العودة إلى الحدود
دانييل شاب نحيف الجسد طويل القامة أسمر البشرة، لدرجة أن أصدقائه ينادونه ب”المورو دانييل”، غالبا ما كان سعيد يمزح معه مناديا إياه بايصانوPaisano (ابن البلد)، كان خجول الطبع وقليل الكلام، أصوله تعود إلى منطقة أستورياسAsturias الواقعة في شمال إسبانيا، وهي منطقة جبلية وعرة، وغالبا ما كان المحامي دانييل يفتخر بانتمائه إليها ويردد أنها الحدود التي لم تستطع جيوش المسلمين تجاوزها .
فاتح سعيد صديقه دانييل في موضوع رفيقيه، وبخطته الرامية إلى مساعدتهما على عبور الحدود نحو إسبانيا عبر بوابة مدينة سبتة المجاورة لمدينة تطوان.
بعد توطئة طويلة حكى له فيها بتفصيل ودقة عن تجربته في المغرب وعن الانتفاضة وعن النظام وعن رفاقه، كانت مفاجأة سعيد أن دانييل رد عليه بالموافقة الفورية، فقط أخبره أن مداخيله الحالية لا تسمح له بتحمل مصاريف السفر، وطمأنه سعيد أنه بصدد تدبير الجانب المالي، والمطلوب هو مرافقته ودعمه في المهمة، كما طمأنه بأن تدابير مرور رفيقيه سيتكفل بها رفيق من المنطقة دون أن يُفصح سعيد لدانييل أن الرفيق الذي سيتدبر موضوع المرور هو أخوه عبدالهادي.
بعد أيام اتصل عبدالهادي بسعيد وأخبره بأن الترتيبات جاهزة، واتفقا على يوم الخميس موعدًا للقاء في مدينة سبتة، وطمأن سعيد أخاه بأنه قد تدبر موضوع المال وأن صديقا محاميا من مدريد سيرافقه في الرحلة.
وصل سعيد ودانييل إلى مدينة سبتة يوم أربعاء عبر الباخرة من مدينة الجزيرة الخضراء، ونزلا في فندق بكايي ريال Calle Real(الشارع الملكي)، وهو الشارع الرئيسي في المدينة. ترك سعيد صديقه دانييل في الفندق وخرج يبحث عن صديقه إبراهيم في حي البرنيسيبي Príncipe(حي الأمير)، وهو حي، يقطنه المغاربة، مجاور للحدود مع المغرب ومعروف كمعقل لعصابات التهريب والمخدرات.
انتاب سعيدا شعور بالخوف وهو يتجول في حي البرينسيبي، ولم يكن خوفه من العصابات ولا من قلة الأمن بقدر ما كان خائفا من قربه من المغرب ومن حركة المرور بين الحدود، وكان يرتاب في كل من نظر إليه ويشك في أن يكون مُخبرا قد تعرف عليه، وتذكر الكابوس الذي كان يزوره في نومه، وراودته الوساوس بأن الكابوس حلم سيتحقق الآن، فبدأ يتفحص الوجوه السمينة وكل من له شارب كثيف، متخيلا أن الشرطي الذي يراه في الحلم اللعين سينبعث فجأة ليعتقله، وفي لحظات تخيل أن أخاه عبدالهادي اعتقل وأن الشرطة كانت تفرض عليه، تحت وطأة التعذيب، الاتصال به وإيهامه بعملية مساعدة رفاقه في العبور نحو الضفة الأخرى لاستدراجه إلى سبتة بقصد اختطافه ونقله إلى المغرب. بدأ سعيد يشعر بالعرق يتصبب من جبينه رغم شدة البرد، وبدأ يلعن سذاجته التي ألقت به إلى هذا المصير، وتخيل حبيبته إيصابيل وحضنها الدافئ وبدأ يُؤنب نفسه:
“كيف لي أن أعود إلى هذا الجحيم بعد أن نجوت ، يالني من مغامر بليد”
وقف سعيد عند باب مقهى يعج بالمغاربة وسمع صوت آذان الظهر الذي أعاد له بعض الطمأنينة، وبدأ يُفكر بالعودة فورا إلى الفندق حين شعر بيد تقبض عليه من كتفه. تجمد سعيد في مكانه واستدار مرعوبا يزيل اليد من على كتفه ويهم بالصراخ لولا أن أسرع الرجل، صاحب اليد، في كشف غطاء جلبابه عن رأسه وصرخ مُسرعا:
“سعيد، سعيد، أنا أخوك عبد الهادي”.
اطمأن سعيد وتنفس الصعداء وبادره قائلا: “ماذا تفعل هنا، لم نتفق على اللقاء اليوم”، فأجابه عبدالهادي بهدوئه المعهود “فضلت أن أصل اليوم، قبل قدوم رفيقيك بصحبة عبدالسلام شعبولة، لترتيب عملية الاتصال بوسيط الشرطة الإسبانية، إبراهيم السبتاوي، وتأمين مروركم بسرعة نحو مدينة الجزيرة الخضراء”
تنفس سعيد الصعداء وعانق أخاه بحرارة وشعر بنزول حرارة جسمه وبرودة العرق الذي كان يتصبب ساخنا من جبينه، ثم أجاب: “صدفة غريبة، فأنا فكرت في الموضوع ذاته وجئت باحثا عن الوسيط إبراهيم “
سأل سعيد أخاه عن تاريخ وصول الرفيقين، فأخبره عبدالهادي أنهما سيصلان غدا فجرا، وسط المهربين، بصحبة عبدالسلام شعبولة، وأن كل التدابير والاحتياطات تم اتخادها، ونصح سعيدا بالعودة إلى الفندق بحجة أن الحي غير آمن ويعج بالمخبرين المغاربة، وأنه سيواصل لوحده البحث عن الوسيط إبراهيم السبتاوي، وسيتفق معه على كل الإجراءات وعلى ثمن رشوة الشرطي وتوقيت مداومته في باب الباخرة لترتيب الرحلة وشراء التذاكر.
على الساعة السابعة، نزل سعيد وصديقه دانييل إلى الحانة المجاورة للفندق، وطلب دانييل بيرتين بينما خرج سعيد إلى هاتف عمومي واتصل بإيصابيل يُطمئنها على وصوله وبأن كل شيء على مايرام، وأثناء عودته التقى بعبد الهادي متجها إلى الفندق بصحبة الوسيط السبتاوي، وبعد المصافحة والترحيب، طلب منهما سعيد أن ينتظراه في حانة كارمن المجاورة لسوق صرف العملة حتى لا يطلع دانييل على تفاصيل العملية، وعاد بسرعة إلى حيث صديقه المحامي وأخبره أنه سيتغيب بعض الوقت لتدبير بعض الترتيبات.
في حانة كارمن، أخبرالوسيط إبراهيم الأخوين بأن حالة استنفار تعرفها شرطة المدينة بسبب زيارة غير مرتقبة لمفتشين من مدريد، ولن يستطيع تدبير العملية قبل يوم السبت، وأن الشرطي المرتشي رفع من سومة الرشوة لأنه مضطر لاقتسامها مع زميله، كما أخبرهم بأن المعنيين يجب أن يحملا جواز سفر لكل منهما، ولوكان جواز شخص آخر، وذلك لاستبعاد الشبهات والتظاهر بأن الأمر عادي، وسيتعرف الشرطي على علامة سيتفق معه عليها وسيتم وضعها في الصفحة 12 من الجواز.
“كم ثمن السومة التي يطلبها الشرطي بما فيها حصتك؟” سأل سعيد الوسيط إبراهيم برنة المُتشكك، فأجابه الوسيط وهويتحاشى النظر في عينيه: “15ألف بسيطة لكل واحد” مدعيا أنه تنازل عن حصته للصداقة التي تجمعه بالعائلة.
كان على عبد الهادي أن يعود إلى تطوان في نفس الليلة لجلب جواز سفر إضافي ليستعمله الرفيقان في مرورهما، وتكلف سعيد بتدبر أمر مبيتهما ليلة الجمعة وتوفير المبلغ المطلوب الذي يجب دفعه أربعا وعشرين ساعة قبل موعد المرور. بقي أن يتدبروا كيفية إرجاع الجوازات بعد استعمالها في المرور، ولم يجدا من حل سوى أن يستعمل دانييل صفته كإسباني ومحام للخروج من الباخرة، بعد مرورهم وصعودهم إلى الباخرة، بدعوى أنه نسي ملفا عند صديقه الذي أتي لتوديعه وتسليم الجوازات المستعملة لعبدالهادي ثم العودة مُسرعا إلى الباخرة قبل إقلاعها.
مرت العملية يوم السبت على مايرام، وغادرت المجموعة في باخرة الحادية عشرة ونصفٍ صباحا في اتجاه الجزيرة الخضراء، وكان سعيد آخر من صعد إلى الباخرة بعد أن عانق أخاه عبد الهادي بحرارة قائلا: “حتى الآن، يبدو أن الحظ يرافقنا، والباقي على الله”.
طمأن عبد الهادي أخاه سعيدا وربت على عنقه دون أن يستطيع محو علامات الحزن والانقباض البادية على وجهه.
أطلقت الباخرة صفير إقلاعها متجهة نحو الضفة الأخرى بينما سعيد يتجاذب الحديث مع رفيقيه جمال وكريم محاولا تهدئتهما وحضّهما على أن يبتسما وأن يتصرفا بشكل طبيعي، في حين وقف دانييل الذي كان هو الآخر مرتبكا بعض الشيء في مقهى الباخرة يحتسي بيرة من الحجم الكبير ويدخن سيجارة من نوع دوكادوسDucados التي كان يحبها.
بعد ساعة من الإبحار بدت للمجموعة دهرا بأكمله، وصلوا إلى ميناء الجزيرة الخضراء، ورغم أن مصعد الباخرة قبل انطلاقها من سبتة هو آخر نقطة تفتيش رسمية، يعرف سعيد أن الشرطة السرية غالبا ما تتجول في بهو الدخول إلى ميناء الجزيرة الخضراء وتتفحص الوجوه، وأحيانا تطلب جوازات السفر من الذين تشك في أمرهم أو تظهر عليهم علامات الارتباك. لم يخبر سعيد صديقيه بذلك حتى يتجنب ارتباكهما، لكنه أوصاهما بعدم المبالغة في التعبير عن الفرح وتأجيل ذلك إلى ما بعد الوصول إلى مدريد.
واصلت المجموعة مشيها يتقدمها دانييل، وكادت تخرج من الميناء في اتجاه محطة القطار القريب من الميناء حين سمع سعيد صوتا صارما ينادي: “أنت مورينوMoreno (الأسمر)”. استدار سعيد ورأى شخصا أنيقا يلبس بدلة سوداء وربطة عنق زرقاء، وعرف بسرعة أنه من الشرطة السرية. تجمد سعيد واصفر وجه جمال وكريم بينما لم ينتبه دانييل وواصل طريقه مُسرعا بالخروج، فهرول الرجل في اتجاه المجموعة يأمر بالوقوف،وحينها انتبه دانييل واستدار سائلا الرجل:
“ما الموضوع؟ لماذا تناديهم؟ ماذا تُريد؟”.
في لحظات تخيل سعيد أن كل شيء قد انهار، نظر إلى رفيقيه فوجدهما على وشك الانهيار ينظران إليه نظرة استعطاف، وفي ثوان اقترب الرجل متوجها صوب دانييل وأجابه بصرامة وبنفس النبرة الآمرة:
“لا، لا أنادي المجموعة، أناديك أنت، مورينو” وقبل أن يجيبه دانييل أردف الرجل: “أرني جواز سفرك من فضلك” وأضاف: ” هل تفهمني؟ هل تتكلم الإسبانية؟”
انزعج دانييل ورد بنرفزة: “أتكلم الاسبانية أحسن منك، وأنا من أستورياس، وهي إسبانيا الحقيقية لأنها المنطقة الوحيدة التي لم يدخلها الموروس (العرب) بعد استيلائهم على شبه الجزيرة الإيبيرية”.
ظلّ جمال وكريم متسمرين في مكانهما دون أن يفهما مغزى الحوار الذي يدور بين دانييل والشرطي، وبسرعة طلبت منهما مواصلة المشي. فهمت حينها أن الشرطي شك في أن دانييل مهاجر سري ويريد التأكد من هويته، واقترب سعيد من الرجل تغالبه ابتسامة تكاد تتحول إلى ضحك هستيري مستفسرا إن كان يريد جواز سفره كذلك، لكن الشرطي واصل غير آبه بكلام سعيد: “لا،لا، أريد جواز سفر هذا المغربي”، وقبل أن يرد دانييل، أومأ سعيد له بالامتثال وربح الوقت حتى يبتعد صديقاهما.
امتثل دانييل وناول الرجل بطاقته الوطنية الإسبانية وبطاقة المهنة وهو يردد كلمات نابية ضد الشرطة. بدا الرجل محرجا وتفحص في وجه دانييل، ثم اعتذر وعاد من حيث أتى بينما دانييل يسب ويلعن ويستشيط غضبا ليس فقط من الشرطي بل كذلك من ضحك سعيد عليه وتعليقاته.
” ألم أقل لك إنك بايصانو(ابن البلد)، إنك مورو (عربي) في شكلك وسحنتك ومشيتك أكثر مني” علق سعيد بعد ذهاب الشرطي.
ابتسم دانييل وقال: “على الأقل، هذه المرة، سحنتي أنقذت صديقيك يا كابرون (مسخوط)، واستمر سعيد يضحك بشكل هستيري حتى لحقا بصديقيه اللذين وجداهما شاحبين، فشرح لهما سعيد الموضوع وهو لا يتوقف عن الضحك بينما دانييل يجاري سعيدا في ضحكه دون أن يخفي امتعاضه وغضبه.