاته، أن الحالات الكثيرة المسجلة في المستشفيات تتم الإشارة إليها عرضيا كوفايات عادية طبيعية، ولا يتم تحديد أسباب الوفاة، ما يطرح الكثير من الأسئلة، لماذا ترفض إدارات المستشفيات تحرير تقرير مفصل لأسباب الوفاة لمعرفة أصناف وأنواع الأمراض الأكثر تسببا للوفيات في منطقة الشرق والشمال؟ وكشف الباحث المختص في البيولوجيا، أن الدراسة خلصت أيضا إلى أن أعدادا كبيرة من الوفيات سجلت بالمستشفيات العمومية، بينما لم تسجل إلا حالات قليلة جدا داخل المصحات الخاصة، مضيفا، أن المصحات الخاصة «تتخلص» من المرضى الذين تتحقق من وفاتهم المحتومة، حفاظا على سمعتها وصورتها لدى زبنائها، ما يجعل الصورة المتداولة حول الصحة، هو أن المستشفيات العمومية تقتل أكثر، بينما لا أحد يموت داخل المصحات الخاصة.
مادارياغا.. مؤرخة إسبانية تعيد زراعة الشك
في السادس من شهر فبراير الماضي، نشرت صحيفة «إلباييس» الإسبانية واسعة الانتشار، مقالا مثيرا للمؤرخة الشهيرة «ماريا روزا مادارياغا»، وكتبت مؤلفة كتاب «إسبانيا والريف.. أحداث تاريخ شبه منسي»، «بدأ استخدام الغازات السامة في منطقة الحماية الإسبانية عام 1923، حيث تم استخدامها في بادئ الأمر من قبل المدفعية، ثم من قبل الطيران بعد ذلك، وكان الجيش يرغب في توسيع نطاق استخدامها بهدف إحداث أكبر قدر ممكن من الأضرار المادية والجسمانية، وتحطيم معنويات المقاتلين الريفيين والسكان المدنيين، ولكن حال عدد من العوامل، بعضها ذات طابع تقني والآخر سياسي، دون بلوغ هذا المسعى، ويبدو أنه كانت هناك انتقائية في التركيز على أهداف وقبائل محدودة جدا، سيما في الريف الأوسط الذي يشكل النواة الصلبة للمقاومة الريفية، إلا أن استخدامها وصل إلى أراضي قبائل «غمارة» والجهة الغربية حيث تستقر قبائل «جبالة». وبدأ استخدامها قبل قيادة «بريمو دي ريفيرا»، وتم تكثيفها بعد ذلك تحت سلطته لتستمر حتى نهاية الحرب في يوليوز عام 1927»، وقالت المؤرخة في المقالة نفسها «من الصعب تفسير وجود علاقة سببية بين الإصابة بالسرطان وهذه المادة المسرطنة (غاز الخردل)، في حالات التعرض مرة واحدة أو التعرض من حين لآخر لهذا الغاز، مثل ما حدث أثناء القصف، وبالتالي، سيكون من المغالاة القول بأن أغلب حالات الإصابة بالسرطان في الريف يمكن أن تعزى إلى آثار «غاز الخردل» في السكان وأحفاد أولئك الذين تضرروا في العشرينيات من القرن الماضي جراء القصف».
هناك توافق بين الأوساط العلمية وكلام الباحثة الإسبانية، حول صعوبة الحسم في العلاقة السببية بين استخدام غاز «الخردل» والإصابة بمرض السرطان، في ظل غياب دراسة علمية ميدانية، لكن المبررات نفسها التي تدفع الكثيرين إلى رفض فرضية وجود علاقة مماثلة، يمكن استخدامها للقول بالعكس، فما الذي يمنع من القول بوجود هذه العلاقة السببية إذا كانت البحوث العلمية الدقيقة هي الفاصل؟ إذن مادامت المختبرات العلمية بعيدة عن النقاش السائد حول الملف الذي سيكمل 100 عام، بعد أقل من 10 سنوات من الآن، فإن التأويلات ستبقى سيدة الموقف، مع ميل طفيف للكفة في اتجاه ترجيح فرضية وجود علاقة سببية بين الغازات الكيماوية ومرض السرطان، إذا ما انطلق البحث عن الجواب من قواعد علم الجينات والبيولوجيا الكيماوية، على النحو الذي ذكر في أجزاء سابقة من الملف، خاصة وأن المصادر التاريخية المختلفة التي تناولت موضوع حرب الريف، تؤكد استخدام الطيران الحربي الإسباني، لكميات هائلة من الغازات الكيماوية، فاقت 400 طن، أيضا يقول المختصون في علم الكيمياء العضوية، أن تأثيرات غاز الخردل لا تقتصر على المناطق التي تعرضت للقصف فقط، بل إنه «يسبح» في التربة ويمكن أن يلحق أضرارا بالفرشاة المائية، والنباتات، وبالتالي فإن تأثيرات الغاز القاتل، تنتشر على نطاق جغرافي واسع، وتشمل كافة مكونات المجال البيئي، وبالتالي ينضاف عامل آخر، لتدعيم فرضية وجود العلاقة السببية، بين انتشار مرض السرطان في الريف والشمال ومناطق مجاورة، مثل تازة وتاونات إلى حدود وجدة، وبين استخدام غاز الخردل في حرب الريف.
الماريشال أمزيان.. الريفي الذي طالب بإبادة بني جلدته
«لم تقتصر المطالبة باستعمال الغازات السامة على إسبانيا، بل تعالت من المغرب، وقد دافع عنها صديق من المورو يدعى «أمزيان الطيب»، لتمييزه عن «أمزيان السيء»… «الجيد» كان في الحقيقة أحد المتعاونين الأوفياء مع إسبانيا، وهو أب الجندي المغربي المشهور محمد أمزيان، الذي شارك في الحرب، إلى جانب فرانكو سنة 1936، واحتل بعد ذلك رتبة جنرال»، هكذا تحدثت المؤرخة الإسبانية الشهيرة ماريا روزا دي مادرياغا في كتابها «مغاربة في خدمة فرانكو»، عن المارشال الشهير الذي خدم الجيش الإسباني على مدى أزيد من 40 سنة، وتدرج في مختلف الرتب العسكرية، قبل أن يلتحق بالجيش المغربي سنة 1956، برتبة ماريشال، وهي الرتبة التي لم يسبق لأي مغربي أن نالها في صفوف الجيش المغربي، ولا في الجيش الإسباني، ما عدى الملك السابق خوان كارلوس.
الوثائق التاريخية تقول بأن والد الماريشال أمزيان، كان من أشد المتحمسين لشن حرب كيماوية ضد المقاومة الريفية بزعامة محمد عبد الكريم الخطابي، وفي حوار صحفي أجراه أمزيان الأب، في 24 عشت 1921 مع جريدة «إيرالدو دي مدريد»، بدا الرجل ملحا على ضرورة استخدام الغازات السامة لإخماد الثورة الريفية «السياسة الوحيدة التي يجب اتباعها مع المورو هي القوة والشدة، يجب القضاء عليهم وإبادتهم، الانتقام منهم وقتلهم إن كان ذلك هو الثمن»، وكان إلحاح أمزيان على استخدام الغازات السامة ضد الريفيين، انعكاسا للمطالب التي تعالت من داخل الجيش الإسباني، باللجوء لحرب كيماوية مدمرة، انتقاما من الثوار الريفيين، الذين ألحقوا هزيمة شنيعة بالجيش الإسباني، في معركة أنوال الشهيرة، ولم يكن الماريشال أمزيان، ابن أمزيان، إلا واحدا من الجنود اللامعين في صفوف الجيش الإسباني، الأكثر كراهية للريفيين، وأبرز المطالبين بتدميرهم والانتقام منهم، بعد سلسلة الهزائم المذلة التي تسببوا فيها للجيش الإسباني، والتي خلفت استياء عارما داخل المجتمع الإسباني.