خطـة مستعجـلة
جمال وكريم رفيقان لسعيد ظلا مُتابعين بتهمة المشاركة في انتفاضة 1984، وكان نصيبهما الحكم ب30سنة سجنا نافدة كنصيب سعيد، وكانا في حالة فرار، فبينما استطاع سعيد المغادرة إلى اسبانيا ظلّ رفيقاه مُختبئين داخل المغرب.
سأل سعيد أخاه عبدالهادي عن إمكانية وصولهما إلى سبتة، فأجابه عبد الهادي أنه دبر أمر ذلك مع مهرب يُعرف بإسم شعبولة وأن المطلوب من سعيد تدبير أمر مرورهما من سبتة إلى مدريد. كما أخبره عبد الهادي بأن الموضوع مستعجل والشرطة تلاحقهما. سأل سعيد أخاه عبدالهادي عن المال، فأجابه أن ما استطاع توفيره قليل وأن على سعيد بذل بعض المجهود في تدبير الأمر.
عاد سعيد إلى عمله يفكر بأمر رفيقيه المتابعين ويتخيل بحسرة وألم حالهما وحال عائلتيهما وانفضاض أغلب الأصدقاء من حولهما، فقرر أن يتدبر الأمر بسرعة وأن يبحث عن طريقة لمرورهما من الحدود بين سبتة والجزيرة الخضراء. تذكر أن صديقه ابن حي زيانة، ابراهيم المهرب، أخبره مرة عن شبكة تشتغل مع الشرطة الإسبانية في تسهيل مرور المهاجرين نحو الضفة الأخرى بأثمان مناسبة، وعزم أمره على تدبير الموضوع في أقرب وقت.
فاتح سعيد صديقه فرناندو في الموضوع وأخبره بـأنه ينوي النزول إلى مدينة سبتة للإشراف على عبور رفيقيه، وطبعا شرح سعيد لفرناندو موقع المدينة الحدودية مع المغرب والمخاطر التي ترافق ذلك. ونصح فرناندو سعيدا بالتفكير في خطة قبل السفر والعمل في سرية كاملة، وطبعا لم يطلب سعيد من صديقه اللاتيني دعما ماليا لما يعرفه من وضع فرناندو المادي وتبذيره للقليل الذي يحصل عليه من المساعدة المخصصة لللاجئين. وقبل أن يعود سعيد إلى بيته من مدريد، مساء الجمعة، عرج على جمعية أصدقاء اليونسكو لمعرفة الجديد عن أخبار صلاح ومجموعته التي انقطع عنها منذ مدة، وفي مقر الجمعية، الذي كان يعج بالزوار، التقى بدانييل وهو شاب من منطقة أستورياس حديث التخرج من كلية الحقوق، تعرف عليه سعيد في ندوة نظمتها الكنيسة حول قانون الأجانب، وأخبر دانييل سعيدا أنه فتح مكتبا للمحاماة بمدريد وبدأ يُزاول المهنة.
عاد سعيد إلى بيته وهو يُفكر في موضوع رفاقه وفي كيفية الوصول إلى شبكة تهريب المهاجرين وفي المال الذي يحتاجه لتمويل كل العملية بداية بنزوله إلى مدينة سبتة الحدودية، وظل سعيد كل الوقت الذي قضاه في القطار يُفكر في الموضوع ويحتسب مصاريف العملية التي قدرها في 50ألف بسيطة، وهو مبلغ كبير لايدري كيف يمكنه تدبيره.
وصل سعيد إلى البيت وفرح لما وجد إيصابيل تنتظره. عانقها بحرارة وهو يسألها عن سر الزيارة ليلة الجمعة بدل السبت المتفق عليه، فأجابته بغنج: “حبيبي، ألا تريدني بجانبك في هذه الليلة الباردة”، ابتسم سعيد وأجابها وهو يضع قبلة على شفتيها:
“بل أريدك في كل ليالي وأسابيع وأيام وساعات ودقائق وثواني السنة”، ثم أردف بالعربية يغني مقطعا من أغاني فيروز: “أحبك في الصيف، أحبك في الشتي، وأحرف الرسالة كتبها حبيبي..” ضحكت إيصابيل وفي وجهها بريق ولمعان زاد من جمالها واتجهت نحو المطبخ وهي تردد: “لم أفهم الكلمات، لكن نبرات صوتك ينبعث منها حب جارف”
استغل سعيد غياب شريكه عن البيت وفاتح إيصابيل في موضوع رفاقه وفي المغامرة التي هو مُقبل عليها. وتغيرت ملامح إيصابيل بمجرد سماعها للموضوع وارتجفت وهي تُردد: “حبيبي، تمهل بعض الشيء ولا تُغامر بنفسك، ألا يُمكنك تكليف شخص آخر بدل أن تغامر بنفسك؟”
أعجب سعيد بخوف حبيبته عليه وضمها إلى صدره وعانقها بقوة وهو يردد:
“لا تخافي عزيزتي، لا توجد قوة في الأرض تستطيع أن تُبعدني عنك، سآخد كل الاحتياطات وسأبحث عن مُرافق يرافقني في المهمة”، ثم واصل:
“المشكلة في المال وفي البحث عن الشخص المناسب لمُرافقتي”
هدأت إيصابيل بعض الشيء وظلت تنظر إليه وهو يحكي عن رفاقه وعن نشاطهم إلى جانبه، وعن اليوم الذي حولوا فيه تجمعا خطابيا انتخابيا لحزبهم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في ساحة الفدان بتطوان، إلى تظاهرة جماهيرية تطلبت تدخل قوات الردع، وكيف اعتقلت الشرطة أحدهم وسرعان ما أطلقت سراحه إثر استمرار التظاهرة بعد أن وجهها، صحبة رفاقه، صوب مركز الشرطة للمطالبة بإطلاق سراح الرفيق المُعتقل.
لم يتوقف سعيد عن سرد حكايته مع صديقيه المهددين اليوم بالاعتقال والصادر في حقهما حكم غيابي ب30 سنة سجنا نافذة، وبدت على سعيد علامات الزهو أحيانا والحزن أحيانا أخرى حتى استوقفته إيصابيل بهدوئها ولطافتها قائلة:
“عمري، حياتي، كفى، كفى، فهمت أهمية الموضوع بالنسبة إليك، ولا تهتم، من ناحية النقود، سأتحدث مع أمي في الموضوع لتُقرضنا المبلغ”
نظر سعيد إلى إيصابيل وهو يكاد يطير فرحا، لكنه تراجع بعض الشيء مبتعدا عن حبيبته وعلامات التردد بادية عليه. فهمت إيصابيل انشغاله وقالت له:
“حبيبي أتعتقد أنني مجنونة، لعلك تفكر في سرية الموضوع، ولا تريد أن يطّلع عليه أحد، ولا حتى أمي”، وواصلت إيصابيل دون أن تنتظر ردا من سعيد: “لا تخف سأخبر أمي بذرائع أخرى غير الحقيقية”.
بقدر ما بدا سعيد فرحا باقتراح إيصابيل، استمرت علامات الانشغال بادية عليه بينما عادت إيصابيل إلى المطبخ لتواصل تهييء طورطية البطاطس الإسبانيةTortilla Española التي يحبها سعيد، وتبعها سعيد إلى المطبخ ووقف خلف حبيبته يتأمل قوامها الجميل وجيدها الرفيع، واقترب منها حتى شعرت بأنفاسه وبرزت شعيرات جلدها الخفيف، ولاحظ ارتعاشها وبدأ يسمع دقات قلبها وزاد اقترابه حتى لمست شفتاه عنقها من الخلف، فلم تتمالك إيصابيل وتأوهت قبل أن تدور وترتخي في حضنه.
وبينما الحبيبان مندمجان في عناق طويل يسمع كل واحد منهما دقات قلب الآخر، رن هاتف المنزل فطلب سعيد من حبيبته أن تهمل هذا المزعج الذي يرن في غير وقته. لكن إيصابيل ألحت في الرد لأنها تنتظر مكالمة من أمها التي غالبا ما تريد أن تعرف مكانها إذا كانت ستقضي الليلة خارج البيت.
أخذت إيصابيل السماعة وذهب سعيد إلى غرفته لتغيير ملابسه لكنه سمع إيصابيل تناديه وهي تقول: “حبيبي يطلبك صديق اسمه دانييلDaniel “
خرج سعيد مسرعا من غرفته ورد لبعض الدقائق على صديقه المحامي ثم أغلق السماعة وإيصابيل تنظر إليه وعلى وجهها علامات السؤال عن من يكون دانييل هذا، فأخبرها سعيد أنه محام حديث التخرج تعرف عليه في إحدى الندوات عن قانون الأجانب وأنه يساري متضامن مع المقهورين.
ظلت إيصابيل تنظر إلى سعيد وعلى سحنتها علامات تفكير ورغبة في البوح بشيء ما، وقبل أن يسألها سعيد قالت بنبرة المُكتشف:
“سعيد ألم تكن تبحث عن مرافق في مغامرتك إلى سبتة؟ لماذا لا تقترح الموضوع على صديقك دانييل، خصوصا أنه محامي ويمكنه المساعدة في حالة حصول أي طارئ يتطلب المساعدة القانونية”
أعجب سعيد بالإقتراح، لكنه لم يجب، وظل يُفكر بعض الوقت بينما يواصل تغيير ملابسه في الغرفة، ومن المطبخ نادته إيصابيل: “حبيبي، ماذا قررت؟”
بعد ثوان، التحق سعيد بإيصابيل منشرحا واحتضنها وهو يُردد:
“فكرتك رائعة، يبقى أن اقترح الموضوع على صديقي دانييل لأرى مدى استعداده”، وواصل وهو يُقبلها: “حبيبتي، أنت رائعة وجميلة وذكية، أنت ملاكي الذي يحميني، كنت مغموما لا أدري كيف أدبر هذا الموضوع، فإذا بك تجدين الحل تلو الآخر”.