Web Analytics
مقالات الرأي

حزب “بوديموس” مغربيا

لغويا تعني كلمة “بوديموس” بالإسبانية “قادرون” باللغة العربية، و”نزمَّا”، من “ثِزمَّا”، بأمازيغية أهل الريف. و”بوديموس” هو الاسم الذي أخذته تنسيقية إسبانية تعمل ببرنامج اليسار الاجتماعي، وتعلن نفسها ضد كل أشكال الفساد السياسي والاقتصادي الذي ينخر الجارة الشمالية، بالرغم من أن اسبانيا نموذج ناجح الى حد ما في ممارسة الديمقراطية، كلعبة سياسية، وليس كثقافة سياسية ومجتمعية.

بتاريخ 17 يناير 2014 أصبحت تنسيقية “بوديموس” حزبا سياسيا معترفا به، يقوده دكتور العلوم السياسية بابلو إغليسياس، ويعتبر بوديموس حزبا إصلاحيًا عكس ما يضن البعض ويروج له كونه حزبا يساريًا راديكاليًا، بالرغم من أن قياداته السياسية غالبها من اليسار المناهض للرأسمالية بشكل عام. ويريدون حل مشاكل بلادهم بما يضمن كرامة الناس ويصون حريتهم الفردية والجماعية ويعمق حقوقهم الاساسية،ويفتح لهم آفاق التفكير المتعدد المشدود الى المستقبل وليس الى الماضي، ويبيح لهم الايمان بالرب الذي أرادوه أو الكفر به، والاستمتاع بالجسد والتحكم فيه، والتشبث بكل ما يضمن عيش الانسان على ايقاع انسانيته مما يتيح لهم نبذ العنف، الفردي أو الجماعي، اينما انفجر، ومتابعة مرتكبيه وفق ما أجمعت عليه الانسانية من قوانين تحتكم الى ضمان كرامة الناس وجميع حقوقهم التي كانت في الاصل حاجيات لهم، وهم لا يختلفون عن كل أطياف اليسار الحالي الا بالقول “أن اليسار واليمين وما يدور في فلكهما غارق في ملفات الفساد السياسي والمالي مما يهين الديمقراطية في بلدهم، و لا يسمح للإسبان قطف ثمارها “.

بعد أربعة أشهر من تشكيلها، خاضت بوديموس الانتخابات الأوروبية عام 2014، حققت فيها خمسة مقاعد (من أصل 54) أي 7.98٪ من الأصوات، مما جعلها القوة الرابعة في إسبانيا. وقبل أمس نجحت ” بوديموس” في خلق الحدث السياسي الابرز في اسبانيا بتقدمها – حسب استطلاع للرأي – على جميع الفرقاء السياسيين، مما ينبأ بإمكانية تسييرها لدواليب الدولة عقب الانتخابات المقبلة، خاصة و أن على يمينها نمت حركة أخرى ذات توجه يميني قاعدي” سيودادانوس” أي مواطنون، من المؤكد أنها ستضعف كثيرا الحزب الشعبي اليميني المتربع اليوم على عرش الحكومة المركزية في مدريد العاصمة. هل سمعتم مثقفا اسبانيا رفع صوته بالقول أن بوديموس “بنية موازية للدولة” ؟ لا.. هل سمعتم أحدا يؤلب ” من يجيد السمع ” في اسبانيا على “بوديموس” أو حتي على “سيودادانوس ؟ لا.
كل ما سمعناه جميعا، وتتبعناه خلال الاسابيع الماضية، عقب اعلان نتائج الاستطلاع، نقاش هادئ بين جميع الفرقاء السياسيين الإسبان، يحللون أسباب بروز نجم ” بوديموس”، ويحاول البعض منهم – والارتباك بادي على محياهم- اقناع الشعب الاسباني بأن الامر سحابة صيف مرتبط بالأزمة المالية- الاجتماعية التي تعيشها اسبانيا منذ أزيد من عشر سنوات، والتي كادت ان تعصف بالدولة الاسبانية وتلغي وجودها. ورغم هذه التطمينات فالجميع مقتنع بأن الخلل عميق جدا، ويتطلب تحليلا أعمق، واجراءات شجاعة غير مسبوقة، فتاريخ اسبانيا يريد – لأسباب تتعلق بتكون الدولة الاسبانية نفسها ، وبطبيعة نخبها السياسية وثقافتهم- اعادة نفسه بشكل دوري، دون أن ينتبه السياسيون الى الأمر الا بعد فوات الاوان .أو لأن الأمر أقوى منهم جميعا، ويتطلب منهم انسيابية، وانفتاحا وتسامحا أكثر في التعامل مع قضاياهم الداخلية.

مغربيا، أثارت تجربة “بوديموس” لعاب الكثير من هواة السياسة و اصطياد فرص الارتقاء السياسي والاجتماعي، حتي ممن لا يتقاسمون و”بوديموس” همومها الحقوقية والاجتماعية، ولم يقف الأمر عند حد الاعجاب فقط ، بل منهم من ذهب الى حدود التفكير في استيراد الفكرة، والاشتغال بها وعليها، بغية تأسيس ” دكان” سياسي آخر هنا، دون أن ينتبهوا الى شرط السياق السياسي لظهور “بوديموس” ونموه ووصوله في شهر يناير من السنة الماضية الى تأسيس حزب سياسي، ودون حتى أن يعرفوا أي شيء عن التربة السياسية الأسبانية التي أنبتت “بوديموس، وأنبتت على يمينها “سيودادانوس”. ولعل هذا الطمع هو الذي أعمى هؤلاء وآخرون عن النظر الى الواقع السياسي المحلي للنظر ما اذا كان في المشهد السياسي المغربي ما يشبه حزب “بوديموس” ويتقاطع مع أهدافه أم لا، مما يعطي لنا شرعية طرح الاسئلة الاتية :
– ألا يوجد بيننا – في هذا البلد – من قال بكل هذا حتى ننخرط معه دون أن نفكر في استيراد فكرة غريبة عن تربتنا ؟
– ألم تولد في هذا البلد حركة كثفت مطالب الحركية الحقوقية المغربية ومطالب الحداثيين والتقدميين المغاربة التي أصدرتها هيئة الانصاف والمصالحة عبارة عن توصيات، وحولتها فيما بعد الى برنامج سياسي قبل حتي أن تكون “بوديموس” نفطة فكرية.

نعم، فالمتتبع المبتدئ للمشهد السياسي المغربي سيلاحظ أن أدبيات “الاصالة والمعاصرة” تتقاطع- في الجوهر – الى حد كبير مع طروحات حزب “بوديموس”، دون ان يكون في الامر اسقاط أو محاولة استيراد افكار جاهزة، ما حدث هو أن “مثقفينا” لم يلعبوا دور “اثارة انتباه الناس الى جوهر الاشياء ودفعهم الى فهم سياقاتها”، وحكموا على انفسهم بالبقاء في قوقعة مناصر هذا، أو مهاجم على ذاك، من هنا استحضر احدى خلاصات مقالي السابق المعنون ب ” الشجاعة السياسية”، والتأكيد على أن دور المثقف ليس هو تأليب الدولة على طرف سياسي لصالح آخر، بل أن دور المثقف هو استيعاب “كنه “اللحظات السياسية المؤسسة للمستقبل “، ودفع الناس الى استغلالها لما فيه صالح البناء الديمقراطي الذي هو الطريق الوحيد لحماية الدولة والمجتمع من قيام أية بنية موازية لها .

ولعل مرد ذلك يرجع الى، وهنا استحضر خلاصة ثانية لنفس المقال، ان جل مثقفينا لم يستوعبوا كنه لحظة الانصاف والمصالحة، ولم يتناولوها بالعمق الضروري، ولم يستوعبوا – عن جهل بمناهج العدالة الانتقالية- كيف يمكن لمسلسل المصالحة أن ينتهي الى بروز حزب سياسي يكون من مهامه تكثيف مطالب الانتقال والمساهمة فيه.ويتعلق الأمر هنا بسكوت مثقفين كثر – لهذا السبب أو آخر، شرحت جلها في المقال السابق – عن هجومات تلقاها بعض المجتهدون منا، ممن أخذوا على عاتقهم التفاعل الايجابي مع مسلسل المصالحة ببلادنا، وتأسيس “بوديموس” على ايقاع تاريخنا وأحلامنا .

من هنا ، وما دمت من داعمي معركة “بوديموس” على الطريقة الاسبانية أو البرازيلية أو الافريقية الجنوبية أو غيرها من الأمم التي ولدت نساء ورجالا همهم بناء الاوطان التي تتسع للجميع، أن معركتنا اليوم التي يجب أن نخوضها، ليس فقط في حزب الاصالة والمعاصرة، ذو النفس النضالي الشبيه بنفس بوديموس الإسباني، بل في كل الاحزاب التواقة الى المستقبل، اليمينية منها واليسارية، هي العمل – وهنا أستحضر خلاصة ثالثة : للعودة الى أجواء ما بعد صدور توصيات هيئة الانصاف والمصالحة، وتجاوز ما تسببته لنا أجواء “الربيع العربي” السيء الذكر من تخلف عن مسارنا الطبيعي لبناء الدمقراطية والمغرب المتسع للجميع، والتعبير عن جوهر معركة ” بوديموس” مغربيا التي بدأت مع بداية مسلسل الانصاف والمصالحة أو قبله بقليل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى