تتكون مجموعة ” الظل ” ليوسف خليل السباعي من ست وتسعين صفحة من القطع العادي المعمول به كثيرا في الوقت الحالي، والمجموعة ذات طبيعة قصصية تتشكل من واحدة وأربعين قصة، وقد صدرت المجموعة في طبعتها الأولى سنة 2011 عن منار الكتاب بمدينة تطوان.
غلاف المجموعة من تشكيل الفنان ” محمد بوزوباع “، ويبدو أن الغلاف يدل على كائن أو شخص بدون ملامح يرجح أنه ظل يجاهد بكل قواه قصد التخلص من أسر قاهر، ولذلك كان اسم المجموعة منسجما مع صورة الغلاف التي تم اختيارها بعناية واهتمام بالغين، إن الرهان الذي رسمه الكاتب لمجموعته والذي اعتمد على خطاطته لإبداع المجموعة يدل على نوع من التناسق بين عنوان المجموعة ونصوصها، انطلاقا من قدرة النصوص على الجمع بين كثير من اللحظات المنفلتة التي تؤرخ فعلا لحقيقة الحياة العادية للكائن الإنساني ضمن خارطة أرضية اختارها أو فرضت عليه، وقد كان الظل عاملا ناظما لكثير من العناصر والشخوص والمكونات والأحداث التي وردت في المجموعة.
توصف الكتابة الإبداعية الحقيقية التي تفلح في إبهار قرائها بأنها كتابة قادرة على اختزال المواضيع ذات الأهمية البارزة جدا في الحياة الإنسانية، إنها الكتابة التي تتخذ مواضيعها من العلاقات الإنسانية ذات الدلالات الحاسمة، إنها الكتابة التي تتشكل عظمتها وقيمتها من التأريخ للإنشغال بالملهاة أو بالمأساة الإنسانية، بمعنى تلك الكتابة التي تهتم بالحياة والموت، بالحب والكره، بالمد والجزر في العلاقات الإنسانية، بالنجاح والفشل، وهي مواضيع نجد صداها يتردد بقوة في مجموعة يوسف خليل السباعي ” الظل “، يقول السارد: ” كانت تعجبني الحكايات التي كان يرويها لي.. حكايات عن الحب والموت.. حكايات عن بلدنا.. ص.47″. لقد استهل الكاتب مجموعته بالقصة القصيرة جدا ” الظل ” وهي التي استعار عنوانها لكي يكون مؤطرا للمجموعة بكاملها، هناك من يعتقد بأن الأمر سهل للغاية، فما علينا إلا أن ننتقل من داخل المجموعة إلى خارجها أو العكس وينتهي الأمر، بمعنى نقل اسم قصة داخل المجموعة وإثباته في غلافها وينتهي المجهود، إن من يعتقد بهذه السهولة يعتبر واهما، بحيث لا يمكن التحول من موقع إلى موقع دون التضحية ببعض الإمكانات، واكتساب أخرى في نفس الوقت، لأن في التحول كثيرا من المخاطر والمزالق التي يمكن أن تؤثر على العمل برمته، ولذلك أعتقد بأن لهذا الاختيار ما يبرره، لقد كان اسم المجموعة دالا وبقوة على كثير من السياقات الدلالية والمتواليات السردية التي وردت وتكررت في كثير من قصص المجموعة، الكاتب هو نفسه ورد في قصص المجموعة، إن الظل الذي عمل الكاتب على تشييد مجموعته على هديه يعتبر واحدا من أهم المفاهيم الفكرية والفلسفية التي بني عليها صرح الفكر الإنساني، حيث عادة توصف الميثولوجيا اليونانية الإغريقية بأنها واضحة وتنويرية وفيها يتحدد المستقبل ويتطور ضمن الأبخرة والشقوق التي تعلو ظلال كهوف جبال ” أوليمبيا ” الشامخة المترعة بالرموز الموحية، يقول السارد: ” تأملها ومشى.. رافقه سحرها كمثل نجمة تظهر وتختفي ص.40″ تأملوا جيدا في الظل الموحي الذي يرافق حتما النجمة ضمن هذا التشبيه الجميل الوارد في النص والذي يتيح لنا إمكانية الحديث عن تاريخ الظلال على اعتبار أن الأصل الأول للظل هو نجم حير الجميع وانعكس ظله على الطبيعة حيث وجدت الفلسفة ملقية بأشرعتها وفق رؤية فاحصة دقيقة، ولهذا شيد الفيلسوف اليوناني ” أفلاطون ” صرحه النظري الفكري الشامخ على مفاهيم الحقائق والظلال، مفاهيم الأصول والنسخ، إن الظلال هي في حقيقتها انعكاس للحقائق التي منحتها الحق في الظهور والبروز والمساهمة في بناء الفكر الإنساني، مفهوم النسخة هو الذي يمنح الحياة للأصل، لا يمكن للأصل أن يستمر ويحيا ويزدهر ويتطور إلا بواسطة النسخ، فهي وحدها الكفيلة بصنع تاريخه وضمان استمراره وديمومته بأشكال متعددة ومختلفة، لا يهم أن تختلف النسخ وتتغير وتتطور ما دامت وظيفتها هي الحفاظ على أزلية وسرمدية الأصول، ولذلك كانت الظلال هي سيدة الفكر ومشيدة الإبداع باعتبارها ربيبة للنسخ في بعدها الأنطولوجي، لعبة الظلال هي ربيبة الحقيقة التي تكمن بين الأصول والنسخ، والإمساك بخيوط هذه السيرورة الأزلية غير مسعف للجميع، وتبقى محاولة يوسف خليل السباعي جديرة بالتقدير والاحترام، يقول السارد: ” أسرتها أرغمتها على الزواج منه، ولم يكن بمقدورها أن ترفض… كانت تذهب بخيالها إلى اللحظات الممتعة التي قضتها مع حبيبها رشدي في أمكنة مختلفة من المدينة ص.41″، لنلاحظ الفرق بين الأصل والنسخة بين الحبيب والزوج.
قبل أن يشيد الكاتب ظلاله التي وزعها على كثير من الموضوعات داخل دهاليز المجموعة كان لزاما عليه لكي يفهم المسار جيدا أن يذوب بدوره في عناصرها، ولذلك كان الكاتب هو أحد شخصياته غير المرئية، وهو أمر غير مألوف في مجال الإبداع القصصي، يقول السارد: ” يريد أن يقبض ظله، يحاول أن يدوسه بحذائه اللامع وهو يفر منه ويختفي ص.5″، لماذا يفر هذا الظل ويختفي؟ لأنه في الحقيقة يمثل امتدادا لصاحبه، ولا يمكن الإمساك بالامتداد وإلا قضي على الأصل وفقدت جميع النسخ، فالقدر هو أن تعيش ظلك لأن عالما بلا ظلال هو أصلا عالم غير حقيقي، فعندما تتطلع إلى ظلالك المختلفة تتأمل ذاتك وتتطلع إلى سبر أغوارها لكي تثبت أهميتها وجدواها، يقول السارد: ” فتاة بسيطة، وغير معقدة وبقلب كبير.. هكذا كان يصفها أصدقاؤها وصديقاتها، وما ينطوي عليه قلبها ينطق به لسانها ص.69″، ولكن المشكل يكمن في المجموعة في مفهوم الظل الذي يؤطرها والذي يحتاج إلى حركة مستمرة لكي يستمر هو كذلك ويعيش، ” آن ماري بسكولي” واحدة من الراقصات العالميات والمساهمات البارعات في تصميم الرقصات في مدينة ” غرونوبل ” الفرنسية تؤكد على أن الظل لا يمكن أن يعيش إلا في إطار الحركة، حيث الرقصة الموفقة البارعة هي التي تتشكل من مجموعة من الحركات المتناسقة التي تمت عملية إنجازها ليس فقط بواسطة الجسد بل وكذلك وهذا هو المهم بواسطة حركة الظل، ظل الجسد هو الذي يمنح الامتداد والاستمرارية، وقد حاول الكاتب في مجموعته من خلال توظيفه لضميري الغائب والمتكلم عبر سارده من تسطير هذه المعطيات التي أشرنا إليها، لقد تحدث عن الظل بصيغة مباشرة في القصة الأولى، ثم بعد أن غيبه لفظيا استحضره مفهوما ضمنيا في ثنايا جل النصوص الأخرى ثم عاد إليه بصيغته اللفظية المصرح بها في صفحة.81 عبر قصة ” الشاعر ” حيث يقول السارد: ” تابعت طريقي والشاعر يتبعني كظلي لا يريد شيئا “.
لقد عملت هذه المجموعة على إثارة نقاش هام يرتبط بمفهوم القصة القصيرة جدا، حيث نجد أن النصوص التي أوردها الكاتب تتراوح في حجمها بين القصة القصيرة جدا حقيقة، وبين نصوص يصل حجمها إلى حجم القصة القصيرة العادية التي اعتادها المهتمون بالفن الإبداعي القصصي مثل قصة ” رياض بلانكو ص.62″، ويشير الكاتب إلى أنه اختار لمجموعته أن تكون من صنف القصة القصيرة جدا، وهو اختيار يظل مرتبطا بطبيعة النقاش النظري الذي يحاول النقاد والمهتمون جاهدين حسمه من خلال تقنين حجم هذا النوع من الإبداع، ولا يعدو الأمر في الوقت الحالي رغم اختلاف النقاد والمهتمين أن يكون نقاشا حول الحجم، بمعنى أن مسألة الحسم في الحجم تعتبر حيوية وضرورية حتى لا يتم التداخل بين أنواع القصة، وحتى تستقل القصة القصيرة جدا بأطرها النظرية وتتميز عن باقي أنواع الإبداع القصصي الأخرى، ولذلك فإن مجموعة ” الظل ” بهذه الرغبة في التجنيس تتضمن قصصا قصيرة جدا وأخرى قصصا قصيرة بدون جدا، وإلا فإننا سوف نلج رهانا تجريبيا جديدا سوف يزيد من تعقيد الأمور علينا ويجعلنا نجري في لهاث دائم من أجل إنتاج قواعد نظرية باستمرار لإسناد ودعم قراءاتنا المتجددة للنصوص الإبداعية العصية على التجنيس. عندما يختار يوسف خليل السباعي لمجموعته قدر القصة القصيرة جدا فهذا يعني أنه سوف يحاول ويبذل جهده من أجل تبني أهم القواعد المشيدة لدعائم القصة القصيرة جدا، وهي قواعد كثيرة وتحتاج لتتبعها ضمن المجموعة إلى بحث متكامل، ونحن لا نقلل من أهمية أن يترك المبدع لنفسه مجالا واسعا من الحرية لكي يبدع فعلا في إنتاجه، لأن الالتزام الدقيق بالقواعد قد يخل برهان الإبداع، ولكن يظل مشكل القصة القصيرة جدا يفرض نفسه بناء على الحاجة الملحة لتقنين صيغ إبداعها وإلا سوف يصبح الزمام منفلتا، وتفقد الكتابة الإبداعية ألقها وقوتها. إن المفاهيم التي تؤطر القصة القصيرة جدا تتعدد حسب طبيعة النصوص التي ينتجها المهتمون والمولعون، فمفهوم الاختصار عادة ما يميز هذا الإبداع وذلك في مقابل مفاهيم الإطناب والإسهاب والحشو، و نجد امتداد هذا المفهوم مجسدا في صيغة التكثيف الدلالي وهو شائع بكثرة تبعا للتطور الحضاري وتسارع وتيرة الحياة التي بدأت تتطلب وجبات صحفية وإبداعية سريعة في تقبلها، و تكون قابلة للهضم بسرعة، والأمر هنا يعود إلى الحجم، بحيث نجد صدى المفهوم لدى الكاتب في القصة الأولى ” الظل ص.5 “، ثم يبرز مفهوم آخر لا يقل أهمية عن السابق وهو مفهوم التقطير ويتجلى امتداده في ثقافة الحذف، بمعنى أن المبدع يعمل على تقديم المادة الإبداعية بعد تشذيبها وتهذيبها من كل الزوائد المخلة بالمقصود، إذ المطلوب هو الدخول في الموضوع مباشرة بدون مقدمات، انظر هنا لدى الكاتب قصة ” سمكة الشابل ص.26 “، ويرتبط مفهوم الاختزال بالمفهوم السابق رغم وجود بعض الاختلافات بينهما، ويمكننا أن نمثل له لدى الكاتب بقصة ” الحية ص.7″، ثم مفهوم الإيماض وامتداده في التكثيف البنائي حيث يمدك المبدع بفكرة عامة ضمن نص قصير وعليك أن تشيد بنفسك النص من جديد، وكمثال على هذا المفهوم انظر قصة ” مارينا براسكيفا ص.8″، إن هذه المفاهيم ليست جديدة بالنسبة لبناء قواعد القصة القصيرة جدا وإنما تمت عملية تشييدها انطلاقا من مكونات نظرية التلقي وخصوصا لدى ” ياوس “، وطبعا لا يمكننا أن نستقصي جميع القواعد والأطر النظرية للقصة القصيرة جدا ضمن المجموعة الإبداعية التي بين أيدينا، ولكننا نؤكد على أهمية معرفة وإدراك المبدع لهذه القواعد من أجل القيام بإنتاج إبداع يستطيع العارفون والمهتمون والنقاد تجنيسه بوضوح.
لقد قام يوسف خليل السباعي في مجموعته بإبداع شخصيات قصصية فنية تحمل هموما حياتية بسيطة وعادية ولكنها عميقة في دلالتها وعنفوانها، وهي شخصيات تلقي بأحلامها رغم أنها مؤجلة أمام كل من يبدي اهتماما أو تفاعلا، وتبقى تلك الأحلام مرهونة بمصيرها وكينونتها وأسرها، تحتاج إلى من يستعيدها ضمن واقعها العصي والمتمنع، لأن إمكانية الواقع في التحقق لا تتبلور إلا بعيدا عن الهذيان وبمعزل عن النزوات، يقول السارد: ” تخيلت نفسي أحلم، ولكنني لم أكن بياع أحلام، أحلم حقيقة بأشباح تتحرك نحو المدينة ص.53″، بقي أن نشير إلى أن الحدث القصصي يحتاج إلى مزيد من الوضوح والبروز ضمن نصوص المجموعة بمعنى أن الحكاية بالمعنى الإبداعي والفني كانت تغيب أحيانا عن النصوص، ويعود الأمر إلى قيام الكاتب باختزال الحدث القصصي بعدم تحقيق التركيز المكاني والزماني اللازمين لتأكيد فنية العمل، بالإضافة إلى ضرورة تحقيق الانسجام والتناغم عن طريق إيلاء العناية الكافية للاستهلال ونهاية القصة، ومع ذلك تظل هذه المجموعة مثيرة للاهتمام لكونها عملت على فتح مجموعة من الأقواس المهمة ذات العلاقة بالواقع المعيش من خلال توظيف الذات البشرية عبر تفكيك مكوناتها وإعمال التفاعل بينها، ثم لا يجب أن ننسى أن المبدع في نصوصه كان شديد الانفتاح ثقافيا بعدم تقمصه لدور البطريرك، حيث كان يتحدث في نصوصه عن الضفتين انطلاقا من تطوان وصولا إلى ربوع إسبانيا بطلاقة وحرية وكأنه يحاول إيهامنا أو إقناعنا بأن التعايش محتوم ولا مهرب منه بين الجارين التاريخيين، وأخيرا نقول بأن المبدع يوسف خليل السباعي حاول في نصوصه أن يوهمنا بأنه موغل في الفنطازيا، بينما الأصل هو أنه كان مستندا بكل قواه على صلابة الواقع.