الفصل العاشر
تخليد الذكرى
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا لما استيقظ سعيد من نومه. نهض مسرعا وتوجه إلى الحمام واغتسل بسرعة وارتدى لباسه منطلقا إلى محطة القطار. كان ينتظره يوم مُتعب وكان مرتبطا في المساء بلقاء في الأتنيو Ateneo (مركز ثقافي ) بمدريد مع بعض الشباب المغاربة الذين كان بعضهم، مثله،لاجئا ومن ضحايا أحداث 84 ، وأحدهم من مدينة الحسيمة. لم يكن سعيد يعرف المجموعة، وكان فرناندو مُنظّم هذا اللقاء.
أمضى سعيد يومه بين كلية الحقوق وقضاء بعض الأغراض الإدارية قبل أن يتوجه إلى موعده في مركز الأتنيو. وصل قبل موعد اللقاء وجلس متلهفا ينتظر المجموعة، كان متلهفا لمعرفة هؤلاء الذين تجمعه بهم أحداث 84، لكنه لا يعرفهم، فحكى له فرناندو أن أحدهم له علاقات مع الحزب الشيوعي الإسباني وأنه سبق له أن التقى بالزعيم التاريخي للشيوعيين الإسبان سانتياغو كاريجو Santiago Carrillo.
جلس سعيد في مائدة ركنية بمقصف المركز تائها في خياله، وعادت به الذاكرة إلى تطوان والرباط واجتماعات الشبيبة الاتحادية (شبيبة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) في الرباط ولقاءات جمعية الإحياء الثقافي بمدينة تطوان وجمعية نيازك مرتيل الشاطئية بقريته مرتيل والتي كان مؤسسها ورئيسها قبل اغترابه.
لم يبرح سعيد خياله حتى قدم له فرناندو شابا بملامح مغربية تبدو على وجهه تجاعيد قوية وعلامات خوف دفين ونظرات فيها ريبة وحذر، وقام سعيد لتحية صديقه فرناندو ومرافقه المغربي الذي عانقه واستقبله بحفاوة. كانت علامات الفرح بادية على سعيد وكان متلهفا لمعرفة الشخص والحديث معه، فتدخل فرناندو مُكسرا لحظات الصمت:
” هذا صلاح الذي حدثتك عنه، وهو طالب في معهد الفنون الجميلة بمدريد”
سأل سعيد صلاحا وهو يصافحه بسرعة:
” لاجئ مثلي لكن من الحسيمة أليس كذلك؟”
قبل أن يرد صلاح على سؤال سعيد تدخل فرناندو مُصححا:
“اللاجئ مثلك ياعزيزي اسمه مصطفى، وسيلتحق بنا بعد قليل، أما هذا فهو صلاح صديقه، وكلاهما من منطقة الريف هذه التي تتحدثون عنها بإعجاب وبأنها مهد الثوار، والمرجو أن لا تتحدثوا بلغة الموروس التي لا أفهمها”
ضحكوا جميعا على تعليق فرناندو ومباشرة انطلق صلاح يسأل سعيدا عن أسماء من تطوان وأخرى من الرباط، وكانا كلاهما متلهفين إلى معرفة كل شيء الواحد عن الآخر.
بدأ سعيد يشعر وكأن صلاحا يستنطقه ويحاول التأكد من هويته، وكان سعيد متلهفا كذلك لمعرفة كل شيء عن صلاح والتأكد من هويته. كلاهما كان يشك في الآخر وينتابه الخوف والحذر من جواسيس النظام ومن متابعتهم له، واستمر حوارهم في شكل أسئلة متبادلة وأجوبة مقتضبة، واكتفى فرناندو بالملاحظة والمتابعة دون أن يتدخل. بينما سعيد وصلاح يتجاذبان الحديث، قفز فرناندو واتجه نحو الباب لاستقبال مصطفى الذي بدا تائها يبحث عن مكان جلوس المجموعة.
وصل فرناندو مصحوبا بمصطفى وربت على كتف سعيد قائلا: “هذا هو مصطفى، إنه ثائر ومجنون وهارب مثلك، ثم قهقه بضحكاته المرحة والمعهودة”.
تقدم مصطفى خجولا ومرتبكا وتبدو عليه، كرضوان، علامات القلق والارتباك على وجه مدور سمين، وجسم بدين ممتلئ، وعينين غائرتين، وشكل يوحي بأكثر من سنه الذي لا يتجاوز 25 سنة.
اغتنم سعيد لحظات تبادل التحية وقفشات فرناندو ليبادر بالسؤال:
“من أي منطقة من الريف تنحدر؟” أجاب مصطفى باقتضاب:
“من الحسيمة”.
أردف سعيد بسرعة:
“لكن الأصل من أين، من أي قبيلة؟”، فأجاب مصطفى وعلامات بعض الانزعاج بادية عليه:
“من بني بوعياش” وأردف صلاح بنبرة قوية وحركات لا تخلو من نخوة مبالغة: “معقل الثوار والنضال والمواجهة مع المخزن(نظام الحكم في المغرب)”.
لم ينتظر سعيد أسئلة مصطفى وانطلق يحكي عن نفسه وعن مدينته، وعن حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان ينتمي إليه، وعن تيار رفاق الشهداء، وعن هروبه وعن نشاطاته: وبدا أحيانا مزهوا وهو يحكي عن نفسه وعن بطولاته وعلاقاته وعن دراسته في كلية الحقوق، ولم يفُته أن يُشير إلى أن الأمير محمدا، ولي عهد الملك الحسن الثاني، كان رفيقا له في الدراسة بكلية الحقوق.
لم يتمالك صلاح وعلق بنبرة لا تخلو من السخرية:
“كنت رفيقا للأمير ولي العهد، والآن هارب هاهاهاها؟”
استمر صلاح في إطلاق المزيد من القهقهات بينما كان مصطفى يتابع حديث سعيد الذي كانت تصدر عنه بعض الحركات التي تنم عن التوجس والشك.
أمسك سعيد بالكرسي وكأنه يريد النهوض، ثم استرسل قائلا:
“ولي العهد الأمير محمد كان رفيقي في الدراسة، وكنت أراه باستمرار في مدرج الكلية فقد كان مواظبا على الدراسة، وأتذكر المجموعة الصغيرة التي كانت ترافقه، لكنني لم أكلمه ولا سبق أن اقتربت منه، باستثناء اليوم الذي استأذنت فيه أستاذ القانون الجنائي في إلقاء كلمة باعتباري ممثلا للنقابة الطلابية الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بكلية الحقوق، وطلبت من الطلبة الانسحاب من المدرج تضامنا مع الشعب الفلسطيني واحتفالا بيوم الأرض، وكان أن تأخر الأمير في الانسحاب، فعاودت كلمتي مؤكدا أن دعوتي للطلبة موجهة إلى الجميع، وأتذكر حينها أنه نظر إلي من أعلى المدرج وأشار إلى مجموعته بالانسحاب”.
وتابع سعيد أنه يتذكر كذلك الرعب الذي أصابه تلك الليلة وكيف أنه لم يذق طعم النوم طوال الليل بعد أن علم أن الشرطة كانت تبحث عنه، وكيف غادر بعدها، وبسرعة، مدينة الرباط في اتجاه تطوان في انتظار أن يهدأ البحث عنه”.
لم يُعقب صلاح على سعيد، وبدا مصطفى وكأنه يتمتع بحكاية سعيد بقدر ما بدا صلاح مرتابا ومتوجسا وفي بعض اللحظات ساخرا، في حين كانت علامات الضجر بادية على فرناندو من حديثنا بالعربية، وكان سعيد يترجم أحيانا، ملخصا بعض الحديث، لإرضاء صديقه اللاتيني.
لاحظ سعيد أن صلاحا ومصطفى كانا يريدان إنهاء كل هذه المقدمات، فلم يتوان عن قطع حكايته وسؤالهما بشكل مفاجيء وبنبرة حاسمة:
” نحن هنا الآن، وبقدرما نغرق في مشاكلنا ونحتاج للمساعدة يجب أن نواصل، من موقعنا، دعمنا لنضالات شعبنا في الداخل، أليس كذلك؟”
لم يتأخر صلاح في الجواب بسؤال آخر: “وما العمل؟ وماذا تقترح؟”
نظر سعيد لفرناندو وقال لرفيقيه: “لنكن كأصدقائنا ضحايا الديكتاتور بينوتشيت، ولنجتمع، بدعم بعض المتضامنين الإسبان، ونؤسس جمعية أو منظمة، تضم المغاربة وغيرهم، يكون دورها الدفاع عن حقوقنا ودعم نضالات الشعب المغربي، والتعريف بخروقات النظام المغربي لحقوق الانسان”.
انتبه فرناندو لاقتراح سعيد وقفز مُشجعا:
“فكرة جيدة، ويمكنكم الاعتماد علينا والاستفادة من تجربة جمعيتنا ومن دعمي الشخصي ـ واسترسل ضاحكا ـ شرط أن لا يكون ماديا”.
وافق صلاح، فورا وبحماس، على اقتراح سعيد، ولكن مصطفى لم يبد مُتحمسا للإعلان عن موافقته. اقترح صلاح اجتماعا لاحقا موسعا ودعوة إخوان آخرين، ادعى أنه يعرفهم جيدا، لمناقشة هذا الموضوع، والتزم فرناندو بالتشاور مع مكتب جمعية “بابلو نيرودا” للاجئي أمريكا اللاتينية لتحتضن هذا الاجتماع، كما اقترح دعوة بعض الإسبان المتضامنين للمشاركة في دعم هذه التجربة.