من ربوع تطوان الغراء، الحمامة الأندلسية البيضاء، طلعت وأينعت ريشة الخطاط الفنان أحمد الصديقي. ريشة عاشقة للحرف العربي، مولعة بتطريزه وتوشيته، على مدار أربعة عقود ونيف. والخط العربي، هو قسيم الحرف العربي وصنوه الشقيق- اللصيق، منذ النداء القرآني الباهر/ اقرأ باسم ربك الذي خلق. عبورا باللوامع والآي القرآنية الكريمة/ ن والقلم وما يسطرون. وكتاب مسطور في رق منشور. وبذلك اجتمعت في الحرف العربي بلاغتان، بلاغة البيان، وبلاغة ما تطرزه البنان. بلاغة المخبر، وبلاغة المظهر. وقد جاء أحمد الصديقي إلى الخط العربي، من تلك الضفاف الزاهرة اليانعة، ضفاف الأدب العربي، قديمه وحديثه، تليده وجديده، أي جاء إلى بلاغة الخط العربي من بلاغة الكلمة العربية، شعرية ونثرية في آن.
فقد تلقى تعليمه الثانوي في مدينة تطوان، في ثانوية القاضي عياض. وكانت هذه الثانوية إحدى القلاع العرفانية- المغربية المرموقة، إلى جانب ثانوية مولاي يوسف بالرباط، وثانوية مولاي إدريس بفاس، وثانوية ابن يوسف بمراكش. وأتم دراسته الجامعية بكلية الآداب- ظهر المهراز بفاس، أيام عزها وسؤددها. ثم استقر، عودا على بدء، بمدينته الجميلة – الأثيلة تطوان، المدينة الحمامة التي سكنها وسكنت منه الشغاف، والتي يقول عنها في حوار مع الأديب الصحفي يوسف خليل السباعي بجريدة ” تمودة تطوان”: ” محبوبتي الخالدة تطوان أجمل مدن الكون وحمامة السلام ومعقل المقاومة وجيش التحرير ومنارة الفن والثقافة…”.
وفي هذه المدينة، كان معرض خطه الأخير، الذي ازدان بنماذج راقية ورائعة من خطوطه الأنيقة المتماوجة بين المغربي والكوفي والمبسوط والثلث والمجوهر والمسند والخط المدمج والفارسي والرقعي الخ…، وقد توافد زوار كثيرون على هذا المعرض، زرافات ووحدانا، من كل فج وجنس، بمن في ذلك الزوار الأجانب الذين بهرتهم جمالية الحرف العربي، المنبجسة من أنامل الفنان أحمد الصديقي، بهجة للناظرين ومتعة فنية راقية للأذواق والنفوس. وهي نماذج خطية اشتغلت على درر وغرر أدبية وشعرية من سجل الأدب العربي، كما اشتغلت على آي بينات من القرآن الكريم. وذلك ما أضفى وأسبغ على معرض أحمد الصديقي، متعتين وجماليتين متضافرتين ومتآزرتين، متعة وجمالية النص الأدبي المخطوط- المخطط من جهة، ومتعة وجمالية الخط الذي أبدعته وأينعته ريشة الخطاط- الفنان أحمد الصديقي. ومن ثم كانت لوحات المعرض الخطية، أشبه ما تكون بقصائد بصرية عصماء، ترفل في حلل الرونق والبهاء.. بما يذكرني بزمن القصيدة المغربية- الكاليغرافية، في سبعينيات القرن الفارط، حيث زاوجت بين شعرية الشعر وشعرية الخط.. وبما يذكرني وعاد بي أيضا، إلى أزمنة وتجليات الخط العربي الرائعة- الراقية في القاهرة ودمشق وبغداد، بأيدي وأنامل فطاحل الخط العربي الحديث، بهذه الحواضر المرموقة. وهم بلا شك، الآباء الروحيون والأساتذة الماهدون للخطاط أحمد الصديقي ، الذي يمثل الجيل الجديد في شجرة أنساب هؤلاء الخطاطين، وفي ديار المغرب تحديدا، ودارة تطوان الفيحاء تخصيصا. وهذا جسر ممدود وعروة وثقى بين الخلف والسلف. ومن جميل صنيع الخطاط أحمد الصديقي، أنه مبدع عاشق لجميع أنواع وضروب الخط العربي، مجيد فيها جميعا وسوية..
لكن يبقى الخط المغربي الأصيل، مناط ومركز عشقه واهتمامه، نازعا في ذلك عن هوى مكين لهويته المغربية السارية منه مسرى الدم، ومسرى الحبر الذي يطرز به. وعلى هامش المعرض الجميل لخطوط أحمد الصديقي ، ألقى محاضرة ضافية شافية عن تاريخ الخط العربي وتجلياته الرائعة ومدارسه العريقة وأنواعه المأثورة والمشهورة، عبر مشارق الأرض ومغاربها. راجعا في ذلك إلى أمهات الكتب والمراجع، مدعما محاضرته بالشواهد والفرائد والفوائد الجمة، التي أحاطت بظاهرة الخط العربي، من كافة المناحي والأبعاد، إحاطة السوار بالمعصم.. بما يجعل من المحاضرة في حد ذاتها، مرجعا مكثفا في هذا الباب. وبدافع من هذه الغيرة- المضرية على الخط العربي، والدفاع الباسل عنه، فإن الخطاط أحمد الصديقي، ما ينفك يدعو، في مختلف المواقف والمحافل، إلى إدراج الخط العربي في برامج ومناهج التعليم، من أجل صون هويته وحرمته وإشعاعه بين الأجيال. ذلك أن الخط العربي، الذي هو وعاء الحرف العربي وكيانه، ركن ركين وعنصر مكين في الهوية العربية، الجامعة بين الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، على اختلاف أطيافها ومشاربها وثقافاتها.. في سياق التنوع ضمن الوحدة أو الوحدة ضمن التنوع.. وفي الاختلاف رحمة للعالمين. كما لا ينفك يدعو، بحميته المعهودة والمشهودة، إلى إنشاء معهد خاص بالخط العربي والمغربي، كقلعة ثقافية، فنية، وتراثية، تشرف المغرب وتعزز قلاعه الثقافية الأخرى.
ذلك أن الرأسمال الرمزي والثقافي، يبقى عماد الأمة وسندها. يقول الصديقي في هذا الصدد: ” وقد سبق لي أن دعوت مرارا وتكرار كل الجهات المعنية إلى ضرورة إنشاء معهد للخط العربي والمغربي على غرار ما هو قائم في عدد من الدول العربية والإسلامية في كل من غيران وسوريا والعراق ومصر وتركيا..”. وهي دعوة نبيلة وجليلة نأمل أن تلقى الآذان الصاغية.. أم أن على قلوب أقفالها؟. لقد صادق الصديقي الخط العربي والمغربي عن وفاء وولاء، وصدقهما الوعد والجهد، وعزف على أوتارهما أجمل السيمفونيات البصرية. له تحية.