“لا أدري من يوجد بداخلي أنا المعذب
فأنا صامت وهو في صراخ وعويل”… مجد الدين سنائي
” ولو أني أستريح لحظة، فإن نفسي لا تستريح
بل إني أستريح، إن لم أسترح لحظة”… جلال الدين الرومي
بينما كانت الإنسانية تودع الألفية الثانية بإقرار إعلان مبادئ حالم بشأن التسامح، كان المحيط الدولي يغلي بتأويل سادي بالغ الفظاظة لمواد الإعلان حتى قبل أن يجف حبرها؛ وعلى أكثر من نطاق اتخذت الميول المصممة نحو نبذ التسامح، أشكالا متطرفة من الانغلاق المتعجرف على الذات، بدا معها البحث عن نجاعة خرقاء في نفي الآخر، الخيار الإنساني الوحيد المتاح لحل النزاعات. وأضحى اختراع التبريرات مقبرة عارية مبهرجة للضمير الإنساني. وظهرت المسافة بين الإنسان وكهفه الأول أقصر من كل وقت مضى. ومن جديد تبددت فرص العثور على وردة جويس الخضراء، في هذا العالم الرحب، وحددت القلوب موضعا وحيدا للبحث.
كان تحول السوق إلى إله، والمنافسة إلى عقيدة من يريد ويستطيع النجاة وحيدا، علامة عدوانية فاقعة في سبيل مقاومة أي شكل من أشكال الوئام، في ظل استشراء قاتل لمشاعر الإحباط ومرارة الإقصاء، الناجم عن تطوير مسعور لصناعة الحدود، وانتصار متعاظم لإرادة العزل والانعزال. وأمام كل صرخة ألم أو احتجاج، وضعت آليات دعاية دوغمائية مصممة لتثبيت صمم كوني غير قابل للعلاج. وسرعان ما ظهر الدين سلاحا في يد الجميع، في ظل فقر روحي من دون ضفاف. وتعززت فرص إخفاء المصالح المادية الأنانية، وتبرير الوسائل الوحشية لحمايتها، تحت أقنعة دموية مهرجة لمجانين يرصعون أكتافهم وصدورهم بالأشلاء الآدمية. خضوعا لسلطان إله السوق، أو ضمن انفلات شهوة القتل من جانب ما سماه نصر حامد أبو زيد بلاهوت التدمير.
في هذا السياق المغذي لأعنف المخاوف، تبدو قراءة مواد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن إعلان المبادئ بشأن التسامح، على ضوء تجربة صوفية كثيفة، لحظة انتشاء إنسانية بصواب الأمل. إذ أمام صور العداء الفظة، وتنامي كراهية الآخر، وتعاظم الخوف من المختلف، يتجدد، تحت أعيننا، ذلك العبور الهادئ للموكب الجنائزي لجلال الدين الرومي، نحو حياته الجديدة بيننا، محفوفا بقلوب مؤمنة بالأديان الثلاثة، وبملل وعقائد شتى، ملتفة حول قصيدة عشق كتب الموت حياتها الأبدية، ضمن أعمق التجارب الشعرية الرائية، التي عبرت الأرواح قبل أن تعبر حدود اللغات والثقافات، مانحة المعنى أبدية الانفتاح والتجدد، صادحة بما لن تتوقف تقاطعاته ولقاءاته: أنا غيري. والحب غيرية. لتستمر الرحلة والسفر والرحيل والهجرة، وهدم الحدود بين القبل والبعد، الهنا والهناك، الباطن والظاهر، الأنا والآخر، النور والظلام…فالحق في التنقل والإقامة وطلب اللجوء، هي لغة العاشق الكوني، ولغته تجربته، وتجربته إنسانية، والإنسان غاية وجوده. ولغة الإعلانين تنتسب على هذا الأفق الكوني، كلغة تروم وضع كرامة الإنسان فوق أي اعتبار أو إكراه. وفي اجتراحه للرقص صنوا للغة في التعبير عن خرق التجربة لكل الحدود، وفي رد المألوف إلى ينابيعه السرية، يرشح الإنسان سيدا للعبور، الإنسان في المطلق، العابر الأبدي ليل صوره وأشكاله، مؤتلفا مختلفا مع قدره ومصيره، مؤولا معيشه كحلم، في عالم لا يحد من سحر أسراره يقين؛ بما أن اليقين شل للحركة، موت مفرغ من أي حياة، وقتل على الهوية بالضرورة. وما هم إن كان القتل ماديا أم رمزيا، نفيا خارج حدود الأنا أم افتراسا واحتواء. يقوم إعلان المبادئ بشأن التسامح، في لحظتي هاته، على إرادة وقف هذه الآلام غير المبررة التي تمزق عالما يستطيع أن يكون شعريا، لا كموطن إقامة عابرة نحو سكن الأعماق فحسب، بل كسبيل جمعي نحو توحيد ينابيع الإلهام، إذ تكتمل النصوص وتنغلق، ويظل الإلهام متجددا بتجدد نبض الإنسان ونفسه، كونيا في هويته المتجددة المتحولة. فالعالم جسد إنساني والكون تجربته، وهو الواحد المتعدد الأبدي، كيف له أن يهدأ أو يستريح، إذا وقف يقين من خارجه حاجزا بينه وبين ذاته، مهما شطت المسافات بين صوره وتجلياته ولغاته.
دفن جلال الدين الرومي عشية غروب شمسين، لكنه كان قد سبق هذا التعبير البديع، الذي دفن ألم الفراق في عبارة تفيض رقة، بالإشارة إلى شمس لا تغرب، تشرق مع صعود كل تجربة عشق تمحو وتصهر كل الثنائيات والحدود يوم ظهر مجلس جديد يدعو فيه مفتي العشق الجميع إلى العزف والسماع.